الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - ترجمة 6 كتب للمفكر الألماني أولريش بك "مجتمع المخاطرة" يحوّل السويّة إلى عبث

محمد أبي سمرا
تحت الضوء - ترجمة 6 كتب للمفكر الألماني أولريش بك "مجتمع المخاطرة" يحوّل السويّة إلى عبث
تحت الضوء - ترجمة 6 كتب للمفكر الألماني أولريش بك "مجتمع المخاطرة" يحوّل السويّة إلى عبث
A+ A-

على الرغم من تدني الإقبال على قراءة الكتب وسواها من المطبوعات الورقية، في مقابل توسع الإقبال على تصفح ما يُنشر على الشبكة الالكترونية ومتابعته متابعة سريعة وعابرة يصعب قياس آثارها ونتائجها الثقافية، تنشط بعض دور النشر البيروتية والقاهرية (بعد تضاؤل نشاط الدور السورية) في مجال ترجمة أنواع مختلفة من الكتب إلى العربية، ونشرها. يبدو هذا النشاط، في وجه من وجوهه، مستقلاً عن سوق الطلب على الكتب وتوزيعها وتداولها وقراءتها، في ظل حديث الكتاب والناشرين الدائم والمزمن عن أزمة النشر والتوزيع والقراءة، وانصراف الأجيال، وخصوصاً الشابة، عن قراءة الكتب والمطبوعات الورقية. والحق أن هذه المسألة تحتاج إلى متابعة واستطلاعات ميدانية لعمل دور النشر، لإيضاح ما تنطوي عليه الظاهرة من مفارقات.


في السنوات الخمس الماضية ظهرت، مثلاً، ترجمات عربية لستة كتب من مؤلفات المفكر الألماني المعاصر، أولريش بك (1944 – 2015). آخر هذه الكتب، "أوروبا الألمانية: طبيعة جديدة للقوة في ظل الأزمة الاقتصادية"، الذي صدر حزيران المنصرم (2015)، لدى "دار الجمل" البيروتية – البغدادية، بترجمة محسن الدمرداش. وكانت الدار نفسها قد نشرت سابقاً ترجمة لثلاثة من
كتب بك: "هذا العالم الجديد!: رؤية مجتمع المواطنة العالمية" (2001)، و"ما هي العولمة؟" في طبعة ثانية (2012)،
بعد طبعة أولى (1999)، بترجمة العيد دودو. أما "الحب عن بعد: أنماط حياتية جديدة في عصر العولمة"، فقد شاركت بك في تأليفه إليزابيث بك – غرنزهايم، ونشرته "الجمل" (2014)، بترجمة حسام الدين بدر.
وكان سبق لـ"المكتبة الشرقية" في بيروت ان نشرت ترجمة كتابين أساسين للمفكر الألماني قبل رحيله، هما
"مجتمع المخاطرة" (2009)، و"السلطة والسلطة المضادة
في عصر العولمة" (2010)، بترجمة جورج كتورة وإلهام الشعراني.


سابقة الـ"ما بعد"
على الرغم من تعدّد المترجمين، يبدو تتابع ترجمة أعمال مفكر واحد محدد الى العربية، عملاً حسناً وضروياً، بصرف النظر عن غموض دوائر تداول هذه الأعمال والطلب عليها ومتابعتها وقراءتها.
هذا مع العلم أن افكار أولريش بك (ترد كنيته العائلية، بيك، في ترجمة كتورة – الشعراني) في الفلسفة والتأريخ والاجتماعيات والاقتصاد والسياسة في مؤلفاته، جديدة معاصرة، ومدارها الظاهرة الكونية الجديدة: العولمة وآثارها ومفاعيلها المتفاوتة والمتمادية في مجالات المعرفة والحياة العامة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وصولاً الى الحياة الخاصة والعلاقات الأسرية والفردية والعاطفية، والى أشكال الوعي والتفكير والتواصل والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. لا تغيب عن هذا المدار أشكال التعبير الأدبي والفني، وأشكال الاحتجاج الجديدة في مجتمعات العولمة المتفاوتة.
قد يكون كتاب "مجتمع المخاطرة" (نحو 600 صفحة في الترجمة العربية)، وكتاب "السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة" (نحو 750 صفحة في العربية)، الأساسيين في مؤلفات أولريش بك. فهما ينطويان، في الأرجح، على المقولات الاساسية والمفتاحية في أفكاره وآرائه وتأملاته الفلسفية في اقتصاديات العولمة واجتماعياتها وسياساتها، على ما يشي به عنوانا الكتابين هذين،
وعناوين فصولهما وقراءة بعضها. أما كتبه الأخرى المتلاحقة، فمبثوثة فيها معالجات تطبيقية لمقولاته الأساسية في مسائل وموضوعات وظواهر جزئية متشعبة في ميادين معرفية وأنثروبولوجية متعددة.
في تقديمه لكتابه "مجتمع المخاطرة"، يشير بك الى أن موضوعه هو ما يسمّيه "السابقة الحذرة" و"الضبابية" التي تنطوي عليها عبارة "ما بعد" الشائعة المتداولة على نطاق واسع، متقدمةً جملة المفاهيم الفكرية التاريخية الكبرى: التنوير أو الأنوار، ما بعد التنوير، الحداثة، ما بعد الحداثة، الرأسمالية، ما بعد الرأسمالية، التصنيع والمجتمع الصناعي، وما بعد التصنيع والمجتمع الصناعي. هكذا يبدو أننا نعيش اليوم في عالم الـ"ما بعد".
لكننا "ما إن نشرع في الحديث" عن هذه الـ"مابعد" وتعيينها وفهمها، "حتى يصبح كل شيء ضبابياً"، وتصير سابقة "ما بعد هي الكلمة السحرية الخاصة بالارتباك المتجذر في العالم" الراهن.
أما ما يحاوله بك، فهو "فهم المضمون الذي أعطاه تطور العالم الحديث التاريخي لهذه الكلمة الصغيرة على مرّ العقدين أو الثلاثة الأخيرة، ولا سيما
في جمهورية المانيا الاتحادية، أي ما بعد انهيار المنظومة السوفياتية وجدار برلين. منطلقه في هذا، ما يسمّيه "قطيعة حصلت داخل حداثة انعتقت من حدود المجتمع الصناعي الكلاسيكي، لتتبنّى شكلاً جديداً، نطلق عليه
اسم المجتمع (الصناعي) للمخاطرة". مسألة المخاطرة ومفهومها، هما ما نحته أولريش بك، وصولاً الى نحته المفهوم الشامل والمفتاحي: "مجتمع المخاطرة" الذي يعيش في خضمه عالمنا الراهن في زمن العولمة.


نهاية الطبيعة؟
إذا كان المؤرخ الفرنسي الكبير الراحل، فرنان بورديل، قد أرّخ تأريخاً موسوعياً لـ"الحضارة المادية، الاقتصاد والرأسمالية" ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر (في ثلاثة أجزاء، تقع في نحو 1500 صفحة، ترجمها مصطفى ماهر، ونشرتها "دار الفكر" في القاهرة، 1993)، فإن المفكر الألماني أولريش بك يرصد تطورات هذه "الحضارة" في نهايات القرن العشرين ومطالع الألفية الثالثة، معتمداً على أمهات المؤلفات الفلسفية وفي الاجتماعيات والاقتصاد والسياسة في الثقافة الغربية الحديثة. وذلك ليستنتج أننا "في العالم الحديث المتطور، الذي قام بكل ما يمكنه للقضاء على الإعاقات الناتجة من الولادة، وليقدم للانسان مكانة وسط النسيج الاجتماعي لا تتعلق إلا بخياراته الحرة وبأدائه، نشهد ظهور قدر مكتوب للخطر (وربما الأصح القول: ظهور الخطر كقدر مكتوب). إنه قدر من نوع جديد لا يمكن لأي أداء أن يفلت منه". الخطر هذا، يجسده "الخلط الغريب بين الطبيعة والمجتمع". فالطبيعة - "التي كانت ظاهرة خارجية" وعلى "تعارض" مع المجتمع حتى القرن التاسع عشر الذي كان "يتيح السيطرة (عليها) وتجاهلها (...) - خضعت للسيطرة والنهب، وتحولت ظاهرة داخلية، في نهاية القرن العشرين". الطبيعة الداخلية هذه، يسمّيها بك "طبيعة ثانية متكاملة مع النظام الصناعي". الاستدخال والتكامل هذان، أفقدا البشر، "إلى حدّ ما"، وسائل الدفاع حيال "التهديدات الصناعية" التي كانوا يجابهونها بـ"بناء الكهوف وتجميع المعارف"، عندما كانت الطبيعة لا تزال "خارجية" وتتيح السيطرة عليها وتجاهلها في الوقت نفسه. أما اليوم فقد "صارت الأخطار بمثابة العابرين العمي (العميان) في الاستهلاك السوي"، ما دامت الأخطار، "تنتقل مع الريح والمياه، وماثلة لدى الجميع وفي كل منا، وتدخل في ما هو حيويّ: الهواء الذي نتنفسه، الغذاء، الألبسة، وتنظيم بيوت سكننا". هكذا صار "الوجه الآخر للطبيعة الآخذة شكلاً اجتماعياً، يتمثل في جَمْعَنة الأنقاض الطبيعية التي تتحول تهديدات اجتماعية، اقتصادية وسياسية". وهكذا صارت "قواعد الحياة اليومية مقلوبة رأساً على عقب: الأسواق تنهار، وفي قلب الوفرة حلّ العوز. وانطلقت موجة المتطلبات. وصارت الأنظمة القضائية أعجز من الإحاطة بالوقائع. وصارت الإجابات عن الأسئلة الواضحة تقابَل بهزّ أكتاف مرتبك. كما صارت المعالجات الطبية غير ذات فاعلية. أما الأبنية العلمية للعقلانية فقد تداعت، واهتزت الأنظمة. والناخبون المتلونون ولّوا هاربين". نتيجة هذا كله وسواه، لم يعد "لدَرَجة تعرض الناس للخطر أية علاقة بأفعالهم، من دون أن يكون للأضرار التي يتعرضون لها أي رابط بما يفعلونه". أما "الواقع الذي ندركه بحواسنا، فيظل دونما تغيير". ختاماً: "إنها نهاية القرن التاسع عشر، نهاية المجتمع الصناعي الكلاسيكي، ونهاية مقولاته: السيادة الوطنية، التقدم الآلي، الطبقات، وإعطاء مفهوم الاستحقاق قيمته، وكذلك الطبيعة والواقع والمعرفة العلمية، إلخ".


السويّة العبثيّة
مقولة بك عن "مجتمع المخاطرة"، تخالف مقولة فرنسيس فوكوياما الشهيرة المتفائلة عن "نهاية التاريخ"، التي صاغها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وجدار برلين في نهاية الثمانينات من القرن العشرين. فصاحب مقولة "مجتمع المخاطرة"، متشائم قدر ما هو متفائل، لأن المعنى الذي تنطوي عليه مقولته عن هذا المجتمع، "له الآن طعم حقيقة". ويضيف المترجمان، على نحو غامض، كلمة "خلفي" المفصولة بعلامة إدغام (-) عن كلمة "حقيقة". أما كلمة "مر" المعطوفة على كلمة "خلفي" فلا يُدرَك إن كانت صفة لكلمة "طعم"، أو أن لها معنى المرور والعبور.
يختم بك مقدمة كتابة بإشارته الى أن "الأخطار غير الخاضعة للإدراك، علاقتها بالمعرفة، صفتها التي تتخطى القومية، الانسلاخ عما هو بيئي، (إنما) تحوّل السوية الى عبث". هذا من دون أن يكتم حسرته من إمكان "منع ما يحصل".


أخطار الترجمة
ليس هذا التلخيص لمقدمة "مجتمع المخاطرة"، إلا محاولة لعرض سريع ومكثّف لفكرة بك عن هذا المجتمع الذي نعيش فيه اليوم. وهو تلخيص مضنٍ، اعتمد التقطيع والحذف وإعادة صوغ بعض العبارات والجمل، ليكون قابلاً للفهم والقراءة. ذلك لأن الكثير من الصيغ الكتابية المعتمدة في الترجمة ركيكة المعنى والمبنى والسبك، وغير قابلة للفهم أحياناً كثيرة، لأن معناها يضيع تماما في تقديرات وتكهنات ضبابية.
على أهمية انجاز ترجمة ستة كتب لمؤلف واحد، فإن الترجمات كلها تخلو من مقدمة تعرّف بالمفكر الألماني وفلسفته، وتعرض حيثيات ترجمتها، وتضعها في سياق ما، قد يساعد في قراءتها وربطها بحقول المعرفة المختلفة.
والحق أن كثرة من المترجمين الى اللغة العربية، يفتقرون
إلى المقدرة أو الذائقة أو الحرفة أو الدربة أو المهارة أو التجربة الكتابية في هذه اللغة، فيصعب بذلك على القارئ متابعة خيوط الفكرة وأصدائها وسياقها، بسبب الأداء اللغوي المختل أو السيئ، في الصرف والنحو والأسلوب وتركيب الجمل، وصولاً الى الأخطاء المطبعية. وهذا يتفاوت بين مترجم وآخر، ودار نشر وأخرى.
لكن هذا كله لا يلغي ضرورة المنجزات المتحصلة في هذا المجال. فأن تُترجَم أعمال مفكر معاصر الى العربية، على مدى نحو 5 سنوات، يظل أمراً مهماً وضرورياً، بل تحتاج أعماله الى ترجمات أخرى، تساعد في إيضاحها وتوسيع إطارها في الحقل الثقافي العربي.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم