السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

قصص قصيرة - شرفة تايكي

علي السباعي
قصص قصيرة - شرفة تايكي
قصص قصيرة - شرفة تايكي
A+ A-

شابٌ عراقي أسمر نحيل مــن مواليد برج الجوزاء، مثل كلكامش عنيد، قد يصل به الأمر إلــى محاربة طواحين الهواء، يعمل بائعَ صحفٍ فــي تقاطع "الكاردينز" (منطقة في العاصمة الأردنية عمان)، كــان ينظر مــن مكان عمله ناحية شرفة ضمــن الطابق الأول لعمارةٍ بيضاء تنتصب بأربعة طوابق، تطــل عليه صبــاحَ كــل يومٍ مـــن شرفتهـا فتاةٌ تتخايل بسحر جمـــالها الذي يخطف الأبصـــار.
تايكي!
لم يجد لها اسماً غيره. تبدو كحورية بحر وهي تضع على شفتيها المكتنزتين أحمر شفاه جريئا دافئا. ينطلق في الجو مع إطلالتها عبق السمفونية الخامسة لبتهوفن تتعالى مغردةً تصوّر صراع الإنسان مــع القدر، ثم توافقه مع القدر، ثم أخوّة الإنسان للإنسان. السماء تحلّق فيهـــا طيورٌ بيضٌ وتحطّ علــى شرفات المنازل المجاورة. كـــان تقاطع "الكاردينز" حيا ونابضا بالوجوه، وجــوه نساء ورجال.
* * *


ولــــدتْ فـــي فـــضاءات الحـــــب كلمــــاتٌ تخـــــرج من محــــراب الــــــروح أشـــواقاً لا توصـــل بينهمـــا الا همســــــا.
* * *


ذاتَ صبـــاحٍ مشرق مثل لـــون بشرتها الندية أومأت إلى كلكامش بالصعود إليها، وفــــي طريقه القصير اشتعل رأسه بالأفكار: كيف سيكون اللقاء؟ كيف؟ وكيف؟ وكيف؟
طرق باب شقتها، فتح له رجلٌ متوسط العمر في زيّ الخدم، قال له بلهجة مصريةٍ محببة: الست الصغيرة في انتظارك على شرفتها.
أسرى إلـى ملكوت تايكي وبيده صحفه فوجدها مغمورةً بكل مـا هو مترف وخلاب. ترتدي ثوبـــاً عربياً تقليدياً يزيدها أنوثةً وغنجاً. وقف أمامها مبتسما ابتسامةً ذائبةً من الارتباك. صار كلكامش مثل قطرة ماء لا لون ولا طعم له. اذ طغى على صوت السمفونية الخامسة صوتُ طائر الغاق يشقّ الفضاء بصراخه. دُهِشَ من أميرته تنتظره جالسةً في كرسي للمعاقين.
* * *


الشمس تغلق أبوابها
الشمس تصبغ بغداد بضوئها الناري، نخيل الوزيرية ناحــلٌ طويـلٌ مغبر، وجسر الصرافية يمتد طويلاً إلـــى الضفة الأخرى مــن دجلة. أعمدةُ الكهرباء ناحلة كالحة كابية صدئة. وبيــوت شارع المغرب بجدرانها الطابوقية المغبرة الألوان.
كنا نحن طلاب كليـة الفنون الجميلة في المرحلة الأخيرة من قسم المسرح نخرج من قاعاتها بعد أن نؤدي آخــر امتحانٍ مقرر، نطوى بجو بغداد الحار جدا. تلك الحرارةُ التــي بدأت تزحف فوق الوزيرية بجسرها ونخيلهـا. لَكَمْ كنــا نتجمهر على شكل مجاميع تؤدي طقوســاً علّ الشمـسَ تغلق أبوابها أمام خريف الوداع. وجدتني فجأة أحدّث زملائي الطــلاب من شدة الحر عن الحر، وأنا أتطلع بيــأس إلى فضاءات بغداد الشاســعة بشمــس ساطعة: زملائي، كنت أسمع جدتي تردد دائما عن الحر: "تموز ينشف الماءَ من الكوز، أما آب فالعشــرة الأول من أيامــه تحرق المسمار بالباب وفي العشرة الثانية تقلل الأعناب وتكثر الأرطاب والعشرة الثالثة بالنهار لهاب وبالليل جلاب وتفتح مـــن الشتاء باب. أمـا أيلول فتقول جدتي رحمها الله امشوا ولا تكَيلون".
بينما أنا منهمكٌ في حديثي وزملائي يصغون إلى ما أقول بانتباه، إذا بإحدى زميلاتنا تطل علينا من قسم التشكيل. فتح زملائي عيونهم عليها، وبدوري فتحت عينيَّ الجنوبيتين وأنا أحدق في حضورها البهي وفــي عينيهــا البغداديتين دهشة تأخذ بزمـام الوجد إلى وديانها. صار وجهها الأنيس إلى قلبي أكثرَ وسامةً وجلالا، ومــــن ورائها تتكسر أشعة شمس الضحى على بياض وجهها الثلجي كما تتكسر على رؤوس موجات دجلة أشعة شمسنا القاسية. ارتخت ملامح وجهها وأصبحت أكثر احمرارا كأنها جلنار الشمال. اتسعت عيناها مثل صبية ترتجف مــن البرد. كانت زرقتهما تحمل عمـق الســـؤال الــذي يطرز بلون البحر. توقفت دقـــات قلبي لحظةً. لحظة ليـس فيها زمن، لأني كــنت أعشقها بصدق. قالت بصـــوتٍ واثقٍ وهي توزع نظراتها كأنها تقـــلد حركات بطلة أغنية كاظم الساهر "زيديني عشقاً"، عندما كانت تفرك يديها وتنفخ فيهما دفئها الجنوني مــن شدة البرد: أشاه.
بعدما رمقها الجميع بنظرةٍ مستغربة وابتسامة مجاملة متحيرة، قلتُ لها في دهشةٍ وأنا أنظر اليها بتمعن: ما بالك ترتجفين ونحن في شهر حزيران؟!
قالت لي بنبرةٍ بريئةٍ من وجهها البغدادي الجميل: ألوان قميصك باردة!
* * *


غارس
رجلٌ في عقده السادس، طَفَحَ بــه الكيل بعد الحوادث الطائفية الدامية عام ألفين وستة، جَمَعَ كـل صور الطاغيــة فـي مدينته الطيبة، الناصرية، الغافية على نهر الفرات، وغرسها وســط سوحها وحدائقها المجدبة وخرائبها، وراح كل يوم يجلب الماء من فراتها إلى صوره التي غَرَسَها، وسقاها علـــى أمـل أن تُنْبــِت واحداً مثـــل صدام.
* * *


احتراف
في أثنــاء شهــر محــرم حَدَثَ هرجٌ ومرجٌ كبيران في مدينتنا انقسم إزاءه الناس فريقين مثلما ينقسمون فـــي أثناء مبــاراة فريقي ريــال مدريد وبرشلونــة. تخاصــم الفرقاء حــد الشجار. تعــاركوا. أُنزلــت رايات. ارتفعــت رايــات. "لا تذهبوا بعيداً هي ليست صفقــة بشأن انتقال لاعبٍ مـــن فريقٍ إلـى آخر". كانت صفقــة في شأن انتقال طبّالٍ مـن موكبٍ إلى آخـر مقابل مئتين وخمسين دولاراً.
* * *


محاصصة
مكان عملي يتطلب مني يومياً ركوب سيارة أجـرة. نمرّ في شارعٍ مزدحم جدا. شــاءت الأقــدار أن أركب مع احد السائقين العامليــن على هذا الشارع. سألتــه عن سبب الازدحام. نظر إليَّ وقال برقة:
- اصبر حتى نصل السيطرةَ فتعلم السبب.
وصلنـــا. نادى السائــق على شرطــي في السيطـــرة. قال لي:
- هذا الشرطي ابنُ خالتي، اسأله عن سبب الازدحام.
سألته، فأجاب:
- أتشاهد ذلك الشحاذ الذي خلفك؟
التفتّ خلفي أشاهدهُ، أخبرني:
- هذا الشحـاذ اتفق معنا نحن شرطة السيطرة أن نعرقل مرور السيارات ليحصل الازدحام حتى يتمكن من الاستجداء بسهولة. ليلاً يعطي كلاًّ منا حصته.
* * *


تحرش
ركبت معنـا شابةٌ جميلةٌ فـي الباص، جلــس بجانبهـا مراهقٌ كان يتبعها حال خروجها من مستشفى الولادة. راح يتحرش بها وهي صامتة كأنها تمثـــالٌ على مرأى من الركاب. أخذ يحرّك كـــوع يده اليمنـى متحسساً خاصرتها اليسـرى. لا ردّ فعـــل. تمـــادى في إدخــال كــفّ يده مــن كـــمّ عباءتهـــا متحسســـاً هضاب جسدهـــا. تنفجر الدمــوع غزيرةً مــــن عينيها السوداوين تُغْرِقُ وجهها الشاحب عندمـا يوغل في اللمس. تثور فـــي وجهـه صارخةً ودموعهـــا تغطي وجهها المفجوع بعـــدما أزاحــت عباءتها التــي تسترهَا ليظهـر راقداً فـــي حضنهـــا طفلهــا الملفوف بقطعة قماش بيضاء وهــي تصرخ بحرقة:
- اتـّقِ الله. إنـه رأسُ رضيعــي الميـــت.
* * *


لماذا؟
عجـوزٌ أميركيةٌ ثَمِلَة نزلت من سيارتها في المرأب الذي اعمـل فيه حارســاً في إحدى الولايات الأميركية. في الليلة التي ستقصف بها قواتُ بلادها العراق. سألتْ بخبث:
- من أيّ بلدٍ أنت؟
أجبتُها بعد تردد:
- أنا من بلاد الرافدين.
حدجتني بنظرة مستفزة وقالت لي بخشونة:
- أنتَ جبان.
* * *


وجبة
في حديقة الحيوانات الخاصة التي يملكها عـدي صدام، يُطْعـمُ الجنودُ الأميركيـون ثلاثة أســود جائعة نعامــاً وغزلاناً حيـة، أمــا القطط فتغفـو تحت لافتة كَتبَ عليها الجنود: "مـن يُضْبــَط وهــو يعتدي علــى أيٍّ مـن حيواناتنـا، سيكــون وجبتهَا المقبلـــة".
* * *


الوصية
نحن فــي اليوم التاسع من شهر نيسان مـن العام ألفين وثلاثة. أقف ألان أمام قبر جدّي لوالدي. إذ أوصاني جدّي هامساً بأذني وهو على فراش الموت يُحْتَضَر:
- إذا متُّ ولـم أشاهد قتل صدام، إذاك تأتي وتقــــف عـلـى قبــري وتصـــرخ بصوتٍ عالٍ ثلاثَ مرات:
- سقطَ الطـاغية. سقط الطـاغية. سقط الطـاغية.
* * * 


عطش
رجــلٌ خمسينيٌ أنيقٌ عازبٌ يرتدي بدلـةً زرقاء وقميصاً أبيض تزيّنه بابيونـــةٌ حمــراءُ زاهية. شَعْرُ رأسه أبيضُ ناعــمٌ مثل تسريحـــة شعر الممثـــل الأميركي جونـي ديب. شاربـه ابيض كثّ عـريضٌ مصفرٌ من الوسط مثل شارب فريدريك نيتشه. دائما سيجارته مشتعلــةٌ بين شفتيــه الزرقاوين. يسبِّح بيسراه بمسبحة خرزُها أحمر كبيــر لامع. يمســـك بيمناه دراجـةً هوائيـةً هنديـةً نـوع هيرو ذات الحجــم 28 حمــراء. لم أشاهده يركبها قط حتى وفاته. كـان يجوب أسـواق الناصرية. كهـولٌ ورجالٌ وشبانٌ وصبيةُ المدينة يمازحونه بمحبة سائلين إياه ضاحكين:
- يا طارق يا ابن زياد، لأي شيء أنت عطشان؟
يجيبهم صارخــاً بقـوة. بقـوة زئير أســدٍ هصور حطّمتْ قلبي أنـا العازب الأربعيني:
- لامرأة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم