السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - ريلكه باحثاً في روندا عن سكينة الروح ومراسلاً شريكات الإلتباس الغرامي

رلى راشد
A+ A-

قرن على ذهاب الشاعر النمسوي راينر ماريا ريلكه الى روندا الإسبانية. مئة عام على تجربة التقرّب من مدينة عريقة، سكنت في هامش الحوادث الآنية المدوّية. وصل ريلكه الى ذلك المكان بارد المشاعر، بناء على نصيحة أصدقاء. لم تكن تعنيه روندا، لكنه لم يلبث أن وجد فيها ملاذا، فصارت احدى أكثر المدن تأثيرا في ابتكاره الجمالي. إبّان اقامته بعث برسائل وكتب قصائد جُمعت أخيرا بين دفتي انطولوجيا بالقشتالية، عنوانها "في روندا. رسائل وقصائد". في وسطها يبحث الشاعر العصيّ على العيش، عن سكينة الروح، في شوارع غريبة.


بين كانون الأول 1912 وشباط 1913، استقر راينر ماريا ريلكه في احد فنادق مدينة روندا في مقاطعة ملقة الإسبانية، الخالي من الرواد تقريبا. تحوّلت المدينة الضائعة في الزمن، المنسيّة كما ينبغي لكل مكان ملهم بالنسبة للشعراء، الى ما يشبه المحطة في طريقه التي اخترقت شرايين أوروبا. لم تشكل الاقامة وقفة جغرافية فحسب وإنما فكرية أيضا افاد منها لينصرف الى التفكير ويستلهم الكثير. احتضنت روندا شيئا من عبقرية لم يتأخر الشاعر ليعرفها من كثب، كما تبيّن المختارات الصادرة أخيرا لدى دار "بري تيكستوس". يجمع الكتاب القصائد والنصوص والرسائل التي أنجزها ريلكه بدفع من المكان، ويسمح بقراءة جليّة لتلك المرحلة، ويأتي بنظرة خاصة على حياة ريلكه وإرثه، في حين أن الصور التي ترافق الأنطولوجيا تساعد على إعادة احياء البيئة التي يسّرت ولادة النصوص.
كانت روندا الأندلسيّة مدينة ساحرة وعتيقة ومعذّبة وقلقة وغير مطمئنة أيضا، حيث كتّاب يجهلهم ريلكه ومثقفون لا يعنون له شيئاً، وشعراء من عصر ذهبي لم يسبق أن سمع بهم. تصير مناسبة الإقامة العفوية إذاً فرصة للإكتشاف. في روندا لا يمكن الشاعر الإتكاء على شهرة سابقة أو الإعتماد على مجد منصرم. لم يكن متوفرا سوى ما سيأتي.
جمع البروفسور انطوني ستيفينز المتخصص في إرث ريلكه في جامعة سيدني، محتوى الطبعة وراجعها. والحال انها تحيي مكوث ريلكه "المنتج" في روندا حيث تتراءى تجربة المشهد الطبيعي محورية ولاسيما في بعض أبرز قصائد تلك الفترة. بيد ان هذه القصائد تبدو أكثر صلة بموضوعاتها، عندما تُقرأ في مسقطها. ذلك ان الجبال التي تزنّر المشاهدات هناك، تطالع كأنها كُتُب، وتُسمَع كأنها أناشيد. يمكن تأويل طبيعة روندا من دون جهد إذاً، لتتبين باعثة للحلم.
في ذكرى مئوية إقامة الشاعر النمسوي في المدينة المشبعة تاريخاً والمطلة على المستقبل والمحرومة منه للمفارقة، نجاور شاعراً احترف نسخ اضطراباته العصبية كتابةً. في روندا، كان في وسع ريلكه ان يضع سقفاً لأزمته النفسانية التي شغلته في تلك الحقبة، في أعقاب إنهاء روايته "دفاتر مالت لوريدز بريج" في مطلع 1910. جثم آنذاك عبء على صدره كأنه قدر لا مفرّ منه، ولم يكن يدرك أي اتجاه سيأخذ نصه وحياته. حلّت نصوصه تنويعات على خيط القلق، بينما تاق الى إيجاد "مكان خارج على الدنيا" فصارت روندا ضالّته، ذريعته لمحاذاة السعادة والأمل. الأمل أمنية لم يتعلق تحقيقها به، أما السعادة في منطق أبيقور فطاردها ريلكه واستسلم إليها أحيانا، في بعض رسائل المختارات. حاول ريلكه إحياء الأمل ولم يلبث أن سعى الى المحافظة عليه متقدا. حضنه في حماسة ابتكارية، وبلغه من طريق الطبيعة، وأبرزه في تبادل الرسائل مع الأصدقاء من الحلقة القريبة، ومع الصديقات الشريكات في الإلتباس الغرامي.
خلال مكوثه الإسباني، طبعته مدينتا طليطلة وروندا، غير ان أثر روندا كان أكثر عمقا، لأنه وجد في وسطها أفضل فرصة لإشغال شخصية الشاعر المعقدة. أبرزت القصائد شموعه المضيئة وابتهالاته وشجراته المزهرة وجسوره السحرية ووحدته ونجومه الموقتة وإحالاته الغامضة. في الأنطولوجيا لا تتأخر انطباعات ريلكه في أن تثمر أحيانا، على خلاف ما اعتدنا عليه. تأتي المختارات بتجربة شاعرية تجاري نقاء البيئة الحاضنة. كان أحد تناقضات ريلكه، وفق ستيفنز، اقتناعه بأنه يحتاج مناخاً مثالياً للكتابة، لكنه كان للمفارقة أكثر خصبا، في الأماكن غير المهيأة، وعلى نقيض جميع الإحتمالات. بعد قرطبة واشبيلية، وصل ريلكه على نحو عرضي الى روندا، مكان خام يحتاج الى وصف. كانت اللحظة الاولى في تبديل ستعرفه تجربته. والحال انه يمكن بسهولة ادراك هذا التطور في منحاه الشعري. رسم روندا "إحدى اكثر المدن الإسبانية قدما وروعة" التي تمتعت، كما وصفها ريلكه، بجو طاغ ورائع في آن واحد.
دخل ريلكه مطرحاً نقيّاً لم يألفه، فكان سهلاً أن يشكّله، ليتشكّل هو أيضا على السواء. كانت روندا في المخيلة قماشة بيضاء، انصرف ريلكه الى منحها الألوان، من طريق قصائد، بينها "ثلاثية إسبانية" و"المرثية السادسة". خلال أسابيع الإقامة في المكان، أوكل ريلكه بما يشبه المهمة الغنائية على مستوى الشعري. في حين راسل الأسماء المعتادة، من مثل ناشره انطون كيبينبرغ والكاتبة انيت كولب والبارونة سيدوني مادهيرني وآخرين. والحال ان ريلكه الشاعر المفتقر للخبرة في شؤون الحياة العمليّة والمحتاج إلى الحماية، لم يعقد علاقات انسانية أساسية في روندا. الى جانب رواية يوميات الإقامة في روندا كما في طليطلة، كان ثمة ثيمات معتادة في جميع الرسائل، كما لو أنه كان يمكن أن يكون مصدرها أي مكان آخر. ها هنا حديث عن الوحدة والإنهماك بالكمال الشعري والشح الإبتكاري الفتّاك والقراءات، وتطلّعٌ الى مستقبل أكثر أمانا، فضلاً عن هجس ريلكه بصحته الهزيلة كأنه مريض موليير الوهمي. لا اهمية إذا تكررت بعض الأفكار في الرسائل ولاسيما مسألة خيبة ريلكه في إشبيلية، ذلك أن الأهمّ يظل سحر نثره حيث تحضر عند كل منعطف، صورة جديدة.
أقامت روندا خارج التاريخ بعدما ظلّت نواته لأعوام، وبفضل ريلكه عادت إليه. تقول الأنطولوجيا ان كل ما رآه ريلكه في روندا ولمسه صار عفويا، شعرا.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم