الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

روبرتو بولانيو غسَل الصحون وكتَب ثم اعتزَل الحبّ

رلى راشد
روبرتو بولانيو غسَل الصحون وكتَب ثم اعتزَل الحبّ
روبرتو بولانيو غسَل الصحون وكتَب ثم اعتزَل الحبّ
A+ A-

قبل أعوام قليلة على رحيله خصّص الكاتب المكسيكي القادر كارلوس فوينتيس بحثا رصدَه ليقلّبَ في مسار الرواية في الجزء الجنوبي من القارة الأميركية وسمّاه على نحو مباشر "رواية أميركا اللاتينية العظيمة".


في النصّ أتمّ فوينتيس جردة بالأعمال التي يعاينها محورية، غير انه اقترف بعض الشوائب من قبيل إغفال موهبة بحجم التشيلياني روبرتو بولانيو. لكن البحث عن مسوّغات هذا الموقف يستدرجنا إلى موقف فوينتيس الرافض قراءة منجز بولانيو وهو الإبن الرهيب للآداب التشليانية في القرن الحادي والعشرين، كنتيجة حتميّة لـ "التكريم الجنائزي" المُتمحور عليه. تحدّث فوينتيس عن ذلك علنا وتعالى عن مطالعة نصوص بولانيو الأساسية لأن صاحبها في عرفه، تكلّل بنسقين من التهليل النقدي والجماهيري على السواء، وتعزز ذلك في طبيعة الحال بعد رحيله.
ربما تبدّت تلك الخطوة عرجاء وغير كفيّة، غير أنها لم تلقِ بظلالها على "الحالة" التي شكّلها الكاتب التشيلياني والذي يعود ليستحوذ على الإصغاء والقراءة مجددا، من طريق رسائله التي بعث بها لوالديه بدءا من مراهقته وإلى أعوام قليلة لاحقة والتي نشرها أخيراً موقع "كونفابولاريو" الملحق بصحيفة "ايل أونيفرسال" المكسيكيّة.
ذيّلت أقدم تلك الرسائل بتاريخ 1973 وأرسلها الكاتب الناشىء إلى والدته، أما أحدثها فيعود إلى 1977 وحيث توجّه إلى والده. ها هو يكتب "أمّي المحبوبة. أمّ الروح. (..) أنا في تشيلي. يكتظّ القارب بالتشيليانيين العائدين، البعض يرجع من أوروبا بل ومعظمهم من أوروبا وهم يتلفّظون بالسباب ويُطلقون دعوات مسيئة ضدّ الليندي: يسمّونه "هذا الرجل".
يدرك بولانيو على نحو عميق اللحظة السياسية الملتهبة التي تزامنت مع وصول الرئيس التشيلياني سالفادور الليندي إلى الحكم، وهو ناصره وعاد لإيمانه بكل ما مثّلَه بالنسبة لتشيلي، ولم يلبث أن دفع من حريّته، وفي أعقاب الإنقلاب الذي أطاح بالرئيس في 11 من أيلول من 1973، أياما في الزنزانة، تجربة رواها في "ورقة الرقص".
في الرسالة يخبر الشاب أن مواطنيه واجهوه بسؤال عن هدف العودة إلى تشيلي، في حين تقيم عائلته في المكسيك. يكتب انه لم يُجبهم بالحقيقة أي أنه عائد مصمما على "الإسهام في بناء الثورة". منحَهم الجواب الأكثر إرضاء: "حسنا، لا أعرف تماما، غير اني أعي أني تشيلياني".
يُطعّم هذا النص بأسلوب بولانيو الأدبي فنقرأ "البحر خلاب، انه هائل: يشعرُ المرء كأنه حشرة. كأنه مهدّد". والحال انه لا يلبث أن يشخّص حاله النفسانية ويعبّر عن قلقه ويأسه مؤكدا في يقين لافت "إن الأدب هو خلاصي".
في أواخر السبعينات من القرن المنصرم ومع انتقال بولانيو إلى القارة العجوز يكتب لوالده "إختبرتُ أمورا عصيبة وأخرى جميلة، مشيتُ وتحمّلتُ البرد ونمتُ في الهواء الطلق وأكلتُ نهماً الأطباق الآتية من بلدان مختلفة، أقمتُ في باريس في رفقة ماريو (كمّ أن الفرنسيات جميلات) واستقللت قطارات تذهب في جميع الوجهات (...) غسلتُ الصحون ليلاً، وكتبتُ القصائد وعدتُ الى السفر وأغرمتُ ثم كففتُ عن الحبّ وعدتُ متعبا ومنهك الجسد".
إقتنع بولانيو الذي جاب أوروبا أن القارة القديمة تعدّ اميركا اللاتينية مأوى للمجانين بسبب فوضاها وفسادها وأردف "لكن ان فتحَت عينيها واسعا فسترى فيها ظل متحف اللوفر".
ثمة صدق لافت في رسائل بولانيو يشبه سنوات اليفاع، وثمة إيمان مثير للإعجاب بسحر الكتابة يشبهُ أوهام المؤلّفين التي أخذته بعيدا ليصير إلى حين رحيله المبكر في عقده الخامس، وبعده أيضا، ظاهرة في الآداب التشيليانية. صار الرجل الذي صمّم على المستحيل.



[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم