السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

قراءة باردة في ثوابت ومحرّكات "حراك" بيروت "الحار"؟

المحامي كارول سابا
A+ A-

وهلّق لوين؟ الخروج من المأزق أم الدخول إليه؟ هل في الحِراك الحالي مَلامح جديدة للخروج من ضوابط سُيِّج بها لُبنان منذ عشر سنين من خلال منظومة 14 و8؟ هل من إمكانية نوعية للتغيير ليُفرَج عن الوطن والدولة المدنية الحاضنة للجميع، من نفق "كونفيديرالية" الطوائف القاتلة للدولة والوطن؟ أسئلة لا بد منها، فالضبابية تلفُّ مَعالم المرحلة السياسية المُقبلة. ثورة، انتفاضة، حِراك، انفجار داخلي، مُحاسبة إلخ. كَثُرت التسميات لحِراك يحتمل أكثر من قراءة واحدة. فهو عمليّة مُركَّبة ومُعقّدة، يتداخل فيه الداخلي والخارجي على مُستويات عدّة. نعم هناك اليوم أرضية خصبة قابلة لتخطّي منظومة 14و8 التي مَيَّعَت الدولة وأضعفتها، والوطن إلى حد الانهيار، كونها فقدت دورها الداخلي وغطاءها الخارجي. قد يكون في حِراك اليوم مجموعة تحرُّكات، معلومة وغير معلومة، ظاهرة وغير ظاهرة، فيها قُطُبٌ مخفية أم جلية، قد يكون فيه منظومات فكرية سياسية على تناقض من أقسى الليبرالية إلى أقسى الماركسية، مُتفاهمة أو مُتنافسة. مهما يكن من أمر، يُخطئ من يَعتقد أن غداً هو يومٌ جديد إن لم نقرأ جيداً، بجرأة نقدية، بعمق وموضوعية وواقعية، المسارات القاتلة التي أوصلتنا إلى هذه المهالك ونعي في الوقت نفسه بواقعية تحديات ما يحصل اليوم في لبنان والمنطقة. يُخطئ من يَعتقد أن عودة "وعينا الوطني" من سباته العميق، هو كافٍ لإنهاء منظومة 14 و8 المُهترئة بين ليلة وضحاها. ويخطئ من يعتقد أن المنظومة الطائفية التي أنتجت 8 و14 انحسرت، وأن زمن الدولة "المدنية" بزغ وشمسُه سَطَعَت.
فالسياق التاريخي للصراع في لبنان هو سياقُ مُزاحمة شرسة بين القيمة "الوطنية"، التي كانت المبدأ، والقيمة "الطائفية"، التي كانت الاستثناء، إلى أن طوَّع المبدأ الاستثناء تدرُّجاً وطغى عليه بفعل ثلاثة مشاريع مُتتالية ومُتشابهة "للقبض" على السلطة المركزية في لبنان. قامت كل هذه المشاريع على مقياس نموذج المارونية السياسية، الذي تلته السنية السياسية، ثم الشيعية السياسية. في كل مرة كان "القبض" على السلطة المركزية يَمنع الشراكة الميثاقية الفعلية ويُقيم مكانها علاقة "تبعية" بين القابض والمكونات الطائفية الأخرى، لا تستديم إلا على المحاصصة الطائفية المصلحية وتوزيع المغانم. فأمست الطائفية العامل المُسيِّر لكل العيش السياسي، فتلاشت الدولة الوطنية الجامعة وسقطت، وبسقوطها لم تُحمَ الطوائف، بل كُشفت جميعها وضَعُفت منظومتها. علَّنا اليوم نعي جميعا أن طغيان الطائفية على القيمة الوطنية قاتل للوطن، كما أن قتل الطوائف بعلمانية راديكالية غير مُمكن لكونه يشكل مشاريع حروب غير مُتناهية. لا خلاص، إذاً، إلا بعودة التوازن بين القيمة الوطنية والقيمة الطائفية لمصلحة الأولى. وحدها الدولة المدنية الحاضنة للمواطن والطوائف على السواء قادرة على تأمين ديمومة الوطن والطوائف من خلال ديموقراطية توافقية وديموقراطية عددية متوازنة لحظها الطائف الذي لم يُطبَّق بعد. نعم ما يحدث اليوم في بيروت فيه مَطارحُ رجاء، لأنه يُبشِّر بعودة الكلام "الوطني" مكان الكلام "الطائفي" المُفرط الذي عشعش في كل مَفاصل عيشنا الوطني. فلأول مرة منذ زمن بعيد، أعداد كبيرة من الشعب اللبناني تتوثَّب في ساحات بيروت دون ان تكون مدفوعة من "محادل" 14 و8. للمرة الأولى تتظلل كلها بالعلم اللبناني الجامع "فقط" مُعرِّفة عن نفسها من خلال المواطنة اللبنانية فقط دون الانتماء الطائفي. للمرة الأولى تهتف على تنوعها بشعاراتٍ ومطالب عابرة للطوائف والأحزاب تُحاكي كلها عمق الألم اللبناني المُشترك."فورة" الشعب اللبناني هذه فورة مشروعة، مفهومة ومُتوقَّعة، نابعة من رحم عِظَم مُعاناته وهي تنبئ بالتغيير المُمكن إذا وُجد الوعي الوطني. أصبح جلياً منذ فترة لكل مُراقب موضوعي غير مُصطَفّ أن مدة صلاحية مَنظومة 14 و8 انتهت.
المطلوب وعي كبير، وجرأة مدروسة وحكمة غير مُتناهية لوضع ضوابط فكرية ومنهجية لاستنهاض ما هو أبعد من الحِراك الحالي، أي الرؤية الوطنية الجامعة مع ركائزها التي تجذب الطاقات الوطنية والهِمَم، وتُجنِّب لبنان صِدامات من نوع جديد نحن بغنى عنها، وتُرسي خطة طريق مسؤولة شاملة فيها سيرورة إنقاذية فعلية وجديَة للبنان، فننتقل من الحالة الاعتراضية إلى حالة الصحوة الوطنية البنّاءة.

المحامي كارول سابا
(باريس)

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم