الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

إيليا وأنطونيو لم يفرّقهما الموت وحنّا ومنى مدرسة الحب والصبر

إيلده الغصين
إيليا وأنطونيو لم يفرّقهما الموت وحنّا ومنى مدرسة الحب والصبر
إيليا وأنطونيو لم يفرّقهما الموت وحنّا ومنى مدرسة الحب والصبر
A+ A-

لم تودِ صورة "سيلفي" بحياة إيليا (15 عاماً) وأنطونيو اسكندر (14 عاماً)، بل إنه الحب حتى الموت وبذل النفس من أجل الآخر. كان هاتف إيليا في جيبه عندما انتشل الأخوان من بركة بتدعي الاصطناعية لتجميع مياه الري، في منطقة دير الأحمر، وبدت يداهما متماسكتين. كان هاتف أنطونيو الجديد، هدية نجاحه في شهادة البريفيه بتقدير جيّد، في المنزل على الشاحن، ولم يستخدمه بعد. زنبقتان بوجهين أبيضين جميلين، مهذّبان أنيقان، بذكاء متوقّد وتفوّق لافت من دون انكباب على الدرس. يحبّان مشاهدة الأفلام والخروج للمشي يومياً. بعد ظهر يوم الجمعة في الأوّل من تموز خرجا في نزهتما المعتادة، لكنهما عرّجا على البركة من دون علم أهلهما، لأنها مكان هادئ للاستجمام والتأمل، وتأخّرا في العودة على غير عادتهما. بدأت درب جلجلة الأهل في البحث عنهما. اعتقدوا ان الخطف في بلد متفلّت وصل ببراثنه اليهما، لكن هذه الفرضية نفتها الأجهزة الأمنية والحزبية.
سرعان ما قصد شبّان المنطقة الأمكنة التي يمكن الشابين زيارتها، وصلوا مسرعين قرابة الـ11 ليلا الى بركة بتدعي المتاخمة لحي بيت اسكندر حيث تقطن العائلة، فوجدوا آثاراً لانزلاق محتمل. بلّغوا الأجهزة المعنيّة كافة وفرق الإنقاذ والأهالي فهرعوا إلى المكان. بركة مسيّجة تحاول بلدية بتدعي جاهدة إقفالها أمام من يقصدونها للسباحة ممزّقين سياجها العالي، مكلّفة ناطوراً مراقبتها. إيليا وأنطونيو لا يسبحان ولم يقصدا البركة للسباحة، لكن فتحة في السياج جعلتهما يقتربان إلى داخل البركة. أغلب الظنّ أن أحدهما زلّت قدمه فسقط وحاول الآخر إنقاذه. في البقاع الشمالي مراكز دفاع مدني غير جاهزة لعمليات إنقاذ مماثلة، وفي الحدث الجلل إنذار فوري لتأهيل مركز الدفاع المدني في دير الأحمر وإنشاء مركز للصليب الأحمر فيها. لطفت العناية الإلهية فصدف وجود فريق الإنقاذ البحري في الدفاع المدني بقيادة سمير يزبك في مدينة زحلة - التي تبعد أكثر من ساعة عن المنطقة - ليصل عند الأولى بعد منتصف الليل. فتيان لم يفترقا يوماً والموت أيضاً لم يفرّق بينهما.
لم يخترق سيف الألم قلب الوالدين منى وحنا فقط، المربيّين في ثانوية دير الأحمر الرسمية، بل قلوب سكان المنطقة جميعاً الذين هالتهم الصدمة. حنا اسكندر استاذ الفيزياء بذكاء قلّ نظيره هو مثال يحتذى في الضمير والمهنيّة والإلمام الواسع بمادته. منى غانم استاذة الفلسفة كتلة من الإنسانية والهدوء، لا تفارق وجهها بسمة رقيقة. أستاذان يُضرب فيهما المثل في التربية الصالحة، والعمل لأجل رفع شأن التعليم الرسمي، عاشا لأجل عائلة الأربعة أولاد، فربّياها بالحكمة والقامة والنعمة. لهما غير أنطونيو وإيليا فتاتان. ماريا طالبة كلية الصحة وريتا طالبة الهندسة المدنيّة في كلية الهندسة بالجامعة اللبنانية، وقفتا كجبلين أمام الزلزال الذي ألمّ بالعائلة، حاولتا الصمود واحتضان الأهل. عائلة متماسكة أرادها القدر أن تصير مدرسة في الحياة والموت والحب والتضحية.
لمّا عاد الوالدان من المستشفى فجر السبت لم يدخلا منزلهما، بل كنيسة مار الياس التي شيّدها الجد سالم اسكندر قرب المنزل. بقيا حتى ساعات الصباح فيها يخاطبان يسوع والعذراء مريم وإيليا النبي ويسألاهم من سيحمل المبخرة بعد اليوم ويتلو المسبحة معهما. كم مؤلم أن ترى والداً يغازل خصلة ابنه أنطونيو الشقراء التي ميّزته دوماً، أو يحاكي محيّا إيليا الرجولي وعينيه السوداوين. والد لم يفارق ولديه وكان ظلاً لهما، يخاف عليهما حتى الهوس من لسعة شمس أو نسمة هواء، فكيف للماء أن يبلّلهما ويبرّد قدميهما؟ ووالدة انتظرت ترفّع إيليا في العام الدراسي المقبل إلى صف البكالوريا-علمي لتدرّسه للمرة الأولى في الصف.
كان الوداع ملائكياً يوم السبت. حتى حجارة الكنيسة التي رصفها وصقلها جدّهما سالم بكت الفقيدين. حنا الذي أثقل منكبيه صليب الألم، حمل صليب المسيح بين يده طوال الوقت وانتظر وحيديه مردّداً "ما حدا يقوّص، ما حدا يقوّص بين الناس".


[email protected]
Twitter: @ildaghssain

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم