السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - بجانب نهر التايمز اللندني كنا نقف

فاروق يوسف
تحت الضوء - بجانب نهر التايمز اللندني كنا نقف
تحت الضوء - بجانب نهر التايمز اللندني كنا نقف
A+ A-

كنت جالساً على ضفته، وما من نهر. لم تكن هناك سوى ساقية قليلة المياه. قال علي جبار، وهو رسام عراقي مقيم في لندن، إن البحر يبتلع المياه وحين يعيدها تغرق كل بيوت الشاطئ. أدركتُ الآن سبب كل تلك السدود الكونكريتية التي بُنيت أمام سلالم البيوت ونوافذها وشرفاتها. لم تحدثني ديانا بار عن غيرترود، فقد تكون لا تعرفها غير أنها ذكّرتني بها. ربما يكون هنا شبه طفيف بين السيدتين. لم تكن هناك نوارس. التايمز نهر متواضع في هذه المنطقة بالذات.


على الجسر يمر قطار الأنفاق. لا اعتقد أن نوم السمك ممكن في هذا الوقت من النهار. كنت أفكر بما تأخذه مياه النهر معها في كل مرة تذهب إلى البحر فيما كان المقهى يضج باللغات المرحة. الانكليزية لغة ثانوية في لندن، غير أنها تشكل الهوية الجامعة لكل القادمين من مختلف انحاء الارض. ذهبت مس بيل إلى بلادي قبل قرن من مجيئي إلى بلادها هارباً من ثلوج أسوج. لم تكن المرأة التي افتتحت القرن العشرين بملك عربي على العراق فاتحة، غير أنها صارت كذلك في ما بعد. الخاتون هي التي صنعت مملكة محيت بعد ثلاثة عقود من موتها. أشار صديقي الرسام إلى مقهى قريب قائلاً إنهم هناك يقدمون أشهى أنواع السمك مع البطاطا. هل كان لورنس العرب يتناول غداءه فيه؟ لورنس كان صديق مس بيل. عملا معاً من أجل أن يتوج فيصل بن الشريف علي ملكاً على العراق. كانا مغامرَين أغرتهما الصحراء برمالها الذهبية، غير أن الفرق بينهما كان كبيراً. أخبرني علي أن ديانا، شبيهة مس بيل، قد أخبرته بأنها رسامة مثله. انتقلت من الشقة التي أسكنها الآن لتعيش مع صديقها. صرتُ بعد ذلك الخبر أتوقع ظهور أشباح الكائنات التي كانت ترسمها في كل لحظة. تلك الكائنات لا تسكن اللوحة إلا مضطرة. حياتها الحقيقة تقع في مكان آخر. لا بأس. سيكون عليَّ أن أرى آثار أحدهم في الحمّام أو في المطبخ. لم أكن قد نظرتُ إليها إلا جانبياً، فعلقت صورتها في ذهني باعتبارها شبحاً لمس بيل التي شغفت حباً بفتّوح، خادمها السوري الذي ما إن مرض حتى ارتبك مشروعها "ألف كنيسة وكنيسة" في تركيا. كانت مياة التايمز تجري بالرغم من قلتها. مرآة لما أنا عليه من خفة. مرةً أخرى في تاريخي الشخصي، أكون كما لو أنني لم أعش حياة بأكملها. سيكون عليَّ أن أبدأ في لندن من جديد. في شارع تشيزك الكبير عثرنا، زوجتي وأنا، على مطعم يقدم وجبة السمك والبطاطا. كان مطعماً هندياً. هل استورد الانكليز وجبتهم الاساسية المشهورة من الهند؟ كان الزبائن خليطاً من الأفارقة والأوروبيين. لم يكن هناك هندي قط. كانت النادلة الهندية نحيفة بنظارتين وكان لطفها منزلياً. قلت لزوجتي "هي في منزلها ونحن ضيوفها. ستكون الوجبة شهية". بالفعل لم يكن هناك شي محايد في الطعم والنكهة والرائحة. كل شيء كان خفيفاً كالسمك. البطاطا المقلية لم تكن مثقلة بالدهون. كنا قد وصلنا ونحن نمشي على الشاطئ إلى المطعم الذي يقدم الأكلة الإنكليزية المشهورة حين أشار علي إلى عدد من البيوت المتراصة. قال إنها مخصصة لكبار السن. كانت المنطقة الصغيرة خفيفة ومتوارية ومزهرة كما لو أنها سقطت للتو من جنة سماوية. قال صاحبي ضاحكا إنهم يمهدون الطريق أمام المسنّين للوصول إلى الجنة. إنها جنة أرضية كانت مس بيل تبحث عنها بين الآثار. المرأة التي فتنتها بابل، لم يخنها القدر حين ماتت في بغداد ودُفنت في مقبرة الانكليز بالوزيرية. لطالما مررتُ بقبرها هناك يوم كنت أدرس الفن على مقربة منه. كان الملك فيصل الأول حريصا على أن يناديها "يا أختي".


ثرثرات الآنسات الجميلات
أيتها الآنسة، يا أختي، لم تعد الجيوش تعبر البوسفور. للشارع نهر غزير بأسماك اتخذت أشكالاً أنثوية، كل شكل منها يستحق أن يُرسَم بأسلوب ديغا حين رسم راقصات الباليه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كل سنتيمتر طولاً وعرضاً من ذلك السطح، هو مساحة تتضارب الألوان فيها لكي تصل إلى صفائها ونضارة عناصرها. يتعلم المرء أن ينغّم خطواته فلا تقع خطوة على خطوة سبقتها. لا تلتهم خطوة أرضاً هي من حق خطوة ستلحق بها. تضع الأنوثة يدها على الصراط فيبدو مستقيماً وهو يتلوى. من أين تخرج كل هذه الحشود الأنثوية؟ يبدو الشاطئ مكتظاً بالأصوات فيما يسترخي التايمز على كفّ الغمام. أتخيل مدينة يغطيها الضباب فيما الفتيات الخارجات من المدارس بثيابهن الزرقاء يوزّعن على الهواء فراشات من ضحكاتهن. كانت مس بيل وهي أخت مليكي، قد مشت معهن منسابةً في نحافتها، رفست الرصيف مثلهن لتُسكت قدمها المتمردة. أية ثرثرات كان عليَّ أن أسكتها وأنا المسافر بين لغة تخونني وأخرى صرت مولعاً بخيانتها؟ توهمتُ أني رأيت ابن زريق وقد لجأ إلى زقاق جانبي من أجل أن يفلت من العطر. كان عليَّ أن أحبط أرقه من أجل الكثير من الزرقة في العيون. لم يعد هناك ما يوجعه. لقد تأخر الوقت على كل شيء. جئت متأخراً يا صديقي. كان في إمكان ركبة إحداهن أن تلهمك قصيدة أخرى. سأركن مخدتك جانباً، فلم يعد نزلكَ قائما. بغدادك لم تعد قائمة. لم يغمر التايمز قصيدتك الوحيدة بمياهه الفائضة، غير أنها اختفت مثل كل شيء في بغداد العباسية. "هو الذي رأى" وهو الذي في الوقت نفسه لم ير شيئا. جارتايَ في المشهد هما كوكبان يتبادلان أقمارهما اللغوية. يحطّ قمر على لسان لينعبث قمر آخر من عين لا تزال أهدابها تحرك الهواء بارتباك. أكان كل ذلك جزءا من الفنون المدرسية التي لم أتعلمها من الآنسات النضرات اللواتي كن يغادرن ثانوية العقيدة بعد جسر الجمهورية ببغداد؟ كنت أقف يومياً في ساعة خروجهن متأبطا آخر كتاب لم أقرأه، فيما عيناي تزحفان بقلق على السيقان البيضاء من غير أن تصلا إلى الركب. كان الوقت يمر سريعا وكانت الضحكات المموسقة تسخر من شهوتي. أكنت ميتاً في حالة إنعاش؟ لم أكن في الحقيقة أملك شيئاً سوى ذلك الحياء البصري الذي يجعلني محلقاً في هواء يفصل بين ساق وآخرى. "هناك شبح". أهذه هي الجملة التي يبدأ بها البيان الشيوعي؟ أهو الكتاب الصغير الذي كنت أحمله وأنا أتأمل مشهد الفتيات القادمات من النهر؟ أنا ذلك الشبح بعد أربعين سنة. "لن تكون تعيسا بعد اليوم" "كنت سعيدا أكثر مما تظن" "لمَ كل هذا الندم إذاً؟" "لأنني يومها لم أكن قادرا على استيعاب معنى الأنوثة. كان مليكي يناديها يا أختي وهي حبيبته. لم يرها حين اختصرها بالأخت التي كانت بعيدة. مس بيل كانت أكبر من مملكته وهي التي صنعت منه ملكاً.


نخب صاحب البيت الذي ستغمره المياه
أقف مسحوراً بجانب النهر. أهو النهر نفسه؟ لم تكن السماء هناك رمادية. الرمادي يحيلني دئما على لوحة الطريق لدو ستايل. في السنتين الاخيرتين من حياته كان رافع الناصري يحدثني عن مشروعه "بجانب النهر". يخبرني أنه لم يتخيل أنه يملك ذاكرة بصرية بهذا الصفاء. كان قد كتب رحلته إلى الصين ولم ينس أول وردة صينية رسمها. يومها خفت عليه من عصف الذكريات الماكر. من عودته وهو في السبعين إلى كركرات الطفولة. لم يكن ذلك النهر سوى الفرات، أحد ثلاثة أنهار في الجنة. جنة الناصري كانت تقيم على مقربة من يده في المرسم الذي ما إن أتم تأثيه حتى بعث لي صورا بانورامية له. قال: هي ذي جنتي. ومثلما توقع، كان ذلك الجانب من النهر قد زود يده أنغام القواقع. مساحات لونية منضبطة يقع بعضها فوق البعض الآخر لتضيء ليله القادم بفوانيسها. كان هناك حشد من الصيادين فيما كانت القوارب الرياضية الصغيرة تمر بهدوء مثل سلسلة ملونة. همستُ لرافع الذي خيّل إليَّ أن شبحه يقف إلى جانبي: سأصف لك جنة قد لا أتذكرها حين أكون في عمرك. أكان عليه أن يترك جنته ويسافر؟ كانت جانين يانسن تعزف بالكمنجة قطعة من هاندل تذكّر بفيروز. أضع بين الجمل الموسيقية الكلمات التي غطّاها الناصري بأصباغه لكي تنعم برائحته. التايمز بلا رائحة. هنالك بيت بُني وسط النهر على جزيرة صغيرة، يقول علي إن المياه ستغمره حين يرتفع النهر. في انتظار تدفق المياه من الأبواب والنوافذ يمضي صاحب ذلك البيت أوقاتاً سعيدة في شواء السمك. يرفع كأس النبيذ الأبيض بين حين وآخر للماشين على الشاطئ: نخبكم! يطلق المارة ضحكة متآمرين. لن تكون موجودا في المرة المقبلة. لا حفلة شواء ولا نبيذ أبيض بل لا سقف لبيت. ستحل الزرقة التي ستتقافز بأرانبها بين زوايا البيت الذي غمرته الأصباغ بالذكرى. لم تعد منازلنا الأولى إلا حشداً متململاً من الذكريات. ما بين غرفة الضيوف والمطبخ يمشي النمل ليصل إلى المكتبة. يقرأ النمل الكلمات ولا يفهم الجمل. تحضر الجمل دائما ناقصة. لقد مزج رافع الأرض والسماء ووضع ذلك المزيج في قلب حصاة، كان طفلا يوم رماها في النهر. هل كان عليه أن يستعيدها قبل الموت مثلما استعيد خشوعي وأنا أقف أمام قبر الخاتون في مقبرة أنيقة منسية يمر بها القطار البطيء الذاهب إلى الشماعية؟ كان المجانين هناك يلحنون باللغة. يا أختى، يقول لها الملك الذي مات مسموماً في سويسرا بعدها بسبعة أعوام وهو يقصد "يا حبيبتي". غيرترود تمسك بيدي مثلما فعلت ديانا التي سُرّ علي جبار حين اكتشف أنها رسامة. ستكون هناك جماعة سرية، أعضاؤها صاحبة البيت ومستأجره وصديق المستأجر. زرقة النهر هي نفسها زرقة عيون الآنسات الخارجات بصخب من المدرسة. كان ينبغي لي أن أتحاشى الوقوع في مصيدة جملهن الضاحكة بشبقها المجنون. تربك تلك الجمل مشيتي فأقرر الوقوف متأملاً النهر الأجنبي، نهر إليوت في قصيدته "الأرض الخراب"، مثل قط صيفي تخيفه ذكرى شتاء سابق. قال علي وهو يتجول بي في الحديقة الواسعة الملاصقة لمرسمه إن البارون ترك لنا بيته بغرفه التي صارت مراسم وحدائق بسناجبها الرمادية التي يمكن أن يستعمل شعر ذيلها في صناعة فرش الرسم. قلت لنفسي إن السناجب هي الآخرى إحدى نبوءات البارون الراحل. يا لسعادة ورثته من الرسامين! غيرترود كانت قد أورثتنا ملكا، غدرنا بعد ثلاثين سنة من وفاتها بحفيده. أهكذا تكون الشعوب الحية؟ لم يكن الاعتذار من حقي. لن أكون ملكياً أكثر من الملكة التي عاشت طويلاً فاضطر ابنها الذي صار مسنّا أن يتنازل عن ولاية العهد لإبنه وليم. سيكون تشارلز ملكاً مؤجلاً لن يذكره التاريخ إلا بتلك الصفة الغامضة. كانت غيرترود ستصير ملكة مؤجلة لو أنها أنصتت إلى "يا حبيبتي" بدلاً من "يا أختي".


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم