السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

أموس غيتاي يعرّي عقيدة اليهودي المتطرف

المصدر: "النهار"
أموس غيتاي يعرّي عقيدة اليهودي المتطرف
أموس غيتاي يعرّي عقيدة اليهودي المتطرف
A+ A-

أموس غيتاي يشارك في مهرجان البندقية بفيلم بالغ الأهمية، "رابين، اليوم الأخير"، مصوّراً التحقيقات التي تلت اغتيال اسحاق رابين قبل 20 عاماً، كلحظة عالقة في مسار التاريخ. في شريطه البديع هذا، غيتاي هو القاضي والمحقق والمخرج والمناصر للقضية الفلسطينية والعلماني الغاضب، الذي يواصل استجواب المجتمع الاسرائيلي، أمراضه وعقده وعدم تسامحه والاجتهادات الدينية لبعض من حاخاماته المتشددين القتلة. في عدة مقابلات أجراها في البندقية، لم يخفِ غيتاي قلقه من تنامي ظاهرة التدين اليهودي التي صرّح بأنها تطيح بأي محاولة لبناء تفاهم مع الآخر، والتهديد الذي تمثله هذه الظاهرة تطال الفلسطينيين كذلك، وقد ذكر في هذا السياق حادثة الرضيع الفلسطيني الذي تم حرقه على يد برابرة. نال غيتاي اذن الدخول الى ملفات لجنة التحقيق، وعاين كلّ الأرشيف الذي سبق الاغتيال وتلاه، ليخرج بخلاصة ان اسرائيل زادت تطرفاً وبطشاً بعد رحيل رابين. "اليوم، الآخر عندنا غير موجود"، قال مخرج "أنا عربية" لوكالة الصحافة الفرنسية.


عوّدنا غيتاي في السنوات الأخيرة على أفلام لطيفة تتخلى عن خطاب التبعية لمصلحة بناء فكرة المستحيل الممكن، ولكن قدرتها على ازعاج اسرائيل كانت محدودة. مع جديده، "رابين، اليوم الأخير" (مسابقة الدورة 72 من مهرجان البندقية المنعقدة حالياً)، الذي يتطرّق الى اغتيال الرئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين في الرابع من تشرين الثاني 1995، يرفع الرهان عالياً. والرهان هنا مزدوج: سينمائي وسياسي.


بدايةً، ينبغي القول ان بعد "فرنكوفونيا" لسوكوروف، نحن ازاء فيلم آخر مادته الأصلية لقطات مصوّرة من الأرشيف. بيد ان الأهمية لا تكمن في اللقطات نفسها بقدر ما هي في كيفية انصهارها مع اللقطات التي صوّرها سوكوروف وغيتاي. الاثنان يحتكمان الى المادة الخام ليؤسسا فوقها خطاباً مغايراً، حدّ انه لا يعود للأرشيف القيمة ذاتها بعد ذلك.


يعيدنا الفيلم عقدين الى الخلف، الى ذلك اليوم حيث تجمّع آلاف الاسرائيليين في ميدان ملوك اسرائيل خلال مهرجان خطابي مؤيد للسلام غداة اتفاق أوسلو. ثلاث طلقات نارية أطلقها يغال أمير، يميني من اليهود الارثوذكس، أنهت حياة رابين، وأحدثت شرخاً في الحياة السياسية الاسرائيلية. بالنسبة لغيتاي، هذا الاغتيال غيّر الكثير، وسيكون هناك دائماً ما قبله وما بعده. في المؤتمر الصحافي قال عنه انه "سدّ النافذة الصغيرة المطلة على عملية السلام في الشرق الأوسط ضمن مسار طويل في الاعتراف بالآخر". يصوّر غيتاي حاخامات وأتباعهم يبررون القتل عبر الاحتماء بفكرة ما يُعرف عند بعض اليهود بـ"الدين روديف"، وهو قانون يبيح قتل اليهودي الذي يسبب الضرر ليهودي آخر.


يرتكز نصّ "رابين" على التحقيقات التي أجرتها لجنة شمغار، وهي تحقيقات استهدفت بشكل أساسي الاهمال الأمني والبوليسي الذي أودى بحياة رابين. أما الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالمسوغات الدينية والأسباب الاجتماعية مثل اضطهاد الفلسطينيين وسرقة أراضيهم وبناء مستوطنات عليها، التي جعلت المجتمع الاسرائيلي مجتمعاً غير مسامح، ضميره ملطخ بالدماء، فهذا لم تتطرق اليه اللجنة الا قليلاً. وهذا هو مأخذ غيتاي، من جملة المآخذ التي يبلورها، وهو يتجسّد على لسان احدى الشخصيات. في هذه الهوة، يبني المخرج فيلمه الأخّاذ الذي يخطف الأنفاس منذ أول لقطة، وذلك رغم بلوغه الساعتين ونصف الساعة. كلّ ما يريده غيتاي من قضية رابين، محاولة فهم الظروف الثقافية والاجتماعية والدينية التي حدث فيها الاغتيال وتشخصيه أدق تشخيص ممكن.
خطاب غيتاي واضح لا لبس فيه خلافاً للعديد من الأفلام الاسرائيلية، وإن بقي خارج الكادر أحياناً. انه خطاب قديم لكنه يتجدد بأبهى اسلوب: العنف لا بدّ ان يجرّ العنف، ما نفعله بالفلسطينيين ينعكس علينا، والدين ليس بريئاً من هذا كله. خطاب عاقل، بلا شكّ، والأهم انه يساعدنا في فهم كيان العدو، اي فهم حاضره في ظلّ ماضيه القريب، واستيعاب ما يجري في المنطقة برمتها والأحقاد التي تمتد اليها. "رابين" عمل تفكيكي بالغ الأهمية، لا يذعن السهولة، يجري فيه غيتاي خيارات سردية بالغة التعقيد، لكنها مبررة في سياق قضية تنطوي على عدد من الثغر. فمن خلال الاستجوابات لعدد من المسؤولين وأصحاب القرار، يتبين مثلاً ان السيارة التي نقلت رابين الى المستشفى بعد اصابته، احتاجت الى نحو ثماني دقائق للوصول، على الرغم من ان المستشفى لا يبعد أكثر من 500 متر عن موقع الجريمة. هناك سعي واضح من غيتاي في توريط المخابرات الاسرائيلية والقول انها ضليعة في الاغتيال، أقله بسبب الاهمال أو توفير جوّ من الاحتقان في البلاد أدت اليه. القاتل معروف، شاب في الخامسة والعشرين يقول ان الدين اليهودي حرّكه. أما المسؤول عن الاغتيال، فمن هو؟ لا أحد. هذا الـ"لا أحد" هو الذي يشغل غيتاي.


سينمائياً، هذا أفضل ما أنجزه غيتاي منذ سنوات طويلة، وذلك لأنه يعمّق الأسئلة ويترك اجاباتها معلقة في ضمير مَن لا يريدون اجابات. يمكن القول انه وجد المسافة المناسبة لتصوير الحدث وإلقاء نظرة نقدية عليه بعيداً من فخّ السينما البيداغوجية الهادفة. حتى تقنياً، يتفوق هنا غيتاي على نفسه والآخرين، سواء في اللجوء الى اللقطة الطويلة المستمرة التي تحدث ترابطاً رهيباً بين الفعل وردّ الفعل، أو عندما يضخ الشحن الايقاعي الذي لا يتلاشى حتى في مشاهد الحوارات التي تجري داخل الجدران. غيتاي بارع في خلط الأوراق ثم اعادة ترتيبها، وايضاً في جعل "جانرات" سينمائية عدة تتعانق، من الثريللر الى فيلم التحقيقات. نصّه مبطن، هادئ، لا يتخبط في مستلزمات سينما المواقف، منتهى الصرامة في تشكيل المشهد. نحن ازاء متتاليات ليس الهدف منها الاقناع، بل الاحاطة بالقضية من كلّ الجوانب، وحتى لو استلزم الأمر الذهاب الى شلّة من اليهود المتشددين الذين يتجلى من خلالهم خطر التطرّف والأصولية. في هذه النقطة تحديداً، يظهر غيتاي جرأة كبيرة في تعرية القاتل الذي يسكن في كلّ يهودي متطرف، ورده الى بهيميته.


 


[[video source=youtube id=ZfxJl5UWfCM]]


 


[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم