الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

يوم برفقة فنّانين أطفال متوحّدين\r\n

إيليان راشد
A+ A-

عشتُ معهم سنين طويلة، رأيتُ بأمّ عيني كم هو صعب التواصل معهم وكم تتطلب رعايتهم وقتاً وصبراً وحباً وعطاءً وجهداً لا يوصف. إنهم المتوحدون، يعيشون في عالمهم الخاص، منهم من لا يعرف الخطر. منهم من يعيش في قوقعة عميقة منزوياً على نفسه، لا يلعب، لا يقبل التغيير في أماكن الأشياء، لا يقبل التواصل أو التكلم أحياناً، يخاف من الأصوات والضوضاء، يخاف حتى من ملامستك له. ومنهم من يكون فائق الحركة، لا يتعب من الدوران أو التسلق أو القفز أو التمايل إلى الأمام وإلى الوراء من دون انقطاع.... تُنهك قواك من جراء الركض وراءه ومحاولة حمايته من الأخطار. أما هو فلا يكل.


تراهم بهذه العين وتخاف فتقول: يا إلهي، كم هي صعبة الحياة معهم. لكنك تقف صامتاً مندهشاً مذهولاً، عندما ترى كيف يعبّرون، وبأيّ إحساس ينقلون إليك مشاعرهم، وكم هم عباقرة ومبدعون أحياناً، وكم هم حسّاسون مرهفون! فما يصلك منهم أعمق من أن تصفه بكلمة. فإذا ما استطعتَ العبور إليهم وكسب ثقتهم وإشعارهم بالأمان والحب والثقة، فتحوا لكَ عالمهم الخاص وتواصلوا معك على طريقتهم، بلفتة، بحركة، بإيماءة، وأحياناً بالرسم.
قررتُ الكتابة عنهم، وخصوصاً أنني علمت أن مؤسسة "سيزوبيل" التي ينتمون إليها تنظّم معرضاً لرسومهم، وأنهم يعملون بجد منذ أشهر مع الرسّام المرهف جوان برّاج لإنجاز لوحات بتقنية عالية.
الجميل في القصة أن جوان برّاج هو أيضاً بعيد عن ضوضائنا وضجيجنا. فقد سمعه منذ عمر السابعة، وعاش في عالم الصمت، لكنه تواصل مع الألوان والأشكال، فأبدع. بدأ الرسم في عمر المراهقة، دخل الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة في جامعة البلمند وحاز ديبلوماً في الفنون الجميلة، ثم سافر إلى جنيف لإكمال علومه في هذا المجال. عرف نجاحاً في كندا وأميركا (فلوريدا) حيث بيعت لوحاته، ثم ذاع صيته في لبنان وفي البلدان العربية. يحبّ الرسم على أنواعه، ويعشق الخطوط العربية والرسم الزيتي.
أما الأطفال والشبان المتوحدون الذين اشرف جوان برّاج على رسومهم، فعددهم أحد عشر، أعمارهم بين 6 سنوات و24 ربيعاً. يتابعون جميعاً برنامجاً متخصصاً في مؤسسة "سيزوبيل" بهدف تعلم الإستقلالية والتواصل، كما بهدف التخفيف من وطأة إعاقتهم ومساعدتهم لاكتشاف طاقاتهم وتنميتها وتأمين انخراطهم في المجتمع. تأخذ المشاغل التعبيرية حيزاً كبيراً في برنامجهم، من أهمّها مشغل الرسم الذي يهدف لمساعدتهم على التعبير عن مكنوناتهم والتواصل مع الآخر من خلال التعامل مع الألوان ومع تقنيات رسم متعددة.
ذهبتُ لتمضية بعض الوقت معهم ولرؤيتهم يعملون عن كثب. قصدتُ مشغلهم الذي يقع في الطبقة الثالثة من المبنى المقابل لمبنى "سيزوبيل" الرئيسي. ولجتُ الدرج نزولاً إلى المصعد، ورأيتهم هناك يتحضرون لرسم لوحة بيضاء اللون كبيرة (أربعة أمتار مربعة) وضعوها في الساحة على الباب الحديد وأسندوها إلى حجرين كبيرين لتجنب ملامستها الأرض. يرتدون جميعاً مراويل فوق ثيابهم ويضعون أكياساً من البلاستيك في أحذيتهم. وسط الساحة طاولة مستطيلة مغلّفة بورق ومليئة بأوعية عليها آثار التلوين، وبريش متعددة الأشكال والأحجام وبأنابيب تلوين. على الأرض غطاء كبير من الورق.
بالقرب من اللوحة البيضاء الكبيرة، لوحة أخرى بالحجم نفسه، كانوا قد رسموها في الأمس، تنظر إليها فتظن أنك أمام لوحة تجريدية لبيكاسو، هي عبارة عن وجوه بأعين وأفواه كبيرة، وعن أشكال متعددة تحدّد معالم اللوحة وتقسّمها بشكل متكامل. لكل قسم لون يتناغم مع اللون الآخر ويتمايز عنه. تقف منجذباً لهذه الوجوه وتلك العيون التي تنطق بألف فكرة. جميلة جدّاً هذه اللوحة بهدوء ألوانها وقوة تعابيرها.
كانوا ثلاثة شبّان يستعدّون للبدء بالرسم؛ وليد وزاهر وكيفن.
رآني وليد قادمة فهرع إليَّ وعانقني. سألته عن اللوحة الكبيرة المرسومة فأجاب: "حلو كتير". ثم توجّه أمامها وصفّق بيديه فرحاً، وصار يمشي هنيهة هنيهة أمام الشخصيات التي تمثلها ويتأملها ويدور حول ذاته تعبيراً عن سروره التام وإعجابه بعمله.
على الطاولة كان الرسّام جوان يمزج بعض الألوان: كثير من الأبيض مع قليل من الأصفر والبني الغامق ونقطة من الأخضر. يضيف القليل من الماء، يحرّك المزيج بقوة ليتحول إلى البيج الجميل. مدرّبة الرسم كارلا، نادت وليد لينضم إلى رفاقه. تناول كلٌّ منهم فرشاة، صعد وليد على كرسي ليطال سفح اللوحة، وبدأوا جميعاً التلوين واضعين لوناً أساسياً موحّداً.
فيما الشبّان يلوّنون، كان جوان يرسم بقلم حبر مربّعات على الورق الذي يغلّف الطاولة، ويقسّمها أشكالاً وخطوطاً كأنه يحاول تحديد معالم اللوحة التي ستُرسم. انتهى الشبّان من التلوين، وضعوا ريشهم وانتظروا كي يجفّ اللون قليلاً.
صعد جوان إلى المشغل لتنظيف الأواني ثم عاد مع مجموعة صور للوحات لفنانين كبار، تأملها وتحدّث مع كارلا عن الخطوات التالية، وعن الألوان التي سيرسم الشبّان بها، وما ستكون اللوحة عليه. اقتربتُ منه ونظرتُ في وجهه كي يستطيع قراءة شفتيَّ. سألته عن موضوع اللوحة. أجاب: لا أقرر سلفاً. أترك الأمر لما يريده الأطفال وما يختارونه من ألوان.
ما هي إلا دقائق حتى بدأت الألوان تتطاير وتتلاحق وتتناغم. جوان وكارلا يخلطان الألوان: الرمادي، البرتقالي، الأصفر، الزهري... والشبان يغمسون الريش فيها ويضعون بقعاً متلاحقة. وليد يرسم في الوسط، كيفن يفرش الألوان فوقه تماماً، زاهر يقف في الجهة المقابلة. الكلّ منهمك، جوان يمسك بيد كلٍّ منهم ويدلّهم كيف يستخدمون الريشة، وكيف يجب أن تتلاحق البقع الواحدة تلو الأخرى. زاهر يغافل الجميع ويخلط ألواناً ويروح بدوره يرسم بقعاً متلاحقة. الحماسة بادية على الجميع. يمرّ مربّون بقربهم، يقفون يتفرجون عليهم فخورين بهم. فجأةً يتوقف الجميع عن العمل، يرجع جوان إلى الخلف، يقف الشبّان قربه يتأملون عملهم. يمدّ كيفن يده الملطخة بالألوان، يتناول جوان رقعة قماش ويمسح له يده وينظر إليه مبتسماً بحنان. ثم يقترب جوان من أنابيب الألوان، يمزج الأصفر مع الأحمر مع الأبيض ليحصل على اللون الأرجواني. يغمس الريشة ويقترب من اللوحة ويثبّتها عليها، فينهمر اللون كشلاّل من خيوط جميلة. جوان ينادي كيفن ووليد ويطلب منهما العمل مثله ويدلّهما أين يجب فلش هذا اللون.
كنت أنظر إلى اللوحة محاوِلةً فهم ما يجري. قال لي جوان إنهم يرسمون بأسلوب مونيه الإنطباعي. ابتعدتُ عن اللوحة قليلاً ونظرتُ مجدداً فرأيتُني أنظر إلى بستان من الزهور تتفتح وتتحلّق فوقها أسراب من الطيور.
ذهب الشبان ليستريحوا قليلاً، وأصرّ وليد أن يمسك بيد جوان ليستجلب انتباهه. نظر إلى عينيه وقال: أعود بعد نصف ساعة. سألتُ جوان عن اللوحات التي رسموها إلى الآن، فأرشدني إلى الغرفة التي تُجمَع فيها بهدف تنسيقها وتحضيرها للمعرض. راح يخبرني عن التقنيات المتعددة التي تم اعتمادها وعن لوحات التعبير الحر واللوحات المستوحاة من رسّامين كبار مثل فان غوغ، سيزان، ماتيس، غيراغوسيان، وجيه نحلة ورشيد بن خليفة وغيرهم.
أخبرني أيضاً عن حبّه لهؤلاء الأطفال والفرح الذي يشعر به كل يوم يأتي إلى "سيزوبيل" للعمل معهم وكيف يتواصلون من دون أن يتكلموا، يتواصلون باللون والحركة والفرح في الرسم، وكيف يتطورون ويكتسبون مهارات وتقنيات جديدة.
تسعون لوحة تم اختيارها، تخطف النظر بألوانها وتعابيرها، منها الإنطباعي والتجريدي والتشكيلي، تم عرضها وبيعها في فندق فينيسيا أنتركونتيننتال نهار الخميس في 23 أيار. عاد ريع المعرض للمساهمة في بناء مركز التوحد لمؤسسة "سيزوبيل" الذي سيؤمّن خدمات طبية وتأهيلية وتربوية لمئة وأربعين طفلاً وشاباً مصابين بالتوحد.


عشتُ في هذا اليوم تجربة لا تُنسى، واختبرتُ كيف يدخل الفن إلى القلب وذاكرة القلب من دون استئذان، كيف يغوص في عمق الإنسان، إلى ذلك المكان الذي لا يعرفه أحد، هنالك حيث نتواصل بعيداً من الكلام، وقبل الكلام أحياناً، نتواصل في ما هو أساسي ووجودي. هنالك حيث تتحرر الروح وتنقلب كل الموازين والأنظمة والاقتناعات المغلوطة، هنالك حيث يكون الإنسان بكليته وعمقه وشفافيته وروعته، هنالك حيث نلتقي جميعاً بقوة الحب والإبداع في العطاء.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم