الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الكبّة الزغرتاوية

تراز دحدح الدويهي
الكبّة الزغرتاوية
الكبّة الزغرتاوية
A+ A-

كوبيدون: الدقّ، السحق. مصدر فارسي لكلمة "كبّة" الفارسية، ومعناها مدقوق.


هذا ما يعطيني "غوغل" في معنى كلمة "كبّة". أما في "الكبّة" فيفتح لي صفحات عن موطن الكبّة الأول، حلب "أم المحاشي والكبب"، وعن أنواع الكبّة الحلبية: سفرجلية، النابلسية، الدراويش، سوار الست، المبرومة، الكرزية، السماقية، الكيمشون... إلخ يصل عددها الى التسعين. أفتش في "الكبّة اللبنانية" تتصدّر الصفحة الأولى "الكبّة على طريقة منطقة بشرّي"، و"الكبّة الزحلاوية". حتى غوغل "ما بحبّنا؟!". لكم أخبار الكبّة الزغرتاوية ولـ"غوغل" مهمّة التفتيش عنها جيدا.


أصلها فارسي أو حلبي سرياني، أطيب كبّة كبّتنا! وأحلى كبّة كبّتنا! عصّورة نيّة من الجرن مع زيت الزيتون والبصل والنعناع، أو ممدودة في الصواني ومخبوزة في فرن البلدة: ممدودة ومغمّرة بزيت الزيتون، ممدودة فوق البصل جوانح والصنوبر الملوّح ومغمّرة بالزيت، "المطبّقة" مقسومة طبقتين بينها لحم مفروم وبصل وصنوبر يتكدّس على وجهها السمن الحموي، أقراص مشويّة يسيل فيها الشحم المتبّل بالبصل والسبعة بهارات، كباكيب كبيرة مشوية بالسمن الحموي تفتش فيها عن الطبقة السميكة عند قفلتها وتتمنى لو أنها لا تنتهي. كبّتنا ليست كالكبّة الحلبية بألف شكل ولون، تبتعد عن الإسفاف في المطيّبات من غير البصل والبهار، قليلة العناصر، أنيقة. انتقل الجرن والمدقّة الخشبية من المطبخ الى الصالون، لكن بقي من يطلّ على زوجته في المطبخ تحضّر الكبّة في جاطات بلاستك ويسألها بلهفة: "بيطلعلي عصّورة؟".


وإذا تأكد من حصوله عليها، يضيف مازحا "يرحم موتاكي". تبلّل يديها وتأخذ من الكبّة النيّة مقدار كفّها تبرمها بيديها بخفّة لتصبح ملساء ثم تضعها في صحن يكون قد هيّأه لها. يسكب فوقها زيت الزيتون بسخاء، يزيّنها بورقتي نعناع، يقشّر بصلة صغيرة، ويبدأ بالأكل كمَن نسي ما يدور حوله. يشكر زوجته ويقول: "الطقس حلو اليوم! اي ساعة بدّك تروحي عالفرن؟". تلتقي صواني الكبّة في الفرن وتزدحم يوم الأحد، يوم الكبّة عند أهل زغرتا. في البدايات كانت النساء يأتين بها سيرا على الأقدام، يحملنها على الرأس أو في أكثر الأحيان يضعن طرفها على الكتف اليسار ويحملنها باليدين، الكوع اليسار عند الخصر. انتهى هذا المشهد منذ زمن طويل وصارت السيارة هي التي تحمل الصواني في صندوقها، حتى إذا كان البيت قريبا بعض الشيء من الفرن. تتكدّس الصواني بالعشرات على الرفوف المستحدثة، وقد كتب عليها اسم صاحبها بقلم marqueur ربطه الخبّاز بحبل على طاولة خشب، ينبّه بغضب شديد بين وقت وآخر، غلى ضرورة كتابة الإسم وينفي عن نفسه المسؤولية إذا "صار في غلط". تتشابه الصواني بشكلها والكبّة بتقطيعها. "الممدودة" تقطّع وربات (مثلث الأضلع) و"المطبّقة" تقطّع مربّعات او "لوزانج" حسب شطارة صاحبتها، كذلك الكبّة "ببصل وصنوبر". "المكبكبة" أصبحت نادرة جدا، فهي من أيام الكبّة القديمة عصت على كثير من النساء، واشتهر بها عدد قليل منهن تكفّلن صنعها للجيران والأقارب. في الثلاثينات بدأ إنشاء "أوتيل قبشي" في إهدن واستقدم أصحاب الورشة عمّالا ومعلّمي بنيان من بشرّي يعملون إلى جانب شباب من إهدن. دعاهم جدّي، وكان يوم خميس، إلى الغداء، فكانت "المكبكبة" مفخرة الطاولة.


"يا أبو عساف كيف بتقدر نسوانكون تعمل هالكبكوبة الكبيرة؟"، سأله أحدهم. ردّ عليه بكلّ ثقة: "نحن منحطّ دوا خصوصي للكبّة". فهم البشرّاوي سرّها وظلّ جدّي يخبرنا خبريّة البشراوي ودواء الكبّة حتى آخر أيامه. صينية "المكبكبة" ظهرت أخيرا على موقع الـ"فايسبوك" في صورة بالأسود والأبيض تحملها سيدة وينظر إليها الرئيس رينه معوض بفرح كبير مع أحد ضيوفه. ثأثرت كثيرا بفرح الصورة وما آلت إليه الأقدار. علّقت عليها: "من قتلوه لم يأكلوا الكبّة من سواعد أمهاتهنّ وقلوبهنّ". لا إختلاف ولا تجديد في الكبّة، تنزل الصواني من السيارات متشابهة ومتطابقة مهما ارتفعت السيارة عن الأرض او تألقت بالفخامة. الفرق، بما أنه لا بدّ من فرق، يكون في أن الخادمة الأجنبية هي التي تأتي بالصينية من الصندوق، بينما قد تذهب صاحبتها المتأنقة للقاء صديقاتها في مقهى من مقاهي ميدان إهدن حول فنجان نسكافيه ريثما تنتهي كبّتها من الخبز. تضع الخادمة إشارة على الصينية ثم تحشرها على الرفّ مع الصواني وتلتحق مسرعة بالخادمات اللواتي ينتظرن في حلقة تحت شجرة التوت، في موعد أسبوعي يفرحن به كما يبدو لي. أنا أنتظر صينيتي تحت الشجرة. شجرة عجوز لا تحمل ثمارا، انطلقت أغصانها عالية بشكل عشوائي على مرّ السنين، لا تعرف مقصّا ولا تشحيلا، التصقت بجزعها الأساس جزوع فرّخت على كعبه فتشابكت ببعضها وزادت من سماكته. ربما هي من عمر الفرن الذي تقول عنه حماتي، التي ناهزت المئة العام. أنها "من وقت ما وعيت على الدني وفرن بيت زخيا في المكان الذي هو فيه". فرن بيت زخيا، ككل أفران الخبز التي اندثرت شيئا فشيئا، مبني من حجارة مقالعنا الجبلية أو من الحجر البركاني الأسود. سقفه عقد وأرضه مرصوفة بالحجر فوق طبقة سميكة من الملح الخشن تصل الى ثلاثين سم أحيانا. بعد أن توقفت النساء عن تحضير الخبز المرقوق للعائلة، لم يبق في إهدن سوى هذا الفرن، أما في زغرتا فهناك ثلاثة افران بقيت، فقط لخبز الكبّة. عاد بعض أصحاب هذه الأفران إلى خبز المرقوق لما بدأ الناس بطلبه من جديد. تحت شجرة التوت أتمتّع بوقتي ولا أتأفّف من طول الإنتظار، أراقب جيدا وأنصت الى كل كلمة تقال: "شبّعها نار الله يخلّيك بدنا ننبسط فيها"، أو "الصينية الكبيرة شدّ عليها شوي والصغيرة عمهلك عليها لأنها رايحة زوّادة عبيروت". تنظر إلينا وتتابع: "ولادي بحبّوا الكبّة. كل جمعة بياخدو كبّة عبيروت أيش عرّفني نحن أهل زغرتا منحبّ الكبّة كتير". يتدخل الخبّاز: "مين ما بحبّ الكبّة؟ بسّ بعّدو شويّ من طريقي حاج عيونكن عالصينية. ما راح تروح لمطرح".


معه حقّ سايد الخبّاز، حفيدي الذي يأكل أصنافا تعدّ على أصابع اليد، يفرح بالكبّة كثيرا، يسميها "كبة triangle". في إحدى المرّات بعدما أصرّت أمه، في المطعم، أن يأكل أولا Crepe مالحة وبعدها الحلوة قال: "أوكي باكل واحدة عكبّة". كانت سابقا تؤكل يوم الأحد ويوم الخميس، كل أفراد العائلة يحبّونها وتقيت العائلات الكبيرة كما يقول أهلنا. اليوم إقتصرت على يوم واحد في الأسبوع، الخميس او الأحد، وفي أكثر الحالات يفضّلون الأحد. "الكبّة طيبة يوم الأحد. أيش منعمل أمرنا لألله بدّنا ننطر". سافرت الكبّة مع محبّيها، طلّاب الطبّ، إلى فرنسا في أول السبعينات، تخفّف عنهم وحشة البلاد الجديدة. حصل في إحدى سفرات أخي أنه حمل، كالعادة، في حقيبة اليد الكبّة على أنواعها وزاد في الحمولة، فتمزّق السحّاب من كثرة التفتيش في المطارات. ضمّ الحقيبة الى صدره وتشبّث بها جيدا لكن أقراص الكبّة خانته في محطة القطار ووقعت من الحقيبة ثمّ راحت تتدحرج على الرصيف كالبالونات الصغيرة تحت نظر المسافرين المدهوشين. لم يمنعه شيء من الهرولة وراءها في كل الاتجاهات وبخفّة نادرة استرجعها حتى آخر حبّة. طيّبة الأقراص المشوية في الغربة! لا بدّ منها في كل سفرة ولو أنها في إحدى المرات كادت أن تتسبب لأختي بمشكلة "أمنية" عندما ذهبت الى فرنسا، عبر مطار الشام، ومعها حقيبة الكبّة. أمر مسوؤل الأمن في المطار بفتح جميع الأقراص مشتبهاً بما يمكنها أن تحمل في داخلها، وعندما أمر لها بالمرور، بعد أن تأكد من المادة المتجمدة البيضاء اللون أنها شحمة، وبعد أن تسبب بخراب الأقراص، قال لها: "لست مطمئنا كفاية". تكثر سفراتها في هذه الأيام إلى دول الخليج بعد أن انتقل الأبناء إليها من بيروت. "خبزلي ياها عذوقك يا سايد، هيدي الصينية رايحة عا دبي. يرحم أهلك". تقولها بصوت عالٍ فخورة بكبّتها المطلوبة الى الخارج، وبإبنها الذي استدعته أحسن شركة في دبي ليعمل عندها مهندس بترول. تتهافت الصواني وتشتدّ الحشرة، في إهدن، عندما تأتي صواني الفنادق والقصور الرئاسية، فتتعجّل النساء لمساعدة الشباب في تسهيل حركتها عند الدخول وعند خروجها تبعث معها السلامات الحارّة. يطول الإنتظار ولا بدّ من نظرة من شبّاك الفرن والسؤال: "يخلّيلك ولادك يا سايد وين صارت صينيتي فاتت عالنار؟". تهدر النار عبر قسطل إلى يسار الفرن فيحتوي لهيبها المستعر جميع الصواني التي يصل عددها في بيت النار الى ست أو سبع حسب حجمها. يديّرها الخباز بشطارته وخبرته المتوارثة أبا عن جدّ بـ"المقلبون" وينقلها مداورة من مكان قريب من النار الى بعيد منها، يرفعها من جهة واحدة ليوجّه سطحها إلى النار، اذا دعت الحاجة، وعندما تنهي الصينية دورتها في الفرن ويتأكد الخبّاز من أنها نضجت كما يلزم، ينقلها الى البلاطة، ينادي على صاحبتها إذا كانت موجودة، لتسرع، بعد نفاد صبرها من الإنتظار، في التقاطها قبل ان يهدأ فيها الزيت المغلي. يصرخ الخبّاز: "فتحوا طريق يا هو! بعّدو من طريقها لا تحترقوا". "سلّم ديّاتك، يخلّيلك ولادك"، تشكره فرحة بصينيتها بين يديها من جديد، محمّرة ومقمّرة، تركض فيها إلى البيت يأكلونها ساخنة مع قطعة خبز صغيرة قبل الجلوس الى الطاولة وتناول الغداء، هذه لذّة الكبّة الممدودة. لم يأت دوري بعد. أقف تحت الشجرة مع أستاذي في المرحلة التكميلية، فرحت بلقائه كثيرا بعد سنوات طويلة من الغياب وسألته بخجل التلميذة: "إستاذ! ما كتبت شي عالصينية؟". قال لي مبتسما: "أنا بعرف صينيتي منيح وعلى كل حال هي بسّ تخلّص بتعطيني صوت". لم أتوقّع هذا الجواب اللطيف من أستاذ الفيزياء الصارم والجديّ، ضحكت، وتابع: "أنا بعرفا منيح وحلّها تعرفني بعد هالسنين الطويلة بيني وبينها". عندما بدأ القليل من الرجال يأتي بالصواني الى الفرن، بحكم نقلها بالسيارة، كثر الهمس واللمز، واستهجنت النساء وسألت: "ولوْ ويني مرتو ما فيها تجي معو؟ الرجّال بيجي عالفرن؟". ازداد عددهم مع الأيام، المحافظون منهم يأتون بالبدلة وربطة العنق، لباس يوم الأحد، والمتجددون يلبسون الثياب الرياضية، لا يهتمّون بما يقال طالما هم يثقون برجولتهم وطالما الكبّة هي بيت القصيد.


دخلت صينيتي النار واقترب الفرج، دقائق معدودة تكفيها لتنهي دورتها في الفرن وتخرج إلى البلاطة، أتناول من صندوق أعدّه الخبّاز ورقة من الكرتون المقطّع، أنحني قليلا لأمسك طرفها، أسحبها على مهل وأضعها فوق رزمة من الجرائد على يدي اليسرى. "سلّم إيديك الله يقوّيك": أشكر الخبّاز وأنسحب بسرعة لأترك المجال للصبيّة الجميلة التي تلبس الكعب العالي والجينز الضيّق مع بلوزة رقيقة تكشف عن الأكتاف وغيرها لتتناول صينيتها بالكفوف والنزّالات المزركشة والسميكة. "مرسي عمّو"، تقولها بتهذيب وغنج، فتتوزّع البسمات على أطراف الشفاه، وتدور العيون كالبرق في الأرجاء لتستقر على الخبّاز الذي أخرج من بطنه: "أهلا". مجتمع الفرن لا يرحم.
***
إذا سألت كبار السنّ عن تاريخ الكبّة يأتي الجواب سريعا: "من وقت ما خلق الله العالم في كبّة". "يعني، كان في كبة أيام يوسف بك كرم؟"، أكيد!. الأكيد أن عمر الكبّة من عمر جرن الحجر، وعندما تقول عمّتي أن أجدادنا تعلّموا النحت في الحجر والعمارة على يد أهل حلب، هل هذا يعني أنها قد تكون جاءت من حلب؟ احتمال يناسبني أكثر بكثير من احتمال أن تكون لكبّتنا أصول فارسية وأقتنع به. ربما انتقلت الى جبالنا عندما ذهب إليها البطريرك إسطفان الدويهي مطرانا مع عائلات من إهدن. أو لماذا لا نذهب أبعد بكثير ونقول إنها ربما أتت مع الحلبيين السريان، تلاميذ مار سمعان العمودي، عندما جاؤوا إلى دورة قاديشا وعلّموا سكانها الصلاة فحملوها إلينا مع تراتيلهم الجميلة وألحانهم الساحرة! هكذا تصحّ فيها الخرافة التي تقول إنها وجدت عندما خلق الله العالم.


استقرّت صناعة جرن الكبّة في حارتنا. نحته رجالها في الحجر الأحمر السماقي من مقالع إهدن، وكنت في بدايات العمر إذا ما استيقظت على صوت حفر الأزميل بالحجر، يأتي متواترا من عدة جهات، تيقنت أنني في بيت أهلي، أغرق في سعادة لا تذهب من بالي مهما مرّت الأيام. علّم والدي إبن عمّه أبو بشير صنع الجرن وعملوا معاً على تصدير كميات كبيرة منها الى سوق طرابلس، قبل أن ينتقل الى العمار. لا أذكر والدي يدقّ الحجر بل أذكر جيدا أبو بشير في خيمته يتراكم عليه الغبار وعند المساء، قبل دخوله إلى البيت يقف بطوله الفارع أمام أم بشير الصغيرة القامة تجتهد لتكنس كتفيه بالمكنسة الخشنة، على وجهها إشارات التسليم بما قدّر لها الله. أحبّتها أمّي في صمتها وهدوئها وورثت عنها هذه المحبّة. أذكر أيضا عمّي حنا خليل (عم والدي) في خيمته، صغير القامة يعمل بعصبيّة واضحة ويطلق أحيانا سيلاً من السباب الخاص به، لم نفهم عندما كنا صغارا لماذا كان يتبعه دائما عويل النساء يأتي من هنا وهناك من داخل البيوت. لا نزال إلى يومنا هذا نتذكّر بعضا منها في مجالسنا الخاصة جدا. كان متميزا بصنع الجرن الكبير وشغله "نضيف"، بحسب رواية أمي. أبو بشير كان لسانه دافئا لا ينطق بالكلام النابي وكان تقيّا يصلّي المسبحة كل مساء جالسا على كرسي قشّ امام بيته. هذا لم يمنعه البتة من التدخّل بعنف إذا بدرت من إبنته هفوة صغيرة، ومن دون التوقف عن الصلاة، يضربها ويتابع بصوتٍ عال: "يا قديسة مريم يا والدة الله". تميّز أغلب رجال حارتنا بطبع حادّ ومزاج صعب وخصوصاً من اشتغل منهم بالحجر نحتاً أو بنياناً، وصفهم أبي ووصف نفسه بعبارة استعملت في أعمال شقّ الطرق عندما يصرخ أحدهم في الورشة قبل أن يشعل فتيل الديناميت لتفتيت الصخور: "بارود اهربوا". بارود لا شيء يطفئه إلاّ العرق ينزل من البطحة مباشرةً إلى القلوب يخفّف ربما من ضيقها الشديد في معالجة الحجارة الصلبة. "كل واحد اشتغل بالحجر بيشرب نقطة".


اختلفت أحجام الجرن من الكبير إلى الوسط إلى الصغير. الجرن الكبير يثبّت في زاوية البيت لا يتحرّك إلا في حال فقدان غالٍ من العائلة، عندها يقلب على وجهه وتهجر الكبّة المكان. الوسط وهو الأكثر اقتناء تبرم قاعدته لينقل الى صحن الدار عند تحضير الكبّة، أما الصغير فصنعوه لنقله في ترحالهم أينما حلوّا، كالجرن الذي صنعه والدي لبيت خالي عندما حكمت عليه وظيفته في سلك الدرك التنقل عبر المناطق اللبنانية، والذي انتهى في منزلي هدية من زوجة خالي. منهم من نقلوه معهم الى اوستراليا على متن البواخر.
***
حضّرتها الأمهات بسواعدهن وقلوبهن، ساعدتهن البنات فانتقلت من جيل إلى جيل تسحر الكبير والصغير بطعماتها الشهيّة حتى استحقّت أن تكون زينة ميدان إهدن في مهرجانات الستينات إلى جانب الدبكة "الهدنانية"، ووساما وطنيا رفيعا قلّد به رئيس الجمهورية سليمان فرنجية صدر سيّدة دقّت الكبّة في الجرن لسنوات طويلة في مطعم يجاور نبع مار سركيس في إهدن. بعد هجر الكبّة للجرن بقي من مهرجان تحضيرها إحتفال اللقاء عند فرن الحجر يخبزها "عذوقنا"، وبقيت فرحتها. فرحة تجمع أهل إهدن في عصبيّة لذيذة وحلوة تزيد في العصبيّة الأم لبلدتهم وقعوا في دستها منذ الولادة، تمدّهم بإحساس بالقوّة والأمان ولو أنها تضعهم أحيانا "خارج الإطار العام"، وتتسبّب لهم بالتهميش والحوادث المؤلمة في بعض الظروف.


***
لم أعد فتاة صغيرة أقف قبالة جدّتي تدقّ الكبّة في الجرن. تضرب المدقّة الخشبيّة باللحمة الحمراء ضربات قويّة ومتسارعة يصبح معها وجهها الجميل مخيفاً في قساوة تعابيره، يجتهد ساعدها بالضرب فتزداد تقاسيم وجهها توتراً، ويشتد التعب إلى أن تنزل اللحمة تحت المدقّة زهريّة اللون ملساء ومتماسكة. تنقلها إلى حرف الجرن، تدقّ بصلة صغيرة مع البهار والملح ثمّ تعيدها مع إضافة البرغل المبلل بالماء والملح والبهار، تعرك الخليط بيديها الإثنتين حتى يدمج جيدا، تزيد قليلا من الماء وتبدأ بدقّ الكبّة. تأخذ نفسا عميقا، ترفع المدقّة عاليا وتهوي بها في الكبّة بقوة فتردّ النفس مع التنهيدة، تبرم المدقّة لتسحبها بسهولة ثم ترفعها من جديد وتخبط، حركة تتكرّر على إيقاع الرقّاص الذي كانت راهبة الموسيقى في المدرسة الداخلية تشغّله أثناء التمارين على التراتيل. يخرج من الجرن بعض منها عند الأطراف فتعيدها بكفّها اليسرى بحركة دائرية على حرف الجرن من دون قطع الإيقاع الذي بدأت به، إلى أن تلين وتصبح طيّعة بين يديها. لم أعد طفلة تنتظر العصّورة على حافّة الجرن، صرت الجدّة أجمع بين أصابعي قليلا من النيّة أدحرجها بزيت الزيتون، أكون قد وضعته في الصينية لأمدّ فوقه الكبّة، أتذوّق سحر الطعمة وفي كل مرّة أقول لنفسي: "هكذا كانت تفعل جدّتي".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم