الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

العمل معه في المحاماة والديبلوماسية والأشرفية

جبران صوفان
A+ A-

تربطني وشائج عدة بفؤاد بطرس تجعلني رغم مرور السنين تلميذاً مواظباً في مدرسته، عاصياً تركها، فلا أنا من المعرفة إرتويت ولا هي توّقفت عن العطاء، إلا يوم الأحد الواقع فيه 3 كانون الثاني 2016 عندما أقفلت أبوابها، فتخلّد تراثها.
فؤاد بطرس معلم صارم لأجيال من التلامذة المحامين والديبلوماسيين مثلي، إذ لا وسطية في المعرفة لديه. وإذا إمتثلتَ لتوجيهاته وإجتهدتَ في التحصيل، يهديكَ نوره و"تعاين النور بالنور". وإذ أستعيد ذكريات قديمة، أعتقد في هذا الزمن الرديء أنّ العناية الإلهية شاءت أن أتدرّج في مهنة المحاماة بمكتبه وأن أرافق مسيرته كديبلوماسي لاحقاً، عندما قاد الديبلوماسية اللبنانية التي شمخت به. فتأخذك الأخيلة الى الدول القليلة القادرة على التأثير في الأحداث الدولية، لتحسب بطرس وكأنه أحد عمالقتها، فيما بلده يعاني الأمرّين بفعل تخاصم أبنائه وتفتتت أرضه والعبث بكيانه.
وإن أنسى لا أنسى دور مدرستنا "الفرير" حيث الرياضيات، رياضة العقل.
وأخيراً، الرباط مع فؤاد بطرس هو الأرض، حبّ لبنان والحنان الى الأشرفية، مسقط رأسنا من كنيسة مار متر الى مار نقولا مروراً بجامع بيضون، مثّلث رسمه الله في تلك المنطقة الغالية ليجمع ما فرّقه الغرباء على أرض الواقع.
يترك فقيدنا إرثاً غنياً من الأخلاق ومتفرّعاتها في النزاهة والإستقامة والكرامة والتجرّد، الى قيَم العدالة، والديبلوماسية المتألقة والرؤية الثاقبة، ولكنني أتوّقف عند بعض المزايا المؤثرة من خلال تجربتي معه :
- موضوعية فؤاد بطرس الذي فاجأني بقبولي محامياً متدرجاً في مكتبه عام 1974 بعد التحقق من علاماتي في جامعة القديس يوسف وليس لأي سبب آخر، كما قال.
- تحظير التعاطي في السياسة في مكتبه.
- نفوره من الغرور، إذ إكتفى بالتعبير على طريقته عن إرتياحه لأدائي في قضية بالقول : " وحده الجاهل يدّعي المعرفة الكاملة، فكلنا تلامذةً في بحرها " ، فتصرّف فؤاد بطرس مثل أبيه الذي "لم يثنِ يوماً على تفوّقه "، كما جاء في مذكراته، لإعتقاد الوالد بأنه يمكن دائماً تحقيق الأحسن، محتفظاً بإعتزازه بولده.
- الولع بالعمل المتقن، وقد يكون في ذلك توارد خواطر مع العظماء، إذ يرد مثلاً في كتاب لـ Maurice Tauriac عن ديغول أنّ " الحرص على إنتقاء الكلمة الصحيحة في كتاباته، يعكس هاجساً في السعي الى تحقيق الكمال " .
- "الصلابة في الأهداف والمرونة في الوسائل"، و "السعي الى التوفيق بين الحزم والمرونة"، دون المساومة على المصلحة الوطنية، ودون أن يثنيه تعرّضه للقتل في عقر داره، وإطلاق النار على موكبه عام 1977 على مقربة من الكنيسة، حيث أقيمت جنازته بعد أربعين عاماً ! .
- اقتناعه السديد بأن التفاؤل أجوف و"مضلّل " إن لم يستند الى "الواقعية" التي تبقى القاعدة لإستقراء المستقبل والبناء عليها.
وختاماً، أتردّد في وصف فؤاد بطرس بـ "رجل الدولة "، فلا وجود لدولة، أو بالإكتفاء بأنه رجل فيما غلب الغرور والفجور على البعض، فأصبحت أشكّك في الكلمة. كما تساءلت عمن يعوزه الرحمة أكثر، هل الأحياء مثلنا في لبنان أم الأموات مثل فؤاد بطرس وسواه من الصالحين في جوار ربّهم. وحده التاريخ سيعدل في الوصف، حسبي التذكير بكلمة شارل ديغول عام 1946 في ذكرى الذين لاقوا حتفهم بعد تلبية ندائه، إذ قال : " أداؤكم هو اليوم سبب إفتخارنا ومجدكم سيرافق رجاءنا الى الأبد ".


محامٍ وسفير سابق

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم