الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

اللاجئون السوريون في لبنان وبشاعة هذه الأيام

المصدر: "النهار"
فاطمة عبدالله
اللاجئون السوريون في لبنان وبشاعة هذه الأيام
اللاجئون السوريون في لبنان وبشاعة هذه الأيام
A+ A-

قدّمت "أم تي في" لمسلسل "غداً نلتقي" المعروض عبر "أل بي سي آي" فرصة الانتشار الكثيف، مُحرِّضة جمهوراً يتفادى الغَمّ على متابعته. سنقول إنّ التسرُّع مضرٌّ للبعض ومفيد للبعض الآخر، والمحطة بتهميشها الجوهر، جمّعت حول المسلسل أناساً بدافع الفضول وبدافع الرغبة في مواكبة ما استجدّ. المسلسل من أكثر مسلسلات الموسم جدّية واتزاناً، ليس للقهر في أعماقه والسردية الموجعة المُشكِّلة بنيته النصّية، بل أيضاً لما في الشخوص من اختزالات لأسئلة كثيرة وأجوبة صامتة. الجميع يُحتَضر من غير المجاهرة بالشهقة الأخيرة. الجميع منكوبٌ مثل أرض سوريا ونازفٌ مثل جراح أبنائها. كتب إياد أبو الشامات ورامي حنا نصاً لا يرقص فوق الجثث، وتولّى حنا بدوره إخراجاً أشبه بهندسة الصورة وتأهيلها لمواجهة مصير أبطالها. لكنّ "أم تي في" شطحت في تقرير إخباري حمّلته عنواناً متسرِّعاً: "أل بي سي آي تشوّه سمعة اللبنانيين"، ثم دعت جهاز الرقابة في الأمن العام الى التحرّك.


المسلسل جَمرٌ يكوي أقداماً تائهة، الدرب فيه طويلة والمسير مُرهِق. في رمضان 2014، حمل "سنعود بعد قليل" هَمّ اللجوء على صدره، وفي النهاية تراءى الاختناق قدراً رغم الأمل. "غداً نلتقي" أكثر تورّطاً بالهَمّ وأكثر عناية بالغصّة. كاريس بشار تؤدي دوراً يتطلّب العضّ على الألم ثم إطلاق صرخة واحدة. بشار في دور وردة، شابة تعمل في غسل الموتى وتدّعي العمل سكرتيرة في أحد متاجر الأشرفية. خجلاً أو عاراً أو حفاظاً على سُمعةٍ مُهدّدة.شخوص المسلسل تكثيف مذهل للمأساة السورية في أراضي اللجوء، وسردٌ جحيمي للذل المُعاش والنظرات المُغرِضة. يأتي السوري هرباً من خراب بلاده، فيُحمَّل ويل الأوطان التي يحلّ فيها. المسلسل عن ضغوط العيش في بقعة ضيّقة مكتظّة يملأ زواياها العتم. كاميرا رامي حنا متعِبة. لا متنفَّس في الصورة ولا ألوان تسطع. كأنّ الحوادث تجري في تابوت ينتظر أيادي تواريه الثرى. عَزَّ على "أم تي في" كيف أنّ المسلسل "مَسَّ" الأشرفية وسمح للخطاب "العنصري" بالتجلّي فيها. "أوبسسس"، كيف ذلك؟ كيف تُستَحضر سيرة الفلسطيني والسوري على أرض الأشرفية؟ أمكن "أم تي في" أن تبحث عن مَخرج آخر لتتعامل بصرامة مع "أل بي سي آي" ومسلسلاتها إذا كان لا بدّ من حرب رمضانية باردة. فلتدع جانباً "صورة اللبنانيين". منذ زمنٍ لم تعد مقنعة.


مهمّشون ومعذَّبون ومنخورون من العمق، جرفهم المسلسل الى البرّ، وراح يسلّمهم فرداً فرداً الى بحارٍ هائجة. يُبيّن السياق أفراداً مُثقَلين بأزمة الهوية وجماعات لم تُترَك لها مسافة لاستيعاب المعركة. يتضح أنّ التشظّي سيّد المواقف، وأنّه حتى الحياة بين الزوج والزوجة ما عادت ممكنة. عبد الهادي الصباغ، كما دائماً، يختزل التراكمات القاسية في هياكل المسحوقين، وضحى دبس في دور أم عبده جبلٌ يتحمَّل. يقدّم الصبّاغ دور أبو عبده مكثِّفاً عبره الحضور القاسي للحرب في النفس. لكلّ من الشخوص رواية تتعقَّب كاتبها: وردة حين ترقص وحيدة في غرفتها مدندنةً الواقع الأسود: "الدنيا زي المرجيحة يوم تحت وفوق/ في خلق عايشة ومرتاحة وفيها ناس مش فوق"، وحين لا تتقن تفسير مشاعرها وتقتل الوقت بالهروب القليل. الشاعر محمود (عبد المنعم عمايري) المُنهَك غير القادر على تحمُّل وِزْر الانتظار. عمايري شخصية مصفوعة، وجهٌ ناطق وعينان عميقتان مثل بئر. عمله شاعراً ينتظر راتباً زهيداً من المجلة، وتسكّعه في شوارع بيروت وسط الظلمات العابسة، يجعلانه رجلاً من ظلّ. تجد فيه وردة ضالة ما، تتعكّز عليه ليتّضح لاحقاً أنّه يفوقها خسارة. شقيقه جابر (مكسيم خليل) أشدّ إيماناً بالنور بعد النفق. يجد الرجلان أنّ السياسة التي خرّبت سوريا تطاردهما حتى آخر نَفَس. يُظهِر السياق ثمن الموقف، وكيف أنّ وجهات النظر تخلخل بنيان العائلة. يتفادى العمل التنظير وسَكْب المصاب كلّه على مشهد واحد. ويتفادى أيضاً جَلْد المُشاهد وتعمُّد تَلْف أعصابه. يترك للكيان السوري الجريح التجلّي من تلقائه، فلا يبالغ في تصوير الواقع ولا يتجاوزه بذريعة القسوة. وحدها "أم تي في" بالغت في الدفاع عن "سُمعة اللبناني" واصفة المسلسل بـ"العنصري".


في لبنان عنصريون كما تطفح دول عربية أخرى، وفي لبنان أيضاً كبار النفوس وعظماء الأخلاق. ليت التقرير أشار الى الاحتمالين معاً، عوض نسف إمكان أن يتورّط اللبناني بالكراهية والعنصرية. لكنّه- يا للأسف- فضّل مناشدة الأمن العام التحرّك (!) ضدّ ما أسماه "الموقف الزائف والكاذب من تعاطي اللبنانيين مع الشعب السوري". فات المحطة أنّ المجاهرة بالحريات ورفعها شعاراً لا يخضعان للمزاجية، وأنّ جهاز الرقابة ضمن الأمن العام، بكل تجاوزاته والصدأ الذي يعتريه، ليس الحلّ مطلقاً. إن أمكن الحُكم- حتى الآن- على أيّ المسلسلات الرمضانية هو الأفضل، لخَطَر "غداً نلتقي" على البال فوراً. ضرب مَن ضرب، وهرب مَن هرب، ونحن لا نزال نصدّق أنّ الذئب أكل ليلى وانتهت الحكاية. المسألة أبعد من رغبة محطة في نقد مسلسلٍ على محطة منافِسة. المسألة أنّ السقطات الأخلاقية لا تليق بالبعض، وأنّ المنافسة في الماضي كانت أجمل. لا شيء جميلاً اليوم. "غداً نلتقي" هو بشاعة هذه الأيام.


[email protected] 
Twitter: @abdallah_fatima


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم