الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

تود هاينز بعيداً من جنّة هوليوود!

تود هاينز بعيداً من جنّة هوليوود!
تود هاينز بعيداً من جنّة هوليوود!
A+ A-

أحببنا الأميركي تود هاينز (1961) منذ أفلامه الاولى، وتعمّق الاعجاب مع "فلفَت غولدماين" (1998). متمهل في العمل، دقيق، قنّاص عواطف. سينمائي مستقل ينتمي الى السينما الأميركية روحاً وقلباً، تاريخها وعصرها الذهبي وليس حاضرها. فيلمه الأخير "كارول" الذي شارك في مسابقة  كانّ 68، بسيط المضمون، طموح المعالجة، نموذج من العمل الكلاسيكي الأصيل منذ الدقيقة الاولى حتى لحظة السواد التي سنبقى نتخيل من بعدها ما ستؤول اليه علاقة كارول السحاقية بتيريز. تود هاينز، في التجربة الاخراجية السادسة له، يقدم سينما حيث الجمال يولد من تلقاء ذاته والانفعال من البديهيات، ويطرح مناسبة للعودة الى هذا المخرج الاستثنائي.


تقول جوليان مور عن هاينز، بعدما مثّلت في فيلمين له: "انه لمخرج رائع فعلاً. صاحب اسلوب، والاسلوب هو الرجل كما يُقال! لديه طريقة خاصة في سرد الحكاية وهي طريقة حرّة وملموسة في آن واحد. أفلامه تتضمن الكثير من الانفعال وفيضاً من المشاعر، ما يجعلني ارغب في تكرار التجربة معه. هناك الكثير من السينمائيين الكبار، على غرار هاينز، اريد التمثيل في ادارتهم، لكني أقول دائماً ان الحياة لا تمنحنا الا القليل من الوقت، يبدو ان حياة واحدة لا تكفيني...".
عندما عُرض "كارول" في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ، هبّت عاصفة من الحبّ على المهرجان. جاءنا صاحب "لستُ هناك" بعمل استيتيكي رشيق، يعيد مجد السينما الأميركية كما سبق ان فعل يوم صوّر "بعيداً من الجنة". في نيويورك، في أحد أيام شتاء 1952، تدخل كارول (كايت بلانشيت) متجراً لشراء هدية في مناسبة حلول عيد الميلاد. تلتقي عينها عين البائعة (روني مارا التي فازت بجائزة التمثيل في كانّ وقد يتم ترشيحها لـ"الأوسكار")، المتحدرة من بيئة متواضعة. انها تيريز التي ستحبّها كارول، على رغم التباعد في كلّ شيء، المستوى الاجتماعي والعمر واختلاف النقطة التي منها تنظر كلّ منهما الى الحياة. انه الحبّ من النظرة الأولى في هذه الأفلمة لرواية باتريشيا هايثميث التي نُشرت في العام 1952. السؤال المطروح هنا: الى اي مدى يسمح مجتمع الخمسينات الذي سبق ان صوّره هاينز في "بعيداً من الجنة"، بعلاقة ممنوعة، وكم ستدفع المرأة ثمن هذا الحب؟
لم نكن ننتظر من سينمائي ألمعي كهاينز، أقل من تحفة سينمائية. مرة جديدة تتعلق الحكاية هنا بالمثلية الجنسية التي تشكل احد الأعمدة الاساسية في سيرة هاينز منذ عمله الاول الذي نال جائزة خاصة بالسينما المثلية في برلين.
مع "لستُ هناك" (2007)، قدم هاينز دراما خلابة. ففي كلمة "خلابة" يتجسد كل ما يبقى لنا من خطاب، وكل ما نقوى على الإفصاح عنه، في ختام ساعتين ونيف من المشاهدة التي فيها الكثير من لحظات العذاب والمتعة والانسجام والنفور والانجذاب والتماهي والبهجة. شأنها شأن الحياة، بأحاسيسها القوية وانقلاباتها الأسرع من أن نتداركها، والأكثر تعقيداً من أن نفهمها أو نحللها. "لستُ هناك"، يقطع الطريق على الكلام، ليبقى هذا الكلام، وحده بوب ديلان سيده وعبده، في نوع من موزاييك بصري موتور وعبثيّ. يرفض هاينز كل أشكال التعليق الاضافي والجانبي لمصلحة التماهي مع الصورة فقط.
وهل ينبغي التذكير أيضاً بأن "لستُ هناك" قلما يُفهم ما يُتوخّى منه وما يقصده وما يُريه؟ وكان ينبغي له القليل، والقليل جداً، لكي يصبح هذا الجسد الفيلمي الغريب الذي يجيء الى الصالة كأنه يحط على سطح الأرض. لكن، هل طابعه غير المفهوم يجعل قماشته السينمائية أقل انشداداً وخطابه ونصه أقل تماسكاً؟ على الاطلاق، لأن هذه الطريقة المثلى للتحدث عن بوب ديلان الانسان والفنان والعشيق و"النبي" والخارج على القانون  والأب والمواطن والمناضل والشاعر والموسيقي. لا شك أن هناك طرقاً أخرى، لكن هذه واحدة من الطرق التي تفضي بهاينز الى انشراح فني لا مثيل له، نازعاً الغبار الذي يكسو عادة سطح سينما السيرة على الطريقة الأميركية، مذ اكتشف بعض المنتجين امكان تعرية "اساطير" أميركية في فيلم سينمائي.
في كل حال، لم يكن من المتوقع بتاتاً ان يأتينا هاينز، وبعد أربعة أفلام جميلة، كلٌّ منها يحمل مذاقاً مختلفاً عن الآخر، حاملاً معه هذه الرائعة الفنية التي تعيد الى السينما الأميركية المستقلة (مع دعم من الفرنسيين) بعضا من شجاعتها المفقودة، مانحة الفرصة لعاصمة السينما الاميركية لتستردّ رونقها وتألقها ومجدها المبعثر. "لستُ هناك"، تجربة سينمائية بصرية يعيشها المرء بحواسه في المقام الاوّل. يستعين العمل بخمسة ممثلين مختلفين (وممثلة!) لتجسيد شخصية ديلان في سبع مراحل من حياته، منطلقاً من رواية اسطورة غناء الفولك الاميركي، الاولى والوحيدة التي نالت موافقة السيّد ديلان.
انجز هاينز نتاجاً بصرياً كان لينال حتماً اعجاب رامبو لو شاهده. هذا بديل صوري لقصائد الشاعر الذي لم يكن ديلان بعيداً من عالمه، بحيث استعان منه عبارته التأسيسية "أنا هو آخرٌ". وهذا أيضاً فيلم عن بحوث متعددة. أولها عن ديلان نفسه الذي يغيب ليتيح المجال أمام اشباهه الظهور نيابة عنه. والعنوان الذي استلهمه هاينز من أحدى أغنياته يقول هذه الفرضية ويؤكدها. ديلان ليس هنا. ولن يكون هنا وليس هذا مكانه. ديلان فكرة عصيّ على التجسيد. انه فكرة أكبر من أن تحبس في زمن فيلمي أو مساحة من السيللولويد الضيق. و"لستُ هنا" هو أيضاً فيلم يتمرّد على البحث عن وجه، طالما أن الوجوه يمكنها أن تُستبدل واحدة تلوة الآخرى.
يضع هاينز نفسه أمام رهان صعب بدلاً من تسهيل مهمته: الاعتماد على عناصر غير شفهية لاستذكار ديلان، وعدم اللجوء الى المسميات المباشرة: على الفيلم أن يكون سامياً ويستحق أن يرتقي الى مصاف الاسطورة التي يرويها، أو أن يختفي من وجه الأرض الى الأبد. في سبيل هذا الابهار البصري المزدحم بالألوان والاصوات والنوستالجيا، يقوم هاينز بخيارات جمالية ومونتاجية وتأطيرية راديكالية، ذاهباً في بعض المشاهد الى انتاج ما يُعرف بسينما بسيكيديليكية، تلك التي تنتج من اللقاء التصادمي بين مخيلة بصرية خصبة، كالتي يملكها هاينز، وبعض من الحشيشة الملهمة.
عندما أخرج تود هاينز "بعيداً من الجنة" في العام 2002، كان يعلم جيداً ان هوليوود الخمسينات هي غير هوليوود اليوم، والصورة التي عكستها عاصمة السينما التجارية عن محيطها وواقعها في ذلك الحين، كانت تخضع لرقابة صارمة "تسهر" على الحريات العامة. اعوام الخمسينات زمن تبلور فيه "قانون هايز" السيئ الذكر، الذي فرضته السلطات الحاكمة على جمعية السينمائيين الاميركيين، التي ظلت تعمل تبعاً للقانون المفروض عليها حتى اوائل الستينات، بحيث كان يحرَّم على السينمائي الأميركي معالجة مواضيع ساخنة، كالانحراف الجنسي والعنصرية والمثلية، الخ. لذا، عاد تود هاينز الى زمن قد تكون طرأت عليه بعض التحولات الشكلية، متسلحاً برغبة اصلاحية واضحة ترمي الى ابراز ما كان يتعذر ابرازه منذ نصف قرن، وبتصميم غير قابل للنقاش يهدف الى قيام دراسة تقارن ما بين الماضي والحاضر. لكن الرفض الذي يظهره المجتمع، هو الذي ظل مسيطراً، عندما يتبين ان هذه التحولات قد تشكل تهديداً للفكر الأميركي المحافظ.
للإنغماس على نحو أفضل في أجواء عصر هوليوود الذهبي، وجد هاينز سعادته في ان يتبع، وان يتبنى ايضاً نموذج الفيلم الميلودرامي، وسيده دون منازع هو المخرج الأميركي الالماني الأصل دوغلاس سرك الذي توّجه المراقبون "ملك الميلودراما"، بعدما اعطى هذا النوع من السينما افلاماً تعتبر اليوم مرجعاً اساسياً. ولكن، فضلاً عن قدرته على استعادة حقبة زمنية بإدارة فنية بالغة الدقة تتجنب فخاخ اعادة البناء، فقد زايد هاينز على مثله الأعلى في نقاط عدة، اولاها في كيفية طرحه موضوع المثلية الجنسية من جهة، والتمييز العنصري من جهة اخرى. فبعدما استلهم سيناريو فيلمه من الرائعة السينمائية، "كل ما تسمح به السماء" (1956)، حيث العلاقة بين سيدة البيت والبستاني الذي يعمل لديها، اقدم هاينز على حياكة خيوطه الدرامية على خلفية التصعيد السريع، لتبلغ بالتدريج ذروة المأساة، او التراجيديا الاغريقية، اذا جاز التعبير. وككل ميلودراما تستحق تلك الصفة، فإن الدور الاساسي الذي اعتبر محط الانظار في "بعيداً من الجنة"، كان الشخصية النسائية، وقد أُسنِد تجسيد هذا الكاراكتير المميز الى اهم ممثلات هوليوود في الوقت الحاضر، واكثرهن موهبة وبراعة: جوليان مور.
مور التي سبق ان أكدت حضوراً رائعاً من خلال أعمال مهمة، مثل "ماغنوليا" (بول توماس اندرسون - 1999) تعيد هنا تأهيل نموذج المرأة - الضحية التي، وعلى غرار نموذج المرأة - اللعوب، تشكل احدى الثوابت الاثيرة في العمل السينمائي الهوليوودي، وهذه المرأة الضحية كاتي، ليست سوى "بدعة - ضحية" لمجتمع يتخلص منها بعدما استغلها، وايضاً بعدما تأكد انها خرجت عن الاطر "الاخلاقية" المتفق عليها. هذه المرأة تفقد كل شيء، ويهتز استقرارها المعنوي والداخلي حين تكتشف ذات يوم ان زوجها (دنيس كوايد)، الذي لا يكترث لها الا في المناسبات الاجتماعية، على علاقة مثلية برجل آخر. الصدمة شديدة من دون شك، تليها ضربات اخرى تتمثل في ابتعاد صديقاتها عنها حين يرينها برفقة البستاني (دنيس هايسبرت) الذي يعمل في حديقة منزلها، وهذا الأخير رجل شريف، محبّ، نزيه ومتفهم، ولكن، يا للمصيبة، انه رجل اسود!؟
يتأزم الوضع اكثر واكثر ليتحول في نهاية الامر الى حال نفسية لا تطاق، عندما يعترف الزوج، بعد دعمها له وتمسكها به، بعدم قدرته على التخلي عن ميله الجنسي واستعادة الحياة الزوجية، وايضاً، حين تتعرض ابنة الرجل الملوّن للضرب بالحجارة على أيدي مجموعة اولاد، خطفهم الاحساس بالعنصرية، وزرع في قلوبهم الشعور بالعدائية والحقد. ان تداعيات هذه الحال من عدم التسامح الذي يعيشه المجتمع، ستكون كارثية على حياة هذه المرأة التي ستخسر كل شيء، في سبيل المحافظة على مبادئ وقيم تؤمن بها. هذه الاستنتاجات السلبية، ستعيد الى ذاكراتنا الماضي القريب، حيث كانت حرية الانسان الملون لا تزال مغتصبة، وقراره مسلوباً على يد عرق يعتقد نفسه اعلى منه مقاماً. بالتأكيد، كل هذه المضامين التي تخاطب الجمهور بشكل مباشر في عمل هاينز، كانت تعالَج في ما مضى بأسلوب، مبطن في معظم الاحيان، الأمر الذي كان يمنعها من الوصول الى الجمهور العريض، وبحيث كانت تصل الى بعض من يحسنون القراءة ما بين السطور.
هنا، الوضوح هو سيد الموقف. وحتى الكليشيهات احتلت المقام الاول على الشاشة. لذا، لا حرج او عيب اذا استطاع المشاهد تفكيك الحبكة الدرامية، باعتبار ان هاينز لم يشأ قطّ تعطيل مستوى البلاغة الذي تجلى في العمل. يعيد هاينز جمع ادق تفاصيل زمن السينما الذهبية، من دون اللجوء الى جمالية غير اصيلة ومشكوك في اختياراتها، بدءاً من استخدام الألوان وصولاً الى حركات الكاميرا والتأطير، وخصوصاً ان لا شيء يعدّ سراً امام هذا المبدع الذي جاء ليفضح خفايا المجتمع والواقع الاميركيين، بعد زميليه سام مانديس وبول توماس اندرسن، ويبدو ان لا شيء يعرقل محاولته للانضمام الى المواهب السينمائية المهمة.
كم هو جميل رؤية زمن "التكنيكولور" وهو يمتزج بعصر "الدولبي ديجيتال"، لاحداث صدام فكري - سينمائي  لتظهر في العلن مجدداً، أعراض مرضية تعانيها أميركا منذ منتصف القرن الماضي، على الاقل. "بعيداً من الجنة" بألوانه الزاهية، سواء في الملابس الحريرية، أو في اوراق الاشجار المتساقطة، وسط طبيعة تحبس الانفاس، قدم معادلة توازت مع سواد المضمون الذي يزداد تشاؤماً ولؤماً وقساوة. وهذه هي النظرة التي يأتينا بها تود هاينز من خلال غوصه في تاريخ سينمائي شكل تراثاً ثقافياً للكثير من المخرجين الأوروبيين، نذكر منهم، على سبيل المثل لا الحصر، الألماني فاسبيندر، والاسباني ألمودوفار، وان كانت مقاربة هاينز تتعلق بالشكل ولغة الظواهر أكثر من المحتوى، كونه بنى مشروعه بثقة كبيرة في النفس، ومن دون ان يصاب بعقدة "ان ما يقوم به هو اقل اهمية من النموذج الابداعي الذي اخذه كمثل اعلى له". اللافت في هذه المعركة بين الانسان ومحيطه، بين صرخة الضمير والقدرة على اسكاته، رد فعل هاينز الذي يتعامل مع ما يراه من منطلق فني، ومن دون ان يفقد البوصلة، او يستفز المشاهد. وهو في خياره هذا، امتلك الكثير من الحكمة والمعرفة، والرغبة في فهم الآخر.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم