الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"ألواح" رشيد الضعيف: سيرة الساحر في حضوره وغربته

عبيدو باشا
"ألواح" رشيد الضعيف: سيرة الساحر في حضوره وغربته
"ألواح" رشيد الضعيف: سيرة الساحر في حضوره وغربته
A+ A-


لم يعد رشيد الضعيف صاحب رغبة بالشعر، إذ راح يراسل الرواية حتى حملته إلى بيتها ذي العينين الواسعتين. بـ"ألواح" (دار الساقي، 2016)، آخر رواياته، يترك الضعيف الإيديولوجيا الفقيرة الحضور، بل هو يعدمها حضورها، بحيث لا يجد أحدٌ إنعكاساتها في أسباب الكتابة ونتائجها. ترقص الرواية على جثة ما لم يعد يُصرَّف عند الروائي، لا في الحاضر ولا في الماضي. تصفية الحساب مع الذاكرة "النضالية" لرشيد الضعيف، تصفية حساب فنية. وداع "العذبة"، حامية "المحزونين"، أحد محاور كتابة الرواية.


يبدأ الفكر عند الضعيف عندما نمتلك القدرة على الضحك والحزن والحياة، بدون حيل التأطير. يكتب روايته ببهجات الكتابة. لا يقيمها على القضايا ولا يهاجم القضايا. يروي كمن يبصر. تتدفق الرواية كما يفعل الضوء، في كتابة سيرة عائلة، هي عائلة الروائي، بمستويات متحققة لا افتراضية. عائلة واضحة حد القطع بوضوحها. عائلة من الشمال اللبناني، يبحث والدها عن الخبز لأطفاله، في حين تقاتل الأم البؤس بصوره المتعددة، وبحنانها الجارف الذي هو هديتها المستمرة لأولاد وفتاة واحدة.
لا يخترع رشيد الضعيف روايته. لأنها جزؤه، لا اختراعه. هي رواية حاجة ورواية عالم من عوالم الإنتاج. يكشف في "ألواح" كل أسراره الإنطوائية، لأن عائلة تفقد ربها إثر فقدان بكرها لقدمه، ليست عائلة خرافية. هذه عائلة الروائي، لا عائلة استعارها من خارج الزمن، لكي يُعَّمر بها زمن الرواية. لا قناع. كل ما هو مروي معيش بطريقة بسيطة، يقولبها الروائي ببساطة، لا بتبسيط. يكتب رشيد الضعيف على طريقة المدونة في "ألواح". المدونة ملح كتابته، لذا لا تتصلب اللغة ولا تتشوه الحياة، إلا حين تتصلب الأولى وتتشوه الثانية خارج الإفتراض. مدونة أقرب إلى مدونة أبقراط، حيث يتجمع فيزيولوجيون، يتقاسمون بصورة غير متوقعة، القناعات المعيشة؛ الطفولة أولاً، ثم المراهقة والشباب والكِبر. لا شيء محترماً عند الروائي. كل شيء مهدد، لأن الحياة هددته باستمرار على أرض التاريخ. لن يسخر من العائلة، إلا عبر السخرية من إسمها. لن يسخر إلا من ذاته، حين يتصل بالطرق، لكي يصير المرء آخر. عندها، يصير الضعيف هو "الآخر". يسخر إلى حد التهكم في الفصول الأخيرة، بدمجه أوضاع الآخرين بوضعه، وخصوصاً حكايته مع صديقته أو عشيقته، أو امرأته المفترضة. إذاك يضحي عدماً، وهو يلاحق صورته في مراياه وفي مرايا الآخرين. عربي يحب أجنبية في باريس، يلحق بها إلى الولايات المتحدة الأميركية، بدون امتلاك القدرة على إخضاعها للقوانين الشرقية. هذه هي المفارقة التاريخية المستمرة بين ثقافتين، وطريقتين مختلفتين في العيش. لا يبدو الرجل موهوباً، حتى يقولب وضعه، بحيث يستطيع إلغاء الإختلاف الثقافي والإجتماعي، بين شرقي وغربية. لن يجرؤ على سؤالها عن "آخر" في حياتها. شكه يلاقيه. إلا أن الغياب، يبقى تصوراً لا أكثر.
لا يؤلف رشيد الضعيف الحكايات عن الآخر، لأنه لا يؤلف سوى حكاياته. لا وجه للإفتراض مع المعادلة هذه. الكلام على الذات لا يقع في خانة البوح فحسب، بل في إعادة خلق الذات وتطهيرها من الخوف، أو الذعر. وإذ يكتب جزءاً من سيرته، يضع نفسه على مستوى الصيرورة من جديد، بدون تعميم، حيث للتعميم أخطاؤه الأكيدة. لا تخطئ "ألواح" حركتها هنا، ذلك أنها لا تبحث عن إرادة الكتابة الطيبة، بقدر ما تضع الأشياء الأكيدة في موضع التساؤل، بعيداً من علمي الأخلاق واللاهوت. لا سذاجة مع رشيد الضعيف، لأن جوهر الذات في "ألواح"، هو في تحقيق إنتاجها. كل الحوادث الطيبة هنا، والكوارث المتأصلة بالتاريخ. حوادث تعدم وأخرى تحلق معمرةً محارق المبتذلات، بعيداً من الفنون المنحلة. ذوات في حياة اجتماعية، تقف ضد ذوات في ساحات الإستعباد. الأب يستعبد الأم. العشيقة تستعبد الروائي. زوجة العم تستعبد العائلة. المدن تستعبد الريفيين. لا أخوية بين مدينة ورجل ريفي. علاقة المدينة بالريفي علاقة مدركة وغير مفهومة. لا حدود في "ألواح" إلا حدود اللوح، وهذا موروث دلالي لا يسمح بتأسيس علاقات جديدة في الرواية. ألواح في فضاء تتجاوز نظام اللغة القديم. لغة مغايرة تبتكر عالماً ليس مجرداً. هو عالم من التفاصيل، يروي السقوط ولحظات الإنهيار الشامل. لن يصارع الضعيف طواحين الهواء. ذلك أن واحدة من فضائل الرواية، فضيلة حضور العالم الحي في الرواية. لا صعلكة حين تذهب الرواية إلى العمق وتتذوقه، حيث بنى عميقة للحساسية الجديدة. هنا الإبداع بالتلويح، أي بالكتابة عبر اللوح المحدود. وهذا يفترض ضغط السوسيولوجيا المحلية على اللغة. اللغة لغة حفر عند الضعيف. كتابته هي برأس المسمار في المدونة الحياتية هذه، حتى الوصول إلى مرحلة صنم العقل الإجتماعي في العلاقة بالآخر. المدهش، هو استعمال كل البنى في الفصل الأخير؛ الخطيئة والنبوءة وقيم الإخضاع المتبادلة ودوائر القيم. هنا، يحمي الرجل وجهه، من الطبائع العربية الكثيرة فيه، بطهارة النفس، بملاحظة أو بتأكيد أن الحرب لعبت أدوارها الحاسمة، بالحياة البشرية في غرفة واحدة، بين غرفتين، بين شارعين، بين حيين، بين بلدين وأكثر.
يراسل رشيد الضعيف نفسه في الفصل الأخير، وهو الفصل الأطول. الحرب فيه، غسق كلامه. لم يستطع التواصل مع عشيقته بسبب موت وسائل الإتصال البدائية في تلك المرحلة من القرن الماضي. حملت الفرنسية المقيمة في أميركا من الراوي. لم تستطع الإجهاض، حيث الإجهاض قرار مركزي من شخصين. ذاكرة الروائي، فيها الكثير من مكر التاريخ ومفاجآته واختراقاته. خروج من رماد الحرب إلى نار الكتابة. لا يسدل الرجل ستاراً على شيء، لكي لا يبقى مرتهناً له. إنه السفر في متاهة العالم القديم، على طرق العالم الجديد. نوع من كاترسيس، يرمي الضوء على أجزاء العالم المعتم. ضوء المعنى على جسد العالم المعتم. مسح الطاولة بعد غداء أو عشاء دسم. تمزيق الشرانق، على أصداء الحنق مما أهدر عمراً. خروج من لحظات الإنهيار الشامل بخلق الحياة الماضية من جديد.
يعكف الضعيف على الإعتصام بالحرب، حتى يكتب حياته الجديدة. لا عبر هنا. لأن الحرب سؤال لا جواب. دال بلا مدلول. غير أن الراوي، باشتغاله على اللغة وبتنظيفها من ذاكرتها، يؤكد علو قدره، بامتلاكه القدرة على النقد التفكيكي، حيث ينتصر المعقول على المعقول. هذا هو رشيد الضعيف كله. معقول ضد اللامعقول، بدون إغفال الأدوار والعوامل السوسيو/ ثقافية والتاريخية الثقيلة وإكراهات العقل العربي ووعيه الدائم الشقاوة. لا بنية مرجعية في "ألواح"، ليس ثمة تعالٍ لوغوسي، لا استبدادية، ولا عقل فقهي. ثمة قوة راسخة، قوة مدهشة، بالإنطلاق مما سبق في عمليات استشراف المستقبل. بدون انسلاخ عن الحرب، يرسم الضعيف الحرب بالتفاصيل الخاصة بالحرب. ذاكرته وضاءة، تهمهم بأسئلة كل مقموع. الحرب تفاصيل عند الضعيف، فهو يعيد رسمها بالقليل، بحيث تبدو جزءاً من نظام معرفة الذات والبشر والعالم: حال الكهرباء، الماء، الإشتباك، القصف، العلاقات، المؤسسات.
نوستالجيا خائبة في عالم خائب، منذ أكثر من نصف قرن، يقودها الروائي بقدرة عجيبة، بعيداً من التنميط والخدر الإيديولوجي، في مدونة تقترب بروحها من روح كتابات "البيست سيلرز". كتابة سريعة، لا رشيقة، في رحلة تدوين المرحلة. تكثر الأفعال الناقصة في بدايات الجمل، في منتصف الجمل والخواتيم. يحتل فعل "كان" أجزاء واسعة من ثقافة الكتابة القائمة على المسبق والمتعالي. لا كلام مغايراً أمام أشكال العلاقات، غير الآبهة بالغرق في فوضى التشكل. ذلك أن الرواية تتشكل بالعنوان. إنه شكل الرواية. "ألواح"، لوحاً وراء آخر، يتعرى الضعيف، في قطار على سكة، يقوده قمر فوق بحر من رمال. كرة صغيرة تتدحرج، ثم تمسي مدونة تطالب بجثة الروايات القديمة، روايات الكاتب أولاً.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم