الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

اسطنبول بين الأكواريوم السياحي والطوطميّة الإسلامية

محمد أبي سمرا
اسطنبول بين الأكواريوم السياحي والطوطميّة الإسلامية
اسطنبول بين الأكواريوم السياحي والطوطميّة الإسلامية
A+ A-

تركيا اليوم، هي الوجهة السياحية العالمية الأولى في الشرق الأوسط، بعد تراجع مصر في هذا المجال. تبرز تركيا "العدالة والتنمية" الأردوغانية، في السياسات الاقليمية والدولية الشرق أوسطية، وخصوصاً في ما يتعلق بالمأزق السوري المأسوي الدموي، قطباً إقليمياً رئيسياً راجحاً. لكن هذه القطبية تضع تركيا في مأزق داخلي، يكشف عن تهافت السياسات الإقليمية والدولية. في رحلة لأيام عابرة في اسطنبول ومرمريس، تدافَع خليطٌ من المشاهدات والانطباعات والمعطيات حول السياحة في تركيا، ودورها السياسي والأمني في سوريا، ومأزقها الداخلي. اضافة الى حضور السوريين، ولقاء بالصديق الكاتب ياسين الحاج صالح، المقيم في اسطنبول.


من يطلُّ على جادة الاستقلال من مرتفع ساحة "تقسيم"، تطالعه غابة من رؤوس البشر متحركةً على مدى البصر بين أبنية قديمة غير عالية على الجانبين. قوة مغناطيسية للنهر البشري تجذب الواقف عند منبعه من الساحة الفسيحة، ناظراً إليه، قبل أن يبتلعه خفقانه المستطيل بعد خطواته الأولى فيه. يستسلم العابر ويسلّم للخفقان جسمَه الذي يصغر، يتضاءل، ويذوب حتى الاختفاء أو الامّحاء في دبيب الحشود الراطنة بلغات لا تحصى. ضجيج داخلي عميق، مختنق رتيب وثقيل، يتصاعد من النواحي والجهات، ويخيّم كثيفاً وسميكاً فوق غابة الرؤوس المتحركة. كأنما المنضوي في الحشد وضجيجه، يدخل في بطن حوتٍ ضخم. لكن الضجيج لا يعلو ولا يصخب، في صدوره عن ملايين الهمهمات التي لا تخفت ولا تكلّ ولا تتلاشى إلا في ساعات الفجر والصباح المبكرة. ضجيج أو دبيب مبنّج وغير مسموع لألوف الأقدام، مترسّب في القاع، وربما تمتصّه حجارة الغرانيت السوداء الفاحمة التي ترصف الجادّة. يتحسّس الجسمُ إيقاع الدبيب، فلا يسمعه، بل يمتلئ سمعه بخفقان النهر الرتيب المؤلف من الأصوات، من دوّامات الأصوات والكلام وحركات الأجسام في مشيها مشياً بطيئاً متعرجاً في نهرها المتدفق بعرض نحو 15 متراً، هي عرض جادة الاستقلال.
لا تهدأ أمواج البشر المتدفقة مزدحمةً متهاوية، متمهلة ومسرعة، بإيقاعات متفاوتة متباينة، ذهاباً وإياباً بلا فواصل، في هذه الجادة المخصصة للمشاة بطول أكثر من 3 كلم، مستقيمة بانحناء وانخفاض قوسيين بسيطين في وسطها، وامتدادها من ساحة "تقسيم" الكبرى، وربما الأكبر في اسطنبول، الى ساحة داخلية صغيرة تتفرع منها شبكة شوارع صغرى وأزقة للمشاة أيضاً، منحدرة على إحدى تلال المدينة السبع على طرفي آسيا وأوروبا، يفصل بين بعضها مضيق أو رواق البوسفور المائي ومتفرعاته الصغيرة.
الآن، بعد مضي أيام على المشي مراتٍ وسط حشود تلك الجادة، يحضر في الذاكرة مشهدُها البانورامي المُباعِد ومن خارجها، أقربَ الى مشهد قبائل من النمل البشري، كل داخل فيها يسعى ويتوق الى الاستغراق في صوفية الحشد والجموع الآنية العابرة، والى تلاشيه في الوقت والزمن، وتلاشي الوقت والزمن. لكن صوفية الجمع هذه مفككة، ذاتية، فردية، مدينية، حرّة، على النقيض من صوفية الحشد السلطاني، العصبية، العدوانية، الحربية، القاتلة، والمدمرة غالباً.


الشارع – المعرض
السائح أياما ثلاثة في اسطنبول، هارباً من مستنقع الانحلال والتحلّل الماديين والمعنويين والأخلاقيين في العمران والحياة اليومية والأماكن العامة، على الطرق والشوارع والأرصفة وفي النظام العام، في بيروت ولبنان، تبهره متانة التنظيم، حيويته وقوته، البديهية والتلقائية، على النمط أو المثال الأوروبي في "عاصمة" تركيا، التاريخية والاقتصادية والسياحية. في المرة الأولى والثانية، مُبهرٌ هو المشي ذهاباً وإياباً في تدفق النهر البشري في جادة الاستقلال، بينما تتردد في الحواس والوعي والمخيلة أصداء عقود من الجوع البيروتي واللبناني الكئيب الى المدينة والتمدين، الى انعقاد مشاهد ونمط حياة مدينية غير مختلة، موقتة وفوضوية دائماً، وصلت الى الانحلال الزريّ شبه المكتمل أخيراً. لكن هذا الانبهار أثناء السير وسط أمواج نهر المشاة في الجادة الاسطنبولية، لا يُخمِدُ ذلك الجوع ولا يطفئه، إذ يشعر السائر للمرة ما بعد الثانية في الجادة، أنه في معرض أو أكواريوم بشري ضخم.
على جانبي هذا الأكواريوم، تصطفّ متاجر الألبسة الجاهزة من ماركات عالمية شتى: المصنّعة في تركيا، وفقاً لتصاميم دور الأزياء الأوروبية ومواصفاتها المعولمة، والمستوردة جاهزةً من بلاد المنشأ الأوروبي، والمصممة والمصنوعة محلياً في تركيا. تتخالط هذه المتاجر مع مطاعم الفاست فود المعولمة، وكذلك المطاعم التي تقدم مآكل وأطباقاً من المطبخ التركي الغني المتخم بدهون لحم الضأن (الأغنام) المنتشرة قطعانها في أرجاء هضبة الأناضول الضخمة المترامية. وكان المؤرخ الفرنسي الكبير الراحل فرنان بروديل قد أحصى في كتابه "المتوسط والعالم المتوسطي" ما تستهلكه اسطنبول من أطنان اللحوم والزبدة والسمن، عندما كانت عاصمة عالمية أمبراطورية في القرن السادس عشر. لا يزال المطبخ التركي الاسطنبولي اليوم، يستحضر أصداء ذاك التراث، بعد تحديثها لتُناسب عصر السياحة المعولم الذي تقدم مطاعمه لحم الضأن مطحوناً بدهونه الوفيرة، مشوياً على الفحم، أو مطبوخاً مع أصنافٍ من الخضر في مقدمها الباذنجان المزدهرة زراعته في سهوب هضبة الأناضول الغنية بمياه الينابيع والأمطار والثلوج. لكن الخضر والفاكهة المتوسطية أو الشرق أوسطية بأنواعها الكثيرة، وفيرة الانتاج وعالية الجودة في الأسواق التركية. وهي الى جانب اللحوم، أساسية في المطبخ التركي الغني بالمحاشي. أما لحم البقر أو العجل، فلا يبدو أنه حاضر في هذا المطبخ، وربما يقتصر استهلاكه على أسياخ الشاورما العارمة المعروضة في المطاعم.
للحلويات التقليدية، المهجّنة والمستحدثة بعشرات الأصناف والألوان، مهرجانها في مطاعمها ومتاجرها في جادة الاستقلال وسواها من الشوارع. أشهرها مطعم – متجر "حافظ مصطفى" على مدخل الجادة لناحية ساحة "تقسيم". زحام الزبائن في هذا المطعم – المتجر، وخصوصاً من السياح العرب والخليجيين، في الذروة طوال النهار وحتى ساعة متأخرة من الليل. والداخل إليه في أي وقت يُتْخَمُ، إذ تصدُّه زحمة الآكلين وضجيجهم الصاخب، عن تناول أي قطعة حلوى من أكداس أصنافها الفاخرة المعروضة بوفرة هائلة. قالت لبنانية تقيم وتعمل في اسطنبول منذ سنة تقريباً، بعدما دعتنا الى محل "حافظ مصطفى" المهرجاني، إن قطعة الحلوى التي طلبتها وشرعت في تناولها، يدخل في تحضيرها لحم الدجاج المطحون. لراحة الحلقوم الملوّنة والمطيّبة بعصائر الفاكهة المختلفة ونكهاتها، إضافة الى حلويات الملبن المحشوة بالجوز واللوز والمطيّبة بالبهارات على أنواعها، مهرجانها الاستعراضي في محال جادة الاستقلال و"تقسيم" وغيرهما من الساحات والشوارع.
أما البوظة المصنوعة على الطريقة التقليدية، فتقدم على نحو فولكلوري استعراضي في المحال المخصصة لها على جانبي جادة المشاة. فعلى مداخل تلك المحال يقف خلف البرّادات عمّال في زيّهم الفولكلوري الشامي أو التركي التقليدي المزركش، فيُخرجون فجأة وسريعاً من فجوات البرّادات أمامهم، كتلاً من البوظة الملونة. زنة الكتلة منها تزيد على الرطل (2,5 كلغ)، يفرزها العاملون بملاعق معدنية كبيرة، ثم يلوّحون بها عالياً في الهواء الطلق أمام أبصار الزبائن والعابرين. هذا قبل أن يعيدوا الكتل الى البرادات في حركاتٍ راقصة، فيخاف العابرون من انفلاتها من الملاعق وسقوطها على رؤوسهم أو بين أقدامهم على الارض. لكن كتل البوظة الراقصة في الهواء لا تسقط إلا في مواضعها في فجوات البرادات، فيما يضرب عاملو البوظة الفولكلوريون المدرّبون بملاعقهم الكبيرة أجراساً معلّقة عالياً فوق رؤوسهم على مداخل المحلات، فيُجفِلُ رنين الأجراس الصاخبُ المفاجئ الزبائنَ والعابرين. لا ينتهي مهرجان البوظة الفولكلوري عند هذا الحد، بل يتجاوزه الى ملاعبة العاملين زبائنهم. فبعد أن يقدموا لهم قطع البسكويت المخروطية فارغةً كي يضعوا لهم فيها مقادير من البوظة، سرعان ما يخطف العاملون من بين أصابع الزبائن القطع المخروطية التي يلصقون بها ملاعقهم المحملة بوظة، ثم يرفعونها عالياً، قبل أن يعيدوها الى أيدي الزبائن المتفاجئين بخفة الحركة اللاهية المتكررة لمرتين أو ثلاث.
تكثر على جنبات جادة الاستقلال وفي وسطها بسطات صغيرة لبائعي الكستناء المشوية على الجمر، والموضّبة بإتقان، ساخنةً وجاهزة للأكل، على صفيح البسطات الصغيرة. والحق أن كستناء هضبة الأناضول المشوي صيفاً، لذيذ الطعم، كالذرة المشوية أو المسلوقة في طناجر كبيرة يتصاعد منها بخار من على عرباتٍ يوقفها الباعة الجوالون ويتنقلون بها وسط الحشود المتدفقة بإيقاعات وأمزجة وسحنات ولغات كثيرة، لكن لا أثر فيها للتنافر ولا للتدافع. كأنما هنالك ضابط إيقاع خفيّ ينظّم تلقائياً انسياب حشود المشاة المختلطة المتهادية في الاتجاهين على طول الجادة وعرضها. تتكاثر على جنبات الجادة أيضاً عروض فنّ الشارع الحيّة العابرة، يؤديها أفرادٌ أو مجموعات صغيرة من عازفين على آلات موسيقية، يتصدرها الأكورديون الذي يكثر الأطفال بين عازفيه. هناك أيضاً فرق من مؤدّي القدود الحلبية السوريين المتكاثرين في اسطنبول. وللكرد والترك والعراقيين والسوريين وسواهم، حضورهم في عروض الشارع هذه. قد تكون أبرزها تظاهرات المحتجين الصغيرة الذين يعرضون صوراً وشعارات، ويوزعون بيانات ومنشورات، هي غالباً كردية وتركية، يسارية الهوى والتوجه والمطالب.


المعضلة الكردية
المعضلة الكردية الداخلية المديدة في تركيا، تخالطها اليوم ومنذ سنوات ثلاث أو أربع على الأقل، المسألة السورية ومآسيها التي يشكّل فرعها الكردي السوري هاجساً كبيراً في السياسات التركية وانقساماتها الداخلية، بين التيارات القومية والإسلامية واليسارية التركية، وامتداداتها الكردية. تزايدت هذه الانقسامات إبان حروب كوباني (عين العرب) الكردية السورية على الحدود التركية، وتدميرها دفاعاً عنها من هجمات تنظيم "داعش" ومحاولاته اجتياحها. تسارع مأزق السلطات التركية و"حزب العدالة والتنمية" التركي الاسلامي، في أثناء الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تركيا، وخصوصاً بعدما أظهرت هذه الانتخابات قوة التحالف الكردي واليساري التركي الذي فاز حزبه، "حزب الشعوب الديموقراطي"، بزعامة صلاح الدين دميرطاش (الكردي التركي)، بـ13 في المئة من أصوات الناخبين في عموم تركيا، وبكتلة نيابية بلغ عدد أعضائها 80 نائباً في البرلمان التركي الجديد. هذا الأمر أثار حفيظة "حزب العدالة والتنمية" الحاكم في أنقره بزعامة رجب طيب أردوغان، وحرمه من الأكثرية النيابية التي تخوّله تشكيل الحكومة الجديدة منفرداً.
السياسة التركية لـ"العدالة والتنمية" ورجب طيب أردوغان في سوريا، والاصطفافات الجديدة في الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة، وتعرجات المعضلة الكردية المتشعبة والمزمنة في تركيا مع مستجدّها السوري، هي العوامل المتشابكة التي حملت الحكومة التركية المستقيلة بعد الانتخابات، والمستمرة موقتاً في الحكم برئاسة أحمد داود أوغلو، على توسل الحرب الجوية على "داعش" في سوريا وعلى "حزب العمال الكردستاني" في جنوب تركيا الشرقي وفي شمال العراق وجبال قنديل، والشمال السوري الكردي، حيث يسيطر "حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي" و"وحدات" ما يسمى "حماية الشعب الكردي" المسلحة بزعامة صالح مسلم، كواجهة كردية سورية لـ"حزب العمال الكردستاني" التركي بزعامة السجين عبدالله أوج ألان، المعتبر حزبه إرهابياً في تركيا، والمدرج على لائحة الارهاب الأميركية.
الحرب الجوية التركية – المزدوجة، بل المثلثة، التي تشنّها اليوم حكومة أردوغان وأوغلو، بمقايضة أميركية لقاء استعمال الطائرات الأميركية قاعدة إنجرليك التركية في حربها على "داعش" – هدفها خلط الأوراق في الداخل التركي، لإجراء انتخابات نيابية جديدة، بعدما تعذّر تشكيل الحكومة التركية في أعقاب الانتخابات قبل نحو شهرين اثنين. وقد تذرّعت الحكومة التركية في حربها هذه بما اعتبرته "تهديداً للأمن القومي التركي" جراء التفجير الانتحاري الدموي بالناشطين اليساريين الكرد في مدينة سوروتش التركية الكردية الحدودية، أثناء حملتهم الاحتفالية لإعمار كوباني الكردية السورية. الحرب الجوية التركية هذه، قوّضت سنوات من المفاوضات والهدنة بين "حزب العمال الكردستاني" اليساري والعسكري وشبه الستاليني، المتحصنة قيادته الميدانية في جبال قنديل العراقية الكردية، وبين السلطات التركية، في محاولة جادة قادها "حزب العدالة والتنمية" بزعامة أردوغان، لمنح الكرد الأتراك (أكثر من 15 مليون نسمة) حقوقهم المدنية ودمجهم الاجتماعي والثقافي في نسيج المجتمع التركي، لقاء تخلي حزبهم عن السلاح، بعدما عاشوا عقوداً من القمع والتمييز، مكتومين في جمهورية كمال أتاتورك القومية العسكرية القوية المتماسكة.


سياسات ودول متهافتة
لكن، أيّ منطق هذا الذي دفع السياسات الأردوغانية الى شن حرب جوية على الكرد الأتراك الذين تعرضت جماعة يسارية منهم في مدينة سوروتش الى تفجير انتحاري انتقامي قتل وجرح العشرات منهم في مجزرة يقال إن منفذها من انتحاريي "داعش"؟! إنه منطق السياسة الذرائعية غير المنطقي والشائع اليوم في السياسات الدولية للقوى الكبرى أو العظمى والإقليمية. وهي سياسات موضعية أو بالمفرّق، متضاربة، لا يجمعها جامع سوى منطق القوة والمصالح الاقتصادية القومية المعولمة. كما أنها تغذي الحروب الأهلية وتتغذى منها، وتبعثها، وتقوّض الدول وكياناتها السياسية وتدفعها في مسارات أدت وتؤدي الى تفككها جماعات أهلية عصبية متحاجزة أو متناحرة. هكذا تندفع سياسة "العدالة والتنمية" الأردوغانية الى شن حرب جوية على جماعة قومية في تركيا، هي الكرد الأتراك، كي تقوّي موقع الحزب الحاكم في انتخابات نيابية مبكرة!
الحق أن مثل هذه السياسة، شديدة التدافع والتهافت في آنيتها القصيرة النَفَس والنظر. مثال هذه السياسة وموطنها الأبرز في العالم، ما يدور اليوم في الشرق الأوسط ودوله الفاشلة وشعوبه المفككة المتحلّلة، لتتناهبها حروب أهلية عاصفة ومدمرة. الحروب هذه أهلية وداخلية، قدر ما تستثمر فيها وتتوسل بها دول إقليمية لا تزال، بالرغم من أزماتها واضطرابها وتشققاتها الداخلية القومية والوطنية، متماسكة قوية على الصعيد الإقليمي (إيران، السعودية، تركيا، ومصر). الحروب إياها تستثمر فيها وتتوسل بها أيضاً القوى الدولية العظمى. فتتراكب وتتداخل وتنعقد سلسلة من الاستثمارات في هذه الحروب التي ليست حروباً أهلية إلا بقدر ما هي إقليمية ودولية: من اليمن إلى ليبيا، مروراً بالعراق وسوريا والمذابح اليومية فيهما، وصولا إلى جنوب تركيا الشرقي، ولبنان في بؤسه، ومصر الأشد بؤساً.
هذا كله في بلاد وديار أُنزل فيها القول القرآني: "خلقناكم أمماً وشعوباً لتعارفوا"، فإذا بالأمم والشعوب والجماعات والأحزاب والعصابات الإجرامية في هذه البلاد والديار، تقلب ذاك القول إلى ضده ونقيضه: إنما نحن أمم وشعوب لنتقاتل ونتذابح.
أما تركيا "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي، فقد تكون دخلت في عظام أمبراطوري مستجد، يسابق عظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو الفارسية الشيعية، وينافسه. لعل ما يحدو تركيا "العدالة والتنمية" الأردوغانية في طموحها وعظامها هذين، رغبتها في تصدّر الشعوب والجماعات السنّيّة المشرقية المتصدعة والخائفة والمشتتة، وسواها من الجماعات السنّية في آسيا الوسطى المتذمرة من الهيمنة الروسية. الرغبة هذه، المماثلة للطموح الإيراني الفارسي، تتغذى أيضاً من الماضي الأمبراطوري العثماني، غير البعيد زمناً. هناك في تركيا ما لا يلجم هذا الطموح ويقيّده: الغياب السياسي للقوى الليبيرالية الديموقراطية التركية الحديثة، الحاضرة بقوة على الصعيد الاجتماعي وفي مشهد الحياة الاجتماعية وتنظيمها في الجمهورية التركية الحديثة التي تتصدر المشهد السياسي فيها اليوم التيارات والقوى الإسلامية، والقومية، واليسارية الفائتة أو العتيقة، المتضاربة والمتصارعة في توجهاتها السياسية.


المدينة وسحرها
بعد ظهر الإثنين 20 تموز الماضي، شيئاً فشيئاً تحولت الحشود السياحية في جادة الاستقلال حشوداً متظاهرة، احتجاجاً على السياسات الحكومية التركية في سوريا، مباشرةً عقب التفجير الانتحاري الدموي في سوروتش قبل ظهر النهار نفسه. استمرت التظاهرة حتى المساء، هاتفةً ضد أردوغان وحكومة داود أوغلو، ورافقتها صور عبدالله أوج ألان وشارات حزبه وصور ضحايا المجزرة الـ32 من الناشطين الكرد. علمنا أن المتظاهرين خليط من الكرد واليساريين الأتراك ومناصري "حزب الشعوب الديموقراطي".
كان مثيراً وساحراً اختلاط السياحة والترفيه والتسوق بالحشود المتظاهرة في مشهد واحد وشارع واحد للمشاة. بدا أن رواد الشارع – الجادة العابرين وأصحاب المتاجر والمقاهي والمطاعم والعاملين فيها، متعوّدون على مثل هذا الاختلاط، أقلّه منذ سنتين، حينما شهدت ساحة "تقسيم" وجادة الاستقلال وسواهما من الشوارع القريبة، تظاهرات واسعة استمرت قوية ومتقطعة أكثر من أسبوع، احتجاجاً على حكومة "العدالة والتنمية" برئاسة أردوغان، بعدما قررت إنشاء مجمّع تجاري ضخم في حديقة غيزي العامة المحاذية للساحة. المتظاهرون آنذاك، على الرغم من عنف هراوات الشرطة وخراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع، أحبطوا المشروع، ونجت الحديقة على التلة من التجريف التجاري. هذا ما أتاح لنا في النهار التالي لتظاهرة جادة الاستقلال في 20 تموز الماضي، أن نستمتع باستراحة رخيّة لساعة في هواء الحديقة الطلق المنعش، تحت صفاء زرقة سمائها البهي. كنا عائدين من رحلة نهارية في اسطنبول الآسيوية، عابرين عرض البوسفور في عبّارة، ذهاباً وإياباً، تهبُّ علينا نسائم مائية، منعشة، يعادل نقاؤها نقاء مياه الرواق البحري الذي تمخره العبّارات، كوسيلة نقل عام من أماكن متفرقة ومحددة على شاطئ المضيق، مرة كل نصف ساعة، من الصباح المبكر حتى ساعة متأخرة من الليل.
ما يضفي سحراً مضاعفاً على اسطنبول، وعلى التنقل بين تلالها المنفصلة بالأروقة المائية، هو تنوع وسائل النقل اليومي العام في المدينة، كثافتها وانتظامها وسهولة استخدامها: من العبّارات المائية تمخر البوسفور، إلى نفق للمترو تحته، إلى جسور معلّقة فوقه. ومن شبكة واسعة للأوتوبيسات، إلى الترامواي الكهربائي الفخم، إلى خطوط المترو فوق الارض، إلى سيارات التاكسي العمومية. ففي الانتقال بين نواحي اسطنبول وتلالها، تطالعك متاهة من المشاهد المتنوعة من العمران المتآخي مع أخضر الطبيعة وزرقة الماء، وشوارع للمشاة تفوق الحصر في كل ناحية. توزع المدينة العالمية الكبرى على تلال متقابلة بين الأروقة المائية، يجعلها مختلفة تماماً عن المدن المنبسطة أو المسطحة التي لا يريك التنقل والعبور فيها سوى أجزاء متقطعة ومتتابعة من مشاهدها. أما التنقل في اسطنبول، فيشعرك بأنك تحلّق طائراً بين متاهة أجزائها المنتشرة والمرئية كلوحات عمرانية فسيفسائية على تلال تحوطها متاهة أخرى من الأروقة المائية.


الدين والكحول
قبل مدة قصيرة شهدت جادة الاستقلال تظاهرة للمثليين جُبهت بالغاز المسيل للدموع الذي جُبهت به في المساء التظاهرة الاحتجاجية الكبرى في 20 تموز الماضي. لم تكن القنابل أُطلقت عندما غادرنا الجادة إلى متاهة الشوارع والأزقة المخصصة للمشاة والمتفرعة من ساحة صغرى على الطرف الآخر للجادة. كنتُ أحمل زجاجة من البيرة، فجلستُ إلى طاولة على رصيف مطعم صغير للمآكل التركية يكثر فيه السياح الأوروبيون. عندما شاهد الشاب العامل في المطعم زجاجة البيرة على الطاولة أمامي، قال إن تناول الكحول محرّم في مطعمه. حملتُ الزجاجة وابتعدتُ خطوات، ثم جلستُ على درجات مدخل بناية قريبة. قبالتي على مدخل مطعم حديث الطراز، كانت تقف فتاة عارية الساقين في شورت أسود، تحمل في يدها زجاجة بيرة. بعد وقت قليل عدتُ إلى الطاولة في مطعم المآكل التركية الشعبية المتهاودة السعر والمحببة لدى السياح الأوروبيين، فلفتُّ الشابَ العامل إلى تفرد مطعمه في الامتناع عن تقديم الكحول وتحريم تناوله في المطعم. قال بعربية أعجمية حاقدة النبرة إن متناولي الكحول ومقدميه هم بلا دين. بدت عبارة "بلا دين" من الكلمات القليلة التي يجيد لفظها بالعربية. وعندما أشرتُ إليه بأن مطعمه محاط من كل جانب بمقاه ومطاعم ومرابع ومتاجر صغيرة تقدم الكحول وتبيعه، كرّر قائلا إنهم كلهم بلا دين.
كانت ساعة تقريباً قد مضت على مغادرتي المطعم وسيري متباطئاً في شوارع المشاة القريبة الهادئة، متفرجاً على واجهات متاجر تعرض سلعاً متنوعة من المصنوعات الحرفية التقليدية التركية الفخمة والمصممة بأساليب ومواصفات حديثة. فجأةً سمعتُ انفجارات متباعدة، ولمحتُ في شارع قريب مشاة يتفرقون مسرعين. انتزعتني الأصوات والمشهد من المكان وزمنه، وأرتني كل شيء من حولي على سمت وشكل مختلفين تماماً، كأنني انتقلت إلى زمن ومكان آخرين، وحدثت فجوة مفاجئة في وعيي وذاكرتي. دخلتُ، في حال من الحيرة والريبة، وكمن يصحو من منام، إلى مقهى في شارع صاعد بدا خالياً إلا من أشخاص قليلين قلقي الحركة في أعلاه. فجأةً بدا لي المقهى الخالي إلا من فتاتين وشابين جالسين خلف واجهته المشرعة بلا زجاج يفصلها عن الرصيف، أنيقاً بهيّ الجمال في هدوئه. أمام الأربعة كؤوس من البيرة، وهم بدوا غير مكترثين قط بالانفجارات المسموعة وبالحركة المتوترة في أعلى الشارع، أو كأنهم يخمدون مشاعرهم حيال ما يحدث. قال شاب منهم إن ما ينفجر هو قنابل غازية لتفريق المتظاهرين إلى متفرعات جادة الاستقلال، وإنهم متعودون على مثل هذه الحادثة وهذا المشهد في مناسبات كثيرة. في نبرة محايدة باللغة الإنكليزية، انتقد الأربعة سياسات حكومة "العدالة والتنمية" وأردوغان، معتبرين أنها محابية لـ"داعش". قال أحدهم أيضاً إن أردوغان لو لم يكن محابياً لـ"داعش" لأقفل الحدود السورية – التركية من زمان. وصلت موجة طفيفة من الهواء المحمّل الغاز إلى رصيف المقهى، فاستمر الأربعة على عدم اكترائهم، وقالت فتاة إن الأمور ستعود إلى طبيعتها بعد قليل. صديقة لبنانية فتنها جمال اسطنبول التي تزورها للمرة الأولى، قالت للفتاة في ما يشبه التمني أو الرجاء: إن عليكم الحفاظ على اسطنبول. كأنما خلف قولها هذا استحضرت مصير بيروت ولبنان المأسوي المريع، فأجابت الفتاة: نحاول، نحاول قدر الإمكان.
أما أنا فقد انتبهتُ إلى سروري المفاجئ بزوال الطابع السياحي لعلاقتي بالمدينة والمكان والأشخاص والأشياء من حولي، وتبدده. قبل مغادرتنا المقهى، فكرتُ أن أقول للفتاة شيئاً ما عن سروري ومعناه وأسبابه، لكنني لم أفعل. غير أني في عصر النهار التالي، عدتُ إلى المقهى، طامعاً بتكرار لحظات الأمس التي أخرجتني من الأكواريوم السياحي. وحيداً تناولتُ كوباً من البيرة، جالساً خلف الواجهة المشرّعة على الرصيف. قبل أن أغادر، أصرّت الفتاة نفسها – وهي تعمل في المقهى وتديره – على تقديم كوب البيرة مجاناً لي، كأنها في إصرارها هذا تردُّ على ما لم أقله لها في لقاء الأمس.


السياحة المعولمة
هل مؤسف ألا ينكسر أكواريوم الزمن السياحي الضخم الذي أمضيتُ ثلاثة أيام وسط حشوده وخلف زجاجه في اسطنبول، سوى في لحظات واوقات غير متوقعة، أولها تظاهرة احتجاجية وتفريقها المعتاد بالهراوات والغاز المسيل للدموع، ولقائي العابر في تلك اللحظات المتوترة، أربعة اشخاص اسطنبوليين في مقهى في احد الشوارع الصغيرة للمشاة والمتفرعة من جادة الاستقلال؟
الأكواريوم او الزمن السياحي، اعني ان تمشي وتتنقل في شوارع، تجلس في مقاه ومطاعم، تتصفح وجوهاً عابرة، تبصر الاماكن والاشياء والبشر، وتسجل حواسك المشاهد في الذاكرة والمخيلة، كأنك مخدر وسط حشود وجموع مخدرة مثلك، ومثلك تلهث في الاماكن والاوقات نفسها، وفي مشاهد متكررة، معدّة ومؤلفة مسبقاً، كما تعدّ وتؤلّف وتصوّر مشاهد الكارت البوستال والالبومات التذكارية، واشرطة الفيديو الدعائية عن الفنادق والعطور والسلع وشركات الطيران والوكالات السياحية والمواقع الاثرية والمهرجانات الفولكلورية.
الأكواريوم او الزمن السياحي، اعني ايضاً ان تجتاح الصناعة السياحية المعولمة، العالم والمدن والحواس والأماكن والمخيلة والعلاقات، وتلتهمها على نحو يزيل الحدود بين الواقع وصوره الفوتوغرافية والافتراضية.
في هذا الاكواريوم او الزمن او المعرض الكبير في الهواء الطلق، ينتظم البشر وحركاتهم وملابسهم ورغباتهم واهواؤهم، وحتى سيلان الدم في عروقهم، انتظاماً موحداً او شبه موحد، كأنهم نسخ متكررة تتحرك وسط ديكور مشهدي زاهٍ لزمن فندقي معدّ لرخاء فائض. فيضٌ مرهق من رخاء مبذول بلا حساب لاستهلاك المتعة المشهدية.
انها الصناعة السياحية المعولمة لحشود معولمة، تركت خلفها حياتها واعمالها ومشاغلها وبيوتها ومجتمعاتها وهمومها وعلاقاتها ومشاعرها، وجاءت لتسرح في زمن ديكوري فندقي تولّت شركات ووكالات كبرى إنشاءه واعداده وتوضيبه كاملاً، لا اثر فيه للمسات خاصة، ويصعب العثور فيه على اي شيء خاص ولحظة خاصة.
يبدو ان اسطنبول من المدن العالمية الكبرى التي قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال، مجال الصناعة السياحية المعولمة. قد يكون هذا بدأ فيها وفي سواها من المدن العالمية، في اواسط ثمانينات القرن العشرين، مع انطلاق السياحة الجماهيرية متزامنةً مع بدء الحقبة الجديدة للعولمة الاقتصادية والسياسية، ما بعد الزمن الحديث. وربما يعود اندراج اسطنبول في خريطة السياحة الجماهيرية المعولمة الى موقعها الجغرافي الذي رأت فيه الصناعة السياحية الاوروبية ضالتها في مدينة مشرقية أوروبية، تاريخية عريقة، فأدرجتها على الخريطة العالمية للسياحة.
لكن هذا كله تزامن ايضاً مع انفتاح تركيا السياسي والاجتماعي (بعد خراب بيروت)، ومع بداية قفزاتها الاقتصادية الكبرى، على قاعدة حراك وتحوّل اجتماعيين اخرجا فئات تركية واسعة من محافظتها الثقافية والاجتماعية، ومن انكماشها على المكبوت او المكتوم من اسلامها التقليدي المحافظ، بفعل التحديث القسري، القومي والجمهوري، الذي فرضته الكمالية الاتاتوركية، وعمّمته بقوة على فئات الشعب التركي. الفئات التركية الواسعة المنكمشة على محافظتها واسلامها وتقليديتها في الحقبة الكمالية وما بعدها، هي التي شهدت حراكاً اقتصادياً صاعداً، وشكلت القاعدة الاجتماعية والسياسية العريضة لـ"حزب العدالة والتنمية" الاسلامي، وسواه من احزاب اسلامية سابقة منحلة، قبل ان يتصدر "العدالة والتنمية" المشهد السياسي بزعامة رجب طيب اردوغان الذي قاد حزبه الى الحكم، بعد فوزه برئاسة بلدية اسطنبول.


الاستثمار الاردوغاني
اجتمعت هذه العوامل كلها وتضافرت سريعا منذ اواسط ثمانينات القرن العشرين، فوصل "حزب العدالة والتنمية" الى السطلة بفعل انتخابات ديموقراطية، وعلى قاعدة تحديث اجتماعي واقتصادي عريض، ممزوج بثقافة اسلامية اجتماعية، غير حركية ولا سياسية، حدودها الدولة والقومية التركيتان. سرعان ما قفزت تركيا اقتصادياً، على نحو جعلها شبيهة في بعض الوجوه بنمور شرق آسيا، لكن في العالم الاسلامي المتوسطي او الشرق اوسطي. اسلامية "العدالة والتنمية" الاجتماعية والثقافية، ونهوضه الاقتصادي بتركيا، ووصوله الى الحكم في انتخابات ديموقراطية، وجدت فيها السياسات الغربية، والاميركية خصوصاً، ضالتها ورغبتها في ظهور مثل هذا الاسلام غير الحركي وغير السياسي ولا المتزمت.
غير بعيد من الصواب، ان يكون ما تقدم، هو العامل الحاسم في العظام التركي، الاقليمي الأمبراطوري، الذي يداعب مخيلة الرئيس رجب طيب اردوغان، الشخصية والسياسية، راغباً في إزاحة صورة كمال اتاتورك الطوطمية وامجاده من التاريخ والمخيلة التركيين، ليصير هو نفسه، ليس طوطم تركيا الجديد فحسب، بل طوطم العالم الاسلامي في الشرق الاوسط، وخصوصا مع انطلاق الربيع العربي المغدور، الذي لا يتصوره (اردوغان) الا ربيعاً اسلامياً.
في الثورات العربية استثمر اردوغان بقوة في احزاب جماعات "الاخوان المسلمين" العربية (على معنى الجغرافيا البشرية وليس على المعنى القومي والوطني). هذا بعدما ركبت هذه الجماعات موجة الثورات في تونس ومصر وليبيا. وكان الاستثمار الاردوغاني الأوسع والأقوى، في حزب "الاخوان المسلمين" المصري الذي وصل الى الرئاسة والبرلمان والحكم، قبل ان تلفظه سريعاً وبقوة، الوطنية الشعبية والجيش المصريان، في ثورة شعبية عارمة، ليخرجه الجيش من الرئاسة والسلطة خروجاً دموياً وفي ما يشبه انقلاب عسكري. هذا ما اغضب اردوغان وقوّض احلامه الطوطمية الاسلامية الاقليمية التي لم يبق له منها سوى الثورة السورية التي يبدو انه اعتبرها شأناً تركياً داخلياً، ما دامت الحدود السورية التركية، تمتد على مسافة 900 كلم، وما دام الشريط الشمالي السوري، موطن الكرد الاساسي في سوريا، متصلاً اتصالاً عضوياً بموطن المعضلة الكردية في تركيا. وهي معضلة كان اردوغان وحزبه قد عزما على حلّها حلاًّ سلميا في مسار استمر نحو 10 سنين، سرعان ما قوّضه اردوغان اخيراً، تحت إلحاح خوفه من نشوء اقليم او كانتون كردي سوري، على غرار الاقليم العراقي، بعدما شرّع حدود تركيا السورية، او غض الطرف عن حركة مجرمي "الجهاد الداعشي" الاجرامي عبر تلك الحدود.
بعدما سطّر الكرد ملحمتهم الدموية المدمرة ضد تنظيم "داعش" في كوباني، واعتمدتهم السياسات الاميركية رأس حربة اساسية في حربها على التنظيم الارهابي في سوريا والعراق، تذرّع اردوغان بالتفجير الانتحاري المروع في سوروتش، وحرّر قلقه وخوفه من الكرد، واطلقهما حرباً جوية على "حزب العمال الكردستاني". الحرب هذه أهلية وداخلية في تركيا، قدر ما هي اقليمية، شأن الحرب في سوريا وفي اليمن.


ياسين الحاج صالح
قد يكون صحيحاً ان الحرب الجوية الاهلية في تركيا بعيدة مسافة عن "الاكواريوم السياحي" التركي الضخم والمعولم في اسطنبول وعلى الشواطئ التركية الغربية والجنوبية الجميلة والبهية على المتوسط. لكن ما الذي يحول دون اقدام "حزب العمال الكردستاني" على ارتكاب مجزرة في قلب اكواريوم اسطنبول السياحي؟ فالحزب الكردي الستاليني العسكري العتيق لديه رجال ونساء، شاب شعر رؤوسهم من كثرة ما اختبأوا في ظلام مغاور الجبال التركية والعراقية، على ما سمعتُ مرةً من صديق سوري كردي في ديار بكر، عاصمة الكرد في تركيا، بدايات السماح للكرد فيها بإحياء مهرجان ثقافي في العام 2004، للتعبير عن قضيتهم المكتومة في تركيا طوال عقود.
خارج أكواريوم اسطنبول السياحي، التقيتُ الكاتب الصديق ياسين الحاج صالح. كان لقائي الأول به حضورياً أو وجهاً لوجه، فلم أسأله إن كانت السجون السورية الأسدية هي التي شيّبت شعره الأملس، أم ان مآلات الثورة في بلده أشعلت الشيب مجدداً فيه. على ثلاثة أكواب من البيرة مع صديقة لبنانية، التقينا في مقهى قادنا إليه ياسين في شارع صغير للمشاة، متفرّع من جادة الاستقلال. تحدثنا عن زوجته سميرة الخليل وصديقتها رزان زيتونة وسواهما من أصدقائهما المختطفين المغيبين منذ نحو سنتين، فيما زعيم إحدى الكتائب الحاكمة في غوطة دمشق الشرقية، يقيم عروضاً عسكرية، ويزور اسطنبول ويلتقي ضباطاً من أجهزة الأمن التركي.
في مهجره الاسطنبولي يحاول ياسين مع أصدقاء من أمثاله السوريين الإقامة والعيش والتواصل مع ناشطين ومثقفين وكتّاب وباحثين أتراك وغير أتراك في مدينة لا تزال تتيح للسوريين التنفّس والتنقّل أكثر من سواها من المدن العربية، وخصوصاً بيروت الغارقة في التحلّل وفي تدابير حكومية عشوائية حيال اللاجئين السوريين. في أثناء اللقاء، وصلت إلى المقهى شابة سورية يعرفها ياسين، وهي مقيمة في اسطنبول منذ مدة، آتية من الولايات المتحدة لنصرة الثورة في بلدها.


منتدى "هامش" الثقافي
الشابة نفسها، جلست في عصر النهار التالي في الممر أمام مدخل مركز منتدى "هامش"، مع أطفال سوريين، وشرعت في تسليتهم بتعليمهم الرسم، فيما أهلهم يحضرون ندوة في المنتدى الذي تأسس في اسطنبول في الذكرى الثالثة للثورة السورية، بمبادرة من 7 أعضاء سوريين وأتراك، بينهم ياسين الحاج صالح.
من أهداف منتدى "هامش" مساعدة السوريين في اسطنبول على إحياء علاقات بالمدينة والبلد المضيف، وبالمثقفين والصحافيين والكتّاب والناشطين الأتراك، وإقامة ندوات وجلسات حوارية ونشاطات ثقافية مشتركة. فالمنتدى منفتح على السوريين والأتراك وسواهم من جنسيات مختلفة في مدينة عالمية كبرى. الندوة التي أحياها المنتدى في مركزه عصر نهار الأربعاء 23 تموز الماضي، وحضرها جمع صغير من سوريين وأتراك وعدد من أوروبيين، ولبنانيان اثنان، تحدّث فيها بالإنكليزية الباحث والأستاذ الجامعي التركي خليل ابرهيم يغنون، وقام ياسين الحاج صالح بترجمة محاضرته إلى العربية فورياً، وموضوعها "جذور العلاقة القلقة بين الإسلامية والقومية في تركيا".


تحولات الإسلام التركي
تساءل يغنون عن هوية "حزب العدالة والتنمية": أهي إسلامية محافظة، أم إسلامية قومية تركية، أم إسلامية ما بعد حداثية؟ في تسعينات القرن العشرين بدأت مناقشات تركية حول هوية هذا الحزب، ثم تجدّدت في 2011 مع انطلاق الثورات العربية. وتناولت المحاضرة المسار الطويل المتعرج للإسلام الاجتماعي والسياسي التركي، ومنعطفاته منذ انحلال الامبراطورية العثمانية. فمصطفى كمال أتاتورك، وزعامته وحكمه المشخصان، سحقا الحركة الإسلامية التركية. ونفى أتاتورك محمد عاكف، زعيم هذه الحركة، بعد ترجمته بعض مؤلفات سيد قطب وأبو الأعلى المودودي إلى التركية، واعتباره القومية عودة إلى الجاهلية.
تساءل المحاضر عن أسباب نجاة تركيا من المصير العربي المدمّر، على الرغم من أنها عاشت تمزّقات عميقة منذ الحرب العالمية الأولى، حتى عشايا وصول "حزب العدالة والتنمية" بزعامة أردوغان إلى الحكم، فأشار إلى أن الحركات الإسلامية التركية في مسارها ومنعطفاتها، تميزت بالمزج بين القومية والإسلام. وهذا ما لم تفعله قط الحركات الإسلامية العربية، وفي طليعتها جماعة "الإخوان المسلمين" المصرية الأمّ على الصعيد العربي. واعتبر يغنون أن الناصرية المصرية والبعث في سوريا والعراق، هما اللذان مزجا القومية العربية بالإسلام، في الديكتاتوريات الأمنية والعسكرية.
اللافت في محاضرة الباحث التركي هو حديثه عن إعادة فتح ما يسمّى مدارس الأئمة التركية في العام 1949، بعد مضي 16 سنة على إقدام كمال أتاتورك على غلقها ومنعها. مع الإنطلاقة الجديدة لهذه المدارس، أرسلت الفئات الإجتماعية التركية التقليدية المحافظة أبناءها بكثافة للتعلم فيها، فتخرّجت فيها أجيال متدينة محافظة، كان في عدادها جيل نجم الدين أربكان، عبد الله غولن، ثم جيل رجب طيب أردوغان. وأشار الباحث التركي المحاضر إلى أن نهاية السبعينات من القرن العشرين وانتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، شكّلا منعطفاً ونهضةً للحركات الإسلامية في تركيا وسواها من البلدان، وأديا إلى بداية عولمتها. لكن الإسلام التركي – بمزجه الحيوي الدائم بين القومية والإسلام، معطوفاً على متانة الدولة والقومية التركيتين على خلاف القومية العربية والإسلام العربي – نجا من المصير العربي الإسلامي البائس المدمّر. غير أن يغنون ختم كلامه بقوله إنه غير متفائل حيال أوضاع تركيا الراهنة ومستقبلها القومي والإسلامي في خضم المنازعات والحروب الاقليمية الدولية المفتوحة على الغارب.


الطريق إلى فتحية
في رحلة في باص للنقل العام من مدينة مرمريس وشاطئها السياحي على المتوسط، إلى مدينة فتحية على مسافة نحو 150 كلم، بدا الريف التركي الساحلي الجبلي في آن واحد، زاهراً في طبيعته وعمرانه البلدي والزراعي، لكن المتمدن والحديث. مررنا بقرى وبلدات تشبه في تنظيمها العمراني والمعماري مشاهد المستعمرات الإسرائيلية. فالعامل التنظيمي المشهدي في عمران هذه القرى والبلدات حاضر بقوة لافتة في تلاؤمه مع الطبيعة المحيطة، على نمط ومثال أوروبيين متوسطيين تقريباً. ليس من منزل واحد إلا مسقوفاً بالقرميد الأحمر، تعلوه تجهيزات تخزين الطاقة الشمسية، من دون أن ترتفع هذه البيوت أكثر من طبقتين اثنتين. حتى التصاميم المعمارية لهذه المنازل والمسافات بينها ومواقعها وأشكالها متماثلة، لا أثر فيها لأي ملمح فوضوي. كأنما أذواق مشيّدي البيوت وأصحابها، متفقة تلقائياً على تشييدها متناسبة متجانسة مشهدياً، من دون قسر خارجي أو قانوني يجبرهم على ذلك. من دون أن يعني غياب القسر، عدم وجود قوانين ومخطّطات توجيهية للبناء، بل للاشارة الى أن الأهالي يلتزمون التزاماً مزمناً ومن تلقاء أنفسهم القوانين والمخططات العامة، ويعتبرونها لمصلحتهم وللصالح العام في وقت واحد. تماماً على خلاف ما هي عليه أحوال اللبنانيين في عمرانهم التخريبي للطبيعة والبيئة ولنمط العيش في مدنهم وبلداتهم وقراهم.
كان وصولنا إلى مدينة فتحية المحلية، خروجاً من الأكواريوم السياحي الطاغي في مرمريس. ففي فتحية، يقل عدد السياح. منشأتها المدينية ودورة الحياة اليومية فيها، منظمة. لكن الطابع البلدي والمحلي التركي فيها هو الحاضر في اماكنها العامة وأسواقها، حيث يبدو الزمن الاجتماعي ونمط العيش غير سياحيين. الزمن وتراكمه ماثلان ومرئيان في الأشياء والأماكن وعلاقات الناس العابرة، على خلاف ما هي عليه الحال في الأكواريوم السياحي الذي يوقف الزمن ويدرجه في جدّة وآنية دائمتين متواصلتين.


سياحة طائفية
إلى حشود السياح الأوروبيين في اسطنبول ومرمريس، تحضر أيضاً حشود كبرى من السياح العرب. أعداد اللبنانيين بينهم ضخمة لا يستهان بها. ويقال إن أربعين طائرة من شركات طيران تكثر التركية بينهما، تتنقل يومياً، منذ الموسم السياحي الصيفي البادئ قبل مدة قصيرة من عيد الفطر الأخير، بين مطار بيروت ومطارات تركيا الكثيرة. لكن من يمضي أياماً قليلة وسط الحشود السياحية في مرمريس واسطنبول، لا بد أن يلاحظ شيئاً من التجانس الطائفي بين السياح العرب واللبنانيين الذين يقلّ بينهم المسيحيون والشيعة، بل يندرون.
ففي مركب سياحي أمضينا فيه 5 ساعات من النهار في خلجان مرمريس، كانت غالبية ركابه الساحقة من اللبنانيين المسلمين السنة، إلى قلة قليلة من الأردنيين. جرياً على عاداتهم المقيمة في بلدهم، شارك الأردنيون اللبنانيين، هرجهم ومرجهم في المركب السياحي، كأنهم في عرس، لم يكن ينقصه سوى المفرقعات والأسهم النارية التي أطلقها اللبنانيون بكثافة مروعة في مطلع هذا الصيف، فور إذاعة نتائج امتحانات الشهادة المتوسطة والثانوية، وفوز أبنائهم فيها. الأغاني الهابطة على أنواعها كانت تصخب على المركب طوال الرحلة، وسط السكون البحري الصافي في الخلجان المحوطة بجبال وتلال خضراء تنحدر مباشرة الى الشواطئ المرئية فيعانها الصخرية بالعين المجردة. سياح المركب معظمهم عائلات وأقارب وجيران، مع أبنائهم وأطفالهم. صناعات التجميل والماكياج حاضرة بقوة على وجوه النساء والفتيات. وكلما كان المركب يتوقف وقتاً قصيراً قرب شاطئ عامر بسكون أزلي، كان ركابه يحتشدون فوضوياً متزاحمين للقفز في الماء، فيعلو الصراخ مختلطاً بالأغاني الصاخبة في المركب. وكادت الرحلة أن تنتهي بضحية، على غرار الضحايا التي تكاثر سقوطها أخيراً في الديار اللبنانية. فأحد السابحين أخذ يشجع قريباً له بأن يقذف طفله الصغير إليه من المركب. وبعد قليل من التردد، قذف القريب الطفل الى الماء من علوّ اكثر مترين تقريباً، فغاص الطفل عميقاً في المياه، قبل أن يطفو خائفاً هلعاً بعد لحظات. كان مكان سقوطه في الماء بعيداً أمتاراً عن والده الذي حاول الوصول إليه، فيما الطفل يزداد هلعاً في تخبطه وبلعه كميات من الماء، وسط صراخ أمه وأقاربه على المركب في الأعلى. استمر الأمر على هذه الحال دقيقتين أو ثلاثاً قبل ان يتمكن الأب من الوصول الى طفله، هلعاً خائفاً بدوره. وحين وصل إليه وأمسكه كان منهكاً، وعانى الأمرّين في السباحة مع الطفل، قبل وصوله الى الدرج الممدود من المركب الى مياه الخليج في الأسفل.
إنها فوضى اللبنانيين القاتلة، أو على شفير الهاوية.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم