الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

عن ذاك العراق البهي بعيني زها حديد

سوسن أبوظهر
عن ذاك العراق البهي بعيني زها حديد
عن ذاك العراق البهي بعيني زها حديد
A+ A-

من 31 تشرين الأول 1950 إلى 31 آذار 2016 عاشت زها حديد حيوات عدة. جعلتها تصاميمها مواطنة من العالم، ففي كل بقعة لها بصمة لا تشبه أخرى، هي المتحدرة من سلالة صانعي عجائب معمارية من حدائق بابل المعلقة إلى مدينة أور.
ابنة أسرة تعود جذورها إلى الموصل، تمثل حديد وجهاً مشرقاً للعراق ضاع في حروب صدام حسين العبثية والحصار الدولي القاسي والغزو الأميركي المتخفي بذرائع أسلحة لم تكن موجودة والاقتتال المذهبي العنيف، وصولاً إلى "دولة" لخليفة مزعوم أقامها انطلاقاً من الموصل نفسها.
هي كريمة وزير المال الأسبق الاقتصادي الليبرالي المعروف محمد حديد الذي شغل هذا المنصب بين عامي 1958 و1963. لم يتخل والدها، وهو من مؤسسي الحركة المدنية الأولى في تاريخ العراق الحديث، الحزب الوطني الديمموقراطي الذي عارض الملكية حتى سقوطها عام 1958، عن حب بلاده بعدما صودرت أملاكه. فهو لم يعامل أولاده يوماً على أنهم أفضل من سواهم لأن لديهم المال، لكنه استخدمه لتوسيع آفاقهم، إذ كان يحرص على أن يسافروا كل صيف ويزوروا المعالم التاريخية والمتاحف، تلك الخاصة بالفنون كما العلوم. وبسن السابعة فُتنت الطفلة زها بهندسة المسجد الكبير في قرطبة الذي بقيت تعتبره، حتى حين وصلت إلى حيث لم تصل أي امرأة قبلاً في عالم الهندسة، من أجمل ما شاهدت في حياتها.
غرس والداها فيها حب الاكتشاف. وقالت مرة لشبكة "سي أن أن" الأميركية للتلفزيون إن الرياضيات كانت جزءاً من الحياة اليومية، إذ "كنا نهلو بحل المسائل الرياضية، كنا نتسلى بالأقلام، نرسم ونلون، وهكذا الرياضيات في منزلنا. سأبقى مدينة مدى الحياة لأبي وأمي لأنهما عرَفاني على الفنون والعلوم بطريقة أزالت الحدود بين العالمين، فهما لم يفرقا يوماً بين العلم والخيال". وبكثير من الحب تصف والدها في مقابلة من عام 2006 مع "الوول ستريت جورنال"، "كان سياسياً مهماً. كان يؤمن بالتحديث والتقدم وكان من أنصار تعليم الفتيات على أفضل وجه".
عراق زها حديد، هو غير العراق الذي رثاها وقرر إقامة نصب تذكاري لها في موقع المنبى الجديد للبنك المركزي العراقي الذي وضعت تصميمه وتأخر تنفيذه، إذ من المقرر بدء العمل به مطلع عام 2017 في الجادرية بوسط بغداد. في ذاك العراق حيث نشأت وكما تروي "كان مُدرسو المواد العلمية في مدرستي في بغداد من أساتذة الجامعات، كان المستوى العلمي للصفوف لا يُصدق... التعليم سلاح لا غنى عنه للنساء. يمنحهن الثقة للتحدي والاكتشاف". حين تتحدث عن البلد الأم، تقف عند النشأة في كنف والدين منفتحين، فلا تذكر صدام حسين ولا سقوطه وما تلاه. وتبرر على الدوام بأن كونها عراقية علمها الحذر وهي لا تريد إساءة تأويل ما قد تقول.
صارت زها مهندسة حتى قبل أن تفقه أنها كذلك. كانت طفلة في السادسة تتفرج باهتمام على خرائط منزل يشيده مهندس صديق لوالدها لعمتها في الموصل. في ذلك العمر المبكر استطاعت رؤية حياة في تلك الرسوم والخطوط التي أثارت حشريتها، مع أنها لا تشبه خربشات من هم في سنها.
وبعد سنوات قليلة أخرجت زها أفكارها المحلقة إلى أرجاء غرفتها في منزل الأسرة في بغداد. كان فيها مرآة غير متناسقة الزوايا. دأبت على تأملها يومياً فعدلت في توزيع الأثاث في المكان ليكون منسجماً مع المرأة، فكسرت القواعد المألوفة لترتيب الغرف. أحبت إحدى قريباتها، وقد كانت من عمرها، ذلك التناسق غير المتناسق، فطلبت منها أن تبتدع لها أمراً مماثلاً في غرفتها، وهكذا كان. وكرت السبحة مع أقارب آخرين لتتجاوز غرف المراهقات إلى تصميم منازل بكاملها، وهي بعدُ في المدرسة.
وصفت نفسها مراراً بأنها لندنية الهوى والإقامة، لكنها "عراقية عربية"، تجري مقابلاتها بالإنكليزية لأنها تخشى ألا تجيد التعبير عن المصطلحات التقنية المتعلقة بعملها والتي قد تُسأل عنها، لكنها تنتقل فجأة، لو كان محدثها عربياً، إلى الكلام بلكنة عراقية أو لبنانية اكتسبتها من بيروت.
عن ذاك الوطن الأول الذي عاشته، قالت لمجلة "سوتكايس" في مقابلة هي الأخيرة لها ونشرت قبل وفاتها بتسعة أيام، :"أثناء ترعرعي في العراق، كان هناك تفاؤل وحس كبير بالتفاؤل. لو عُدنا إلى حقبة الستينات، لوجدنا أنها كانت حقبة تاريخية لبناء الأمة، وكان هناك تركيز كبير على التحديث والتقدم، ليس فقط في العالم العربي بل كذلك في أميركا اللاتينية وآسيا".
سئلت عما إذا كانت جذورها تركت بصمتها في أعمالها التي تبدو خارجة من روايات الخيال العلمي، فأجابت :"على رغم أنه لا آثار جلية لخلفيتي الحضارية في عملي، فإن الرياضيات في العالم العربي هي ما أثارت اهتمامي، ذلك الخلط بين المنطق والمجرد. صارت العلاقة بين النقاط والخطوط تستهويني بينما كنت أدرس الرياضيات في الجامعة (الأميركية) في بيروت. أدركتُ أن ثمة صلة بين منطق الرياضيات والهندسة والتجريد في الخط العربي. بين الرياضيات والهندسة رابط كبير، وهما معاً على تماس بهويتي العربية من خلال علم الجبر وجمالية الخط العربي. وفي وسع المرء أن يرى انسيابية ذلك الخط في هندستي". كما أن "في العمارة الإسلامية التاريخة، بقواطرها وعواميدها المتسلسلة الممتدة إلى ما لا نهاية كما الأشجار في غابة، مساحات من الفضاء الخارق لقوانين التسلسل. أضف أن الكتابات المنمقة كرسوم الممتدة من السجاد إلى الجدران، من الجدران إلى السقف، من السقف إلى القباب، ترسي علاقات بين الهندسة والمكان... فمن مهمات الهندسة نشر الحيوية والتفاؤل ووصل الجماعات في ما بينها والمساهمة في بناء مستقبلها"...
في تلك المقابلة مع "الوول ستريت جورنال" قبل عشر سنين، قالت زها حديد ما لم يتغير إلى اليوم، "العراق بحاجة إلى أكثر من إعادة هندسة". العراق المهدد بالظلامية والتقسيم والاقتتال الداخلي والكره المذهبي، ربما كان بحاجة إلى إعادة اختراع أيتها الراحلة التي طوعت الحديد إلى حرير وأمواج جمال.
[email protected]
twitter : @SawssanAbouZahr


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم