الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الفن المصري في زمن "الحركة المباركة"

محمود الزيباوي
الفن المصري في زمن "الحركة المباركة"
الفن المصري في زمن "الحركة المباركة"
A+ A-

منذ ثلاثة وستين عاماً، قامت "ثورة 23 يوليو" في مصر، وحملت معها رياح التغيير الشامل إلى الشرق الأوسط. تلوّن الفن المصري بهذه الثورة في سرعة قصوى، فحمل لواءها ورفع شعاراتها، وأضحى في بعض الأحيان بوقاً لها. انتقل نجوم الغناء والتمثيل من عهد فاروق إلى عهد محمد نجيب، وتباروا في مناصرة الحكم الجديد تحت شعار "الاتحاد، النظام، العمل".


في السادس والعشرين من كانون الثاني 1952، اندلع "حريق القاهرة"، وقضى في بضع ساعات على مئات المكاتب والمحال والفنادق في شوارع وسط المدينة وميادينها. على وقع هذه الكارثة، أعلنت الحكومة الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد، وتحوّل رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا إلى حاكم عسكري مكلّف إدارة شؤون البلاد. بعد أقل من ستة أشهر، قامت مجموعة من الضباط بانقلاب عسكري أبيض أطاح الحكم الملكي، وأبقت سيطرتها على المرافق الحيوية في البلاد. حمل نائب رئيس مجلس الدولة سليمان حافظ وثيقة التنازل عن العرش للملك فاروق بعدما كتبها رئيس مجلس الدولة عبد الرزاق السنهوري، وتلا الإعلامي فهمي عمر على الإذاعة البيان الأول للثورة، قبل أن يتم تسجيله بصوت الإذاعي جلال معوّض، ثم بصوت الضابط أنور السادات. هكذا انتقلت مصر من عهد إلى عهد على يد "تنظيم الضباط الأحرار" في زعامة اللواء محمد نجيب وقيادة البكباشي جمال عبد الناصر، ودخلت في منعطف جديد من تاريخها. عُرف هذا الانقلاب باسم "الحركة المباركة"، وتحوّل إلى "ثورة 23 يوليو" بعد مرور سنتين على قيام هذه الحركة.
سارع نجوم الفن الى الالتحاق بالثورة، وأعلنوا الولاء لزعيمها اللواء محمد نجيب. في تشرين الأول 1952، اعلن رئيس "حزب العمال والفلاح" المحامي والوزير عبد الحميد عبد الحق انضمام محمد عبد الوهاب إلى حزبه، وكتب في مجلة "الكواكب": "لقد اخترت الموسيقار الأستاذ عبد الوهاب عضواً في حزب العمال، وجنّدته في الحزب تجنيداً. انه لم يُجنّد من قبل في صفوق الجندية، ولم تمتد إليه يد الفحص في العسكرية. وجئت أنا بعد أن جاوزت سن التجنيد الاجباري العام لأجعل منه جنديا في حزب العمال". رحّب عبد الوهاب بهذا التجنيد، وقال: "لم الدهشة؟ انني من مؤسسي حزب العمال، وعواطفي وقلبي وموسيقاي كلها مكرّسة لخدمة العمال، انهم عملائي، فكيف لا أكون واحدا منهم؟". في تشرين الثاني 1952، نشرت مجلة "الفن" صورة لأم كلثوم وهي تصافح حاكم مصر الجديد، وجاء في الخبر المرافق: "الرئيس اللواء أركان حرب محمد نجيب يهنئ سيدة الغناء في الشرق الآنسة أم كلثوم على توفيقها ونجاحها الذي لا حدّ له في أغانيها التي سحرت بها جماهيرها في حفل افتتاح سينما ريفولي التي خُصّص ايرادها لجمعية مشوّهي الحرب". في هذا الحفل، غنّت أمّ كلثوم قصيدة "مصر تتحدث عن نفسها" لشاعر النيل حافظ ابرهيم، وقدّمت أول مرة نشيد "صوت الوطن"، من شعر أحمد رامي، لحن رياض السنباطي، ومطلعه "مصر التي خاطري وفي دمي/ أحبها من كل روحي ودمي/ يا ليت كل مؤمن يعزها/ يحبها حبي لها/ بني الحمى والوطن/ من منكمو يحبها مثلي أنا"، وردّ الكورس على نداء أم كلثوم، وهتف: "نحبها من روحنا/ ونفتديها بالعزيز الأكرم/ من عمرنا وجهدنا". بعد هذا الحفل، غابت "كوكب الشرق" عن الواجهة وسافرت في أيار 1953 إلى أميركا للعلاج، وعادت في أيلول إلى القاهرة حيث استقبلت بحفاوة بالغة، ونقلت عنها مجلة "الكواكب" قولها: "انني أكثر شوقا إلى الغناء من الشعب نفسه".
ارتفع شعار الثورة، "الإتحاد، النظام، العمل"، وبات شعار الفن والفنانين. في كانون الثاني 1953، ظهرت "سمراء مصر" مديحة يسري على غلاف مجلة "الفن" وهي تلتحف بعلم مصر مع شعار الثورة، وحمل العدد عنوان "الفن والحرية". في ذلك الشهر، أنشدت ليلى مراد على المسرح من تأليف مدحت عاصم وتلحينه "نشيد التحرير"، ومطلعه: "على الإله القوي الاعتماد/ بالنظام والعمل والاتحاد/ فانهضي يا مصر يا خير البلاد/ واصعدي للمجد وامضي للرشاد/ بالاتحاد والنظام والعمل". بعدها، شهدت القاهرة حفلاً جماعياً استمر حتى الفجر، وتزامن هذا الحدث مع ذكرى "حريق القاهرة". كتبت مجلة "الفنً في رصدها لهذا الحفل: "شتان ما بين الأمس واليوم، وشتان بين ليلتين. ليلة 26 يناير 1952 وليلة 26 يناير 1953. ليلة سيطر فيها الشيطان على الأرواح الضعيفة وسخّرها لمبادئه وبطشه. وليلة أخرى جميلة ممتعة ساحرة جمعت الفن في أروع صورة". ضمّ هذا الحفل "أساطين الفن ونجومه، محمد عبد الوهاب ويوسف وهبي وفريد الأطرش وشادية وعبد العزيز محمود ونعيمة عاكف واسماعيل ياسين وعبد الغني السيد وسعد عبد الوهاب وصباح وعشرات غيرهم من أحب النجوم والكواكب". حضر محمد نجيب الحفل، فكان نجم الحفلة، و"كان وسام التقدير الذي قدمه لأهل الفن". غنّى فريد الأطرش مع كورس من النجوم نشيد "يا شباب"، واستهله بموّال يقول: "يا طالب الحق بين الحديد والنار/ الذل للعبد والحرية للأحرار/ مش انت وحدك نجيب/ الشعب كله نجيب/ حلف معاكو ما عدش طغيان ولا استعمار". في الساعة الأولى والربع بعد منتصف الليل، ظهر عبد الوهاب على المسرح، وتعالت الموسيقى تعزف مقدمة لحن "نشيد الحرية"، ثم بدأ عبد الوهاب يغني مطلع النشيد في صوت قوي عذب، صوت الفنان الواثق من فنه وصوته، واهتزت جنبات المسرح من التصفيق والهتاف، وظلت الهتافات تتعالى لأكثر من عشر دقائق. على المسرح، وقف ثلاثون فنانا وفنانة من نجوم المسرح والسينما يرددون بعد عبد الوهاب مقاطع النشيد في قوة وحماسة". مع نهاية هذا النشيد، انتهى الحفل، "وطلب الرئيس اللواء محمد نجيب أن يقدموا له الفنانين، فصافحهم جميعا يدا بيد، شاكرا لهم المجهود الضخم الذي بذلوه من أجل نجاح مهرجان التحرير، ثم صافح يوسف وهبي وقال له/ أرجو أن تنوب عني في شكر أهل الفن جميعا على ما بذلوه من جهد كان له أعمق الأثر في أن يُظهر المهرجان في صورة بهيجة رائعة".
قدّم عبد الوهاب في هذا الحفل "نشيد الحرية" من شعر كامل الشناوي، وكان هذا النشيد قد سُجّل أولا في مطلع العام 1952 حين ألغى رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا معاهدة 1936، وكان مطلعه: "أنت في صمتك مرغم/ أنت في صبرك مكره/ فتكلم وتألم وتعلم كيف تكره". حُجب النشيد بعد إذاعته بسبب تعابيره "الثورية" كما يُقال، وأعاد عبد الوهاب تسجيله في العهد الجديد، وبات المطلع: "كنت في صمتك مُرغم"، وفيه تعلو الصرخة: ""هات أذنيك معي واسمع معي/ صيحة اليقظة تجتاح الجموع، صيحةً شدّت ظهور الرُّكّع/ ومحت أصداؤها عار الخضوع". اختيرت مقدمة هذا النشيد لتكون شارة نشرة الأخبار في الإذاعة المصرية منذ 1953، وكرّس هذا الاختيار موقع الملحّن في تلك الحقبة الجديدة. بعدها، سجّل عبد الوهاب في ربيع ذلك العام من كلمات مأمون الشناوي "نشيد الوادي"، ومطلعه: "عاشت مصر حرة والسودان/ دامت أرض النيل أمان/ اعملول تنولوا واهتفوا وقولوا/ السودان لمصر ومصر للسودان". في نهاية آب 1954، تحدث عبد الوهاب عن أربعة ألحان اعتقلتها السلطة الملكية، وهي "دمشق"، و"إلامَ الخلف" من شعر شوقي، و"فلسطين" نظم علي محمود طه، و"نشيد الحرية". بحسب الراوي، تم حجب "دمشق" بعد احتجاج السفارة الفرنسية، وتم حجب "الام الخلف"، وموضوعها الخلاف بين مصر والسودان، بطلب مباشر من رئيس الحكومة النقراشي "بحجة أنه لا يجوز أن نعترف أمام العالم بأننا متخلفون". أوقفت الإذاعة بث "فلسطين" لأن الحكومة رأت أن "إذاعتها تتنافى مع الهدنة التي كانت قد أعلنت في هذا الوقت"، ولأن الأزهر احتج على بيت جاء فيه "يسوع الشهيد على أرضها"، ورأى أن "كلمة الشهيد تتنافى مع عقيدة المسلمين". مُنع "نشيد الحرية" بسبب جرأته، وحُرّر في عهد الثورة، ومعه حرّرت "دمشق"، و"إلام الخلف" و"فلسطين".
بعد "مهرجان التحرير" الذي شكل بداية لانطلاقة جديدة للفن الوطني في مصر والعالم العربي، استقبل محمد نجيب في آذار الوفود التي ساهمت في احياء هذه الذكرى، و"كان وفد أهل الفن مكوّناً من الأساتذة يوسف وهبي ومحمد عبد الوهاب وعز الدين ذو الفقار ومحمد فوزي وشكري راغب وأنيس حامد"، كما نقلت مجلة "الفن". "طالب أهل الفن بتحويل النقابات الفنية إلى نقابات مهنية"، ورأى الرئيس أن هذا الطلب معقول، ثم قابل وفداً ثانياً "من الأساتذة فريد الأطرش واسماعيل ياسين وأنور وجدي والسيد بدير وسعيد ابو بكر وعباس كامل وعزيز عثمان وغيرهم"، ودعا أهل الفن إلى الابتعاد عن الأغاني الخليعة والفكاهات المبتذلة و"الاكثار من الأغاني الحماسية". في أيار، أرجأت نور الهدى موعد عودتها إلى لبنان لتسجل في الإذاعة "نشيد القسم"، شعر محمود عبد الحي ولحن عبد الحليم نويرة، ومطلعه: "باسمك اللهم أقسمنا اليمين/ قسم القوة والعزم المبين/ اننا شعب على العهد امين/ ربنا كتب لنا النصر المبين". في تموز، وزّعت اللجنة الموسيقية العليا جوائز مسابقة الأناشيد، وألقى وزير الأوقاف الشيخ حسن باقوري في تلك المناسبة خطبة نوّه فيها بالغناء الوطني، ورأى "انه نوع من أنواع التقرب إلى الله كالصيام والزكاة". تحوّل عبد الوهاب إلى فنان العهد الجديد، وظهر في رسم كاريكاتوري وهو يحمل نوطة "السلام الجمهوري"، مع تعليق يصفه بـ"الفنان الذي احتقر التاج قبل أن يُلغى". في تموز أيضا، بدأ أحمد بدرخان بتصوير أول أفلام الثورة، "الله معنا"، قصة احسان عبد القدوس، بطولة فاتن حمامة وعماد حمدي. تأخر عرض الفيلم حتى شتاء 1955 بسبب تطور الحوادث السياسية في مصر، وتعديل قصته نتيجة هذه التحولات. كانت قصة الفيلم تتناول مسيرة الضباط الأحرار، وكان السيناريو الأصلي للفيلم مُعدًّا ليكون قائد الثورة هو اللواء محمد نجيب، وتم اختيار زكي طليمات لتجسيد هذا الدور الرئيسي، ولكن تم تعديل السيناريو من جديد بعد عزل محمد نجيب عن السلطة، واجباره على الاستقالة في كانون الأول 1954. حجب دور محمد نجيب عن الفيلم، كما حجب عن الحياة السياسية في مصر، وتم شطب اسمه من الوثائق وكل السجلات والكتب وتم منع ظهوره او ظهور اسمه حتى عام 1971 حيث قرر الرئيس السادات انهاء الإقامة الجبرية له، غير أنه ظل ممنوعا من الظهور حتى وفاته في آب 1984.
سافرت أمّ كلثوم إلى أميركا للعلاج في أيار 1953، وعادت في أيلول إلى القاهرة لتستأنف بسرعة نشاطها الفني. في كانون الثاني 1954، نشرت "الكواكب" صورة لأم كلثوم على المسرح، وأخرى تظهر فيها إلى جانب محمد نجيب وجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، مع تعليق يقول: "تردد صوت الآنسة أم كلثوم في جنبات الوادي بعد غيبة طويلة، ونقلت أمواج الأثير أغانيها المحبوبة إلى عشاق صوتها الساحر، وكانت الفرحة فرحتين بشفاء الرئيس اللواء محمد نجيب وتشريفه حفلة أم كلثوم في صحبة بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، وقد قوبلوا بعاصفة من التصفيق، وارتفعت الحناجر بالهتافات المدوية منقذ مصر وراعي الفن". في آذار 1954، عادت "الكواكب"، ونشرت تحت عنوان "تطهير" صورة لأم كلثوم مع تعليق يقول: "توجهت الآنسة أم كلثوم في الأسبوع الماضي إلى محطة الإذاعة لتشرف بنفسها على تنقية بعض الأغاني من فقرات خاصة بالعهد الماضي، ولانتزاع هذه الفقرات من التسجيلات حتى يمكن إذاعتها نقيّة خالصة ليسمعها شعب حرّ كريم. وقد تناولت التغييرات تسجيلات عدة، أُلغي بعضها، وحُذف الكثير من البعض الآخر. وتمثّل الصورة الآنسة أم كلثوم وهي تستمع إلى أغانيها بعد حذف بعض الفقرات منها".
وصل عبد الناصر إلى الحكم بعد وضع محمد نجيب تحت الإقامة الجبرية، وتولّى رئاسة الوزراء ثم رئاسة الجمهورية باستفتاء شعبي في صيف 1956. سعت السلطة إلى محو كل الأغاني الفاروقية، كما سعت إلى حجب كل الأغاني التي تذكر محمد نجيب بالإسم. من المفارقات، نجح متتبعو حركة الغناء العربي في الكشف عن الكثير من الفاروقيات الضائعة، غير أن الأغاني الخاصة بمحمد نجيب تبقى مجهولة، والأرجح أنها لم تنج من التلف.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم