الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مرآة للستينات ونهر ليومياتها الجارية

محمد أبي سمرا
مرآة للستينات ونهر ليومياتها الجارية
مرآة للستينات ونهر ليومياتها الجارية
A+ A-

في مرويات اللبنانيين عن بلدهم وأعمارهم، لم تعد تتردد الاً نادراً وخافتةً، تلك العبارة التي حمّلوها الكثير من الشجن والحنين والأسى: "الزمن الجميل". كانت هذه العبارة قد ظهرت في خضمّ أزمنة الحرب المديدة المعتمة (1975 – 1990)، وأخذت تصير على الألسن وفي المخيلات أيقونة عزاء عام وحميم، جمعي وفردي، في اوقات الحداد العسير المتمادي الذي أطبق على من عايشوا الحرب وخبروها أو فرّوا منها الى المهاجر. هؤلاء جميعاً انقسمت أعمارهم وذاكراتهم، انبترت وأُصيبت بجرح وقطيعة موحشة، منها وُلدت صور ذاك "الزمن الجميل" المستعادة والمتخيلة كحلم يقظة سعيد عاشوه قبل الحرب التي راحت عثراتها وسواداتها تبعث في أفئدتهم وجوارحهم الحنين الى صور ذلك الزمن وبهائه الخاطف.


لكن توقف الحرب لم يطوِ الصور تلك ولا أطفأ الحنين اليها، فانبعث الكلام عنها قوياً في مرويات زمن السلم البادئ في مطالع تسعينات القرن العشرين، والمستمر متأرجحاً رجراجاً ومنقوصاً، حتى لحظات ذلك العيد اللبناني الاحتفالي الكبير، المفاجئ والخاطف، كحلم يقظة كرنفالي سعيد عاشه لبنانيو يوم 14 آذار 2005. طوال التسعينات ظلت صور "الزمن الجميل" القديمة في الذاكرة اللبنانية، هي الأصل والأقوى حضوراً في الكلام على السلم الجديد، القلق والمضطرب والناقص، الذي لم يقو على اجتراح مثال جديد للبنان غير ذلك المثال الأيقوني الأول والمغدور.
أما اليوم، في زمن القلق واليأس الكبير، زمن التصدع والاهتراء والاستنقاع، فيبدو أن لا أفق ولا بوصلة ولا مثالات للأزمنة والأعمار والحنين، وسط دبيب هذا الخراب السرطاني الزاحف الآن بقوة وبائية تختلط فيها الأزمنة الحديثة بالقرون الغابرة. ولربما في أزمنة ما آتية من المستقبل الغامض، بعد حطام بلاد وأجيال وفنائها، يتسنى لجيل ما، أن يعثر بين الحطام على بوصلة تمكّنه من ترتيب الأزمنة وخرابها وأيقوناتها ودروسها ومثالاتها، فيلمح في هذه السطور وأمثالها خيطاً ما لاقتفاء الأثر.


أهواء الستينات ورموزها
كيف يمكن اليوم اقتفاء أثر ذلك الزمن اللبناني الموصوف بأنه جميل، الذي ما إن طوته الحرب حتى حوّلت صوره أيقونات لأحلام اليقظة والحنين؟ وما هو ذلك الجمال وما هي طبيعته ومادته وأعلامه ورموزه وملامحه؟ وكيف جرى تأليفه على الوجه الذي جعله حاضراً ومعيشاً وفريداً، فيما هو يتكون، أيام كان لبنان ومثاله في طور التشكل - وهما كانا دائماً في هذا الطور اصلا، وفقاً لميشال شيحا صاحب مقولة "لبنان في شخصيته وحضوره" - قبل أن تفاجئهما قطيعة الحرب التي أدت لاحقاً، الى تثبيت الجمال صفة لصيقة بنمط العيش اللبناني في الستينات من القرن العشرين؟
تقرّ أجيال من اللبنانيين في ذاكرتها الجمعية العامة بأن لبنان بلغ ذروة ازدهاره في ميادين ومجالات ومظاهر كثيرة في الستينات وبعض من السبعينات. لعل ما صنع ذلك الإقرار والاجماع عليه، هو الاستقرار السياسي - الاجتماعي ما بعد حوادث 1958، معطوفاً على حراك وتفتّح اجتماعيين، وعلى حركة واسعة في التمدين والتعليم ومجالات العمل الجديدة والبحث عن الرفاه والمتعة. وقد أذن ذلك بظهور نمط عيش جديد راحت أشكاله وصوره تعمّ وتتمثلها وتسعى في أثرها فئات من اللبنانيين جذبها نداء المدينة. وكان في طليعة هذه الفئات الأجيال الشابة من الجنسين التي تصدرت مسرح الحياة العامة ومشاهدها وصناعة صورها وتعميمها. لكن الزمن الشبابي الستيني لم يكن لبنانياً فحسب، بل شمل مدن العالم كله تقريباً، انطلاقاً من أوروبا، مما جعل ذلك العقد أيقونة القرن الشعرين كله. أما لبنان في مرآة الستينات فيبدو لنفسه ومحيطه الاقليمي آية وقطباً فريدين في هذا المجال.
فهو في الأدبيات السياسية والاجتماعية والثقافية اللبنانية، "الوطن الرسالة"، والحرية هي رسالته، لأنه "ملجأ الأقليات" المتباينة والمتعددة، و"المرغمة" على التعارف والتخالط، لتحيا حرة كريمة، على ما ظل يردد منظّر "رسالة لبنان الفريدة في الشرق" منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى رحيله المفاجئ، متشائماً تشاؤماً شعرياً لا يخلو من الأمل، قبل أن تدهم لبنان حوادث الشقاق الأهلي "الصغير والسريع" في العام 1958. لكنه سرعان ما نهض منها وطواها في الستينات، كما "ينهض طائر الفينيق الأسطوري من رماده"، على ما يحلو لمنظّر "الرسالة الفريدة" أن يقول.
ملامح تلك النهضة، بريقها ورموزها حاضرة في الذاكرة والأدبيات اللبنانية والعربية، كثيرة وتفوق الحصر، وفق الميول وزوايا النظر والتجارب والأهواء والهويات. لكن مهما تعدّدت هذه كلها، فإنها تتفق على حقيقة لا لبس فيها هي الحرية، على الرغم من أن هناك من كانوا (وهنالك كُثُرٌ من أمثالهم اليوم) يرون أنفسهم "غرباء" في مرآة الحرية اللبنانية التي تصوروا أنها "تُفقدهم" هويتهم العربية والنضالية اليسارية. وكان ذلك "الفقد" وتلك "الغربة" من بواعث الشقاق الأهلي في 1958. الى الحرية، هناك نمط العيش في البلد الصغير المشرف جبله على البحر المتوسط، الذي يفصله عن الأمداء الجغرافية "الداخلية" المترامية. نمط العيش هذا، بين الجبل الحاجز والمدى البحري المفتوح، من ميزات لبنان واللبنانيين، وخصوصاً في المدن والبلدات الساحلية، حيث نشأت بيروت منذ القرن التاسع عشر عاصمة ومسرحاً للتمازج الاجتماعي والثقافي المديني في فضاء مفتوح على الاستقبال والتهجين والتأليف ونشر أصداء ذلك في الآفاق القريبة والبعيدة.


"النهار" وملحقها
في طليعة التهجين والتأليف في فضاء حرّ مفتوح، هناك صناعة التعليم المحدث والكلمة والطلب الملحّ عليهما، وعلى نشرهما. الى المدارس والجامعات، هناك الصحف ونشر المطبوعات على أنواعها. وكان أن تصدّرت "النهار" الصحف وحضورها في مطلع الستينات اللبنانية، مع انتقالها من وسط بيروت التقليدي المتقادم، الى شارع الحمراء: درة الحداثة البيروتية التي جعلت منطقة رأس بيروت حاضرة مدينية وثقافية وكوزموبوليتية للمشرق العربي على شاطئ المتوسط. فـ"النهار" في عشيات الستينات بدأت تشغل دور ما كان يُعرَف بـ"الصالون السياسي" اللبناني البيروتي الذي كانت تُصنع فيه (لاسيما في أحياء السراسقة والتباريز وزقاق البلاط والقنطاري) الحياة السياسية اللبنانية منذ عشايا الحرب العالمية الأولى، وطوال الربع الثاني من القرن العشرين في زمن الانتداب الفرنسي وحتى العام 1958. لكن في الستينات، حينما بدأت "النهار" تلعب الدور المتجدد للصالون السياسي، لم تعد السياسة وعالمها يختصران أو يلخّصان الحياة البيروتية واللبنانية ومسارحها الاجتماعية والفنية والثقافية. لذا اصدرت "النهار" "الملحق"، ملحقها، ليواكب تلك الحياة والمسارح غير السياسية في المدينة، وليتدخل في صناعتها وتأطيرها، ويكون مرآتها. "الملحق" في ذلك، استلهم في بداياته ما كانته مجلة "المكشوف" لصاحبها فؤاد حبيش، منذ تأسيسها وصدورها ما بين الثلاثينات والخمسينات من القرن العشرين. لكنه، أي "الملحق"، لم يلبث أن طوّر وحدّث ما كانته "المكشوف"، فتجاوزها على إيقاع مستجدات الحياة المدينية والفنية والثقافية في بيروت الستينات.
قبل "الملحق" كانت حاضرة مجلة "شعر"، للشعر الحديث والكتابة الحديثة والنقد. وكانت المجلة حميمة الصلة والصدور، بـ"النهار" وميولها وأهوائها ودارها للنشر. كما أنها استمرت في موازاة "الملحق"، بعد توقفها مدة عن الصدور. وكان كثيرون من كتّابها وشعرائها من كتاب "النهار" وملحقها الجديد. في مقابل "شعر" كانت مجلة "الآداب" المختلفة عنها والمتنافسة معها في الاستقطاب والميول والأهواء.
من أيقونات الستينات، هناك فيروز، صوتاً وشعراً وألحاناً رحبانية، ومسرحاً غنائياً فولكلورياً: في بعلبك ومهرجاناتها الصيفية الدولية منذ الخمسينات، وفي "مهرجان دمشق الدولي"، وفي بيروت البيكاديللي شتاء منذ العام 1967. وهناك حركة المسرح اللبناني الحديث، والتلفزيون ودخوله بقوة على فضاء الحياة العائلية والعامة، الى جانب الفن الاذاعي ونجوم الغناء والطرب. ربما علينا ألاّ ننسى نجومية نزار قباني الشعرية التي استمدت من الفضاء البيروتي طاقاتها وحضورها، و"سوّقت" لبيروت ولبنان صورة فاعلة في الفضاءات العربية، وخصوصا الشبابية.
هذه الظواهر ليست أكثر من غيض ضئيل من فيض ما حدث في الستينات البيروتية واللبنانية، ويضيق المقام على ذكره وتعداده وإحصائه في هذا السياق من الحديث عن الستينات برموزها وايقوناتها. لكن قد يكون شارع الحمراء هو المسرح والفضاء اللذان تكثّف فيهما ذلك الزمن وميوله وأهواؤه: دور السينما، مقاهي الرصيف. كلٌّ من الجامعة الأميركية والقديس يوسف واللبنانية وأخلاط طلابها. سفور النساء وخروجهن الى الأماكن العامة. الحركات الشبابية والطالبية و"ثورة الطلاب" المندفعة الى التعبير عن أهوائها الجديدة وتحررها. الليل والسهر في المرابع الليلية...إلخ، وأطياف التوق الجامح الى التحرر الجنسي، العاطفي والأخلاقي، في هبوبه على الشبيبة والطلاب في معظم مدن العالم، مختلطاً بالأفكار والأهواء والصور اليسارية، من فوضوية ووجودية وغيفارية وثورية متلاطمة.
قد يكون "ملحق النهار" صنيع هذا كله ومرآته في الستينات البيروتية واللبنانية.


"نساء وفواكه وآراء"
لكن للستينات البيروتية مسارح وفضاءات ومرايا كثيرة لا تحصى. وهي - على تباين تلك المسارح والفضاءات والمرايا وكثرتها – حقبة تميزت باندفاع موجة اجتماعية عامة تكونت من تحولات وانقطاعات وأهواء أجيال وتهاويمها. موجة اجتماعية - ثقافية مدينية خلطت الوقائع بالمتخيل والرغبات، الحياة الشخصية بالرؤى والصور والحياة العامة والفعل والحضور فيها بواسطة أشكال جديدة للعيش والتعبير والعلاقات والعمل. الموجة تلك استدخلت التصور الفني للعالم والذات الفردية في الفن وانماط السلوك والتفكير والتواصل والحياة الاجتماعية. فأنشأ ذلك للكائن الاجتماعي حيزاً أو فضاءً لحضوره بوصفه كائناً فنياً متمايزاً، لم يعد المجتمع وحده يختصر حضوره ووجوده وحياته وتصوره لذاته وللعالم.
الحق أن بيروت اللبنانية، أو لبنان البيروتي، هما مختبر تلك الموجة في دوائر وأطر كثيرة متداخلة، متفرقة ومتباينة، فيها صُنع ما يسمّى "الزمن الجميل" وصوره من خليط الوقائع والحوادث والتهاويم. ومن صور ذلك ما رواه حسن داوود في نص نشره في العدد 11 من مجلة "كلمن"، عنوانه "غراميات وأفكار مبكرة". بحسب الراوي في ذلك النص "لم تطل مدة الماضي الجميل (اللبناني) أكثر من 20 سنة"، تختلف "الآراء" على تعيين بدايتها التي تترجح بين سنوات النصف الأول من الخمسينات. أما نهاية تلك السنوات العشرين فغير متفقٍ على تعيينها ايضاً. هناك من يقول إنها انتهت في بداية الحرب سنة 1975. ويقول آخرون لا "بل في 1973، حين قامت حرب أولى، وإن قصيرة، بين الجيش (اللبناني) والمقاومين الفلسطينيين". لكن هناك من "يرجع 4 سنوات أخرى الى الوراء، فيقول إن البلد بدأ انهياره في 1969، حين اندلعت التظاهرات في يوم 23 نيسان من ذلك العام هاتفة لمجيء المقاومة الفلسطينية بسلاحها الى لبنان".
"ملحق النهار" مرآة سنوات عشر (1964 – 1974) لدائرة واسعة من تلك الموجة وحوادثها. وهو صنع لها صحافة منوعات اجتماعية وفنية وثقافية، في منأى من الصحافة السياسية الحديثة والإخبارية وهمومها ومتابعاتها وتعليقاتها وسجالاتها. هذا في سنوات بدايات "الملحق"، قبل أن تتحول حركة الطلاب والشبان قوة اجتماعية صاعدة تتصدر تلك الموجة، وقبل أن تستدخل فروعٌ من تلك القوة الطالبية والشبابية، القضية الفلسطينية وحرية مقاوميها المسلحين في مطالب تلك الحركة ونشاطها، عبر جسر الإيديولوجيا الاجتماعية الهوامية اليسارية والعروبية. ذلك الاستدخال والمزج أديا الى بدايات تصدع "الزمن اللبناني الجميل"، فعمل "الملحق" على استشعاره ونقل صوره وسجالاته، الى جانب المنوعات الاجتماعية والثقافية والفنية. وسرعان ما صارت الحركة الشبابية والطالبية في الجامعات رافداً أساسياً من روافده.
حسن داوود في نصه المذكور أعلاه ينقل صوراً لذاك الرافد عن شلة من طلبة اللغة العربية وآدابها في كلية التربية في الجامعة اللبنانية. طالب من هذه الشلة يدعى محمد صافي، كان يرى أن لبنان (...) ظل يزداد جمالاً سنة بعد سنة، راسماً خطاً بيانياً متصاعداً (بلغ) قمته في الساعة العاشرة والنصف من يوم 11 شباط 1968، عندما اقترب صالح شميساني (وهو طالب من الشلة) من كاتيا التي كانت قد انتسبت الى الكلية موقتاً، في انتظار اكتمال أوراقها" للانتقال الى الدراسة في جامعة سويسرية. سمحت كاتيا لصالح بأن يطبع قبلةً على فمها. هذا بعدما "أغلقت عينيها" في انتظار قبلته التي "لم تكن طويلة، وجرت بالسرعة التي تقع فيها القبلة على الخد"، لتقول لمقبّلها بعدئذٍ: "إنت لزيز يا صالح". أما محمد صافي فجعل القبلة قمة الزمن الجميل الذي "بدأ انهياره بعدها"، في إشارة مبطّنة منه الى أن تلك القبلة الوحيدة، العابرة والمجهضة، لا تصنع زمناً جميلاً إلا في التهاويم الاجتماعية والشخصية. لكن هذا لا يُفقِدُ ذلك الزمن جماله الواقعي والهوامي المصنوع من "نساء وفواكه وآراء"، على ما يردد محمد صافي اياه.
"ملحق النهار" بدوره كان مرآة ذلك الجمال الواقعي والهوامي، صوراً وكلمات. فسنوات الستينات "أتاحت" لشبان كلية التربية في الجامعة اللبنانية، على سبيل المثل هنا، "العيش بين 500" من النساء - الطالبات، "مختلفة إحداهن عن الأخرى (...) ويمكن توقّع مفاجأة مع كل واحدة منهن". أما الفواكه في أقوال محمد صافي ولغته، فكناية ورمز، و"ليست من تلك التي تأتي بها الأمهات الى البيوت"، بل هي "فواكه النعمة، أو فواكه الشعر". إنها إذاً من طبيعة تلك المفاجآت التي يمكن توقعها مع النساء المنفلتات في المشاهد اليومية للحياة العامة. "الآراء" بدورها، يقول الراوي في نص حسن داوود، "ليست قطعاً ما جئنا نتعلمه في الكلية"، وإنما هي من صنائع الزمن الجميل وصوره ومصادفاته، كالقبلة العابرة التي طبعها صالح على شفتي كاتيا. هذا و"مَن صاروا يسمّون" في الكلية "شلة الشعرا"، "كانوا غير مكترثين" بمصائر الأفكار والأقوال التي تأتيهم خبط عشواء، ومن المزاج في ذلك الزمن الجميل، من دون أن يهتم كل منهم بمصدر هذه الفكرة أو تلك، أهي له أم أتته من سواه، أم استلّها من كتاب وقالها، بعدما أدخلها في اختلاط مزاجه الفردي بالمزاج العام.
هكذا كانت تُصنع الآراء والأهواء والأمزجة والكلمات في ذلك الزمن الجميل الذي كان "ملحق النهار" مرآة من مراياه، وفاعلاً فيه.


عوامل صدور "الملحق"
بعد هذه المقدمات والملاحظات العمومية، كيف يمكن تقديم ملامح من صورة بانورامية سريعة وعامة عن "الملحق" ومواده وموضوعاته، بناءً على انشغالٍ استغرق ساعات طويلة من أيام في تقليب صفحات من بعض مجلداته السنوية وتصفح عناوينها وموضوعاتها؟ هذا اضافة الى مطالعة ثلاثة مجلدات وضعها في العام 1984 إدوار أمين البستاني عن "ملحق النهار" أطروحة لشهادة دكتوراه في اللغة العربية وآدابها في "جامعة القديس يوسف - كلية الأداب والعلوم الانسانية"، وأشرف عليها الدكتور جبور عبد النور. تحوي المجلدات الثلاثة - الى الفهرسة والتوثيق والإحصاء والتبويب على نحو تفصيلي لمواد "الملحق" وموضوعاته وأسماء كتابه - قراءة في "نشأته وتطوره وتحليل مضامين" مواده، اضافة الى ثلاث مقابلات مطولة مع غسان تويني وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا.
صدر العدد الأول من "الملحق" في 8 صفحات داخل "النهار" وغير منفصل عنها، في 25 شباط 1964، وظل يصدر يومياً على هذه الحال حتى 5 أيار من العام نفسه. ومن 15 أيار 1964 حتى 30 حزيران 1974، صدر أسبوعياً في نهار الأحد، فتزايد عدد صفحاته في حجم "التابلويد" الملونة، حتى بلغ أحياناً 24 صفحة، وكان مثالاً للصحافة الأحدية في لبنان.
يرى غسان تويني، على ما كتب في افتتاحية العدد الأول من "الملحق"، أن صدوره "يرد" على حاجتين: "حاجة القارئ الى المطالعة غير السياسية وحاجة صانع الأحداث إلى جريدة تعكس للقارئ الأحداث غير السياسية". وقد يكون الأبرز في هذا التعيين مسألتان: الأولى هي إضافة صفة "الجديد" إلى صانع الأحداث. والثانية صفة "غير السياسية" للمطالعة وللأحداث، وصفة غير السياسي للقارئ. وهذا ما عبر عنه أنسي الحاج أيضاً حين كتب في افتتاحيته الأولى أن "الملحق جريدة أخرى للقارىء الآخر"، وذلك لملاحقة "نهضة فنية وثقافية في لبنان لا مثيل لحيويتها في أي بلد عربي آخر".
بناء على معطيات جمعها إدوار أمين البستاني عن العوامل التي أدت إلى صدور "الملحق"، ذكر: انتقال مكاتب "النهار" من سوق الطويلة في وسط بيروت القديم، إلى شارع الحمراء في العام 1963. استقدامها مطابع حديثة (الأوفست)، وسريعة الإنتاج وكثيرته، كلفتها باهظة، وتتطلب تشغيلا إضافياً لتغطية تلك الكلفة. من ذلك التطلب ولدت فكرة إصدار ملحق يحمل طابع صحافة المنوعات بطباعة ملونة، وتقديمه هدية يومية للقراء لأعزائهم، مما يؤدي إلى المزيد من بيع صحيفة "النهار" وجاذبيتها التي تحمل من لا يقرأون على القراءة الفرحة والممتعة. القراءة وفرحها ومتعتها سرعان ما تحولت أحديّة في عطلة نهاية الأسبوع، مع صدور "الملحق" أسبوعياً نهار الأحد، جواباً على ظهور نمط عيش جديد وفئات اجتماعية جديدة من الموظفين والطبقة الوسطى وأصحاب المهن الحرة والنساء وسيدات المجتمع والشباب في لبنان الستينات. وكان "الملحق" مساعداً لـ"النهار" على التحرر من سلطان الاعلانات التجارية، عبر السعي إلى كسب الصحيفة المزيد من القراء، وتوسيع دائرة انتشارها. وقد أثارت مجانية "الملحق" استغراب الوسط الصحافي، لأنها "مجانية مربحة" تكثّر بيع "النهار" وتخفَّض معدل كلفتها.


الحمراء: عالم الغد
بعد إصدار "الملحق" ارتفع المعدل الوسطي اليومي لتوزيع "النهار" من 7418 نسخة في العام 1963، إلى 12527 نسخة في العام 1964. أي بزيادة ما يقارب 70 في المئة. وفي 1965 ارتفع المعدل مجدداً إلى 17461 نسخة. من عوامل هذا الارتفاع الكبير في التوزيع، ظهور "النهار" بحلة جديدة مع صدور "الملحق"، وارتفاع عدد محرريها إلى 33 محرراً في العام 1964، لا يتجاوز معدل أعمارهم الثلاثين سنة، أي أن غالبيتهم الساحقة من الشبان، مع العلم أن "الملحق" أضاف إلى المحررين عنصراً نسائياً من الشابات أيضاً. وأضاف غسان تويني: "من الصعب أن نفهم صدور الملحق بمعزل عن التطورات الإجتماعية والثقافية في بيروت الستينات، وبمنأى من شارع الحمراء"، حيث "الواجهة الشاهقة في البيروت الجديدة التي تكاد تشبه عالم الغد".
عصام محفوظ في أحاديث شفهية له مع إدوار أمين البستاني، أوضح الصلة الوثيقة بين شارع الحمراء و"الملحق". كان محفوظ يذرع الشارع يومياً من بدايته، حيث بناية مكاتب "النهار"، الى نهايته، "مستطلعاً فيه وجوه السابلة". وهذه (السابلة) كلمة من قاموس إدوار أمين البستاني، وتنتمي الى زمن قديم في مدن قديمة، لا تناسب المشاة العابرين والمتسكعين في الحمراء، شارع الحداثة والاستعراض والترفيه، حيث يستأنس محفوظ اللقاء بالأصدقاء في مقهى "هورس شو"، ثم يتلهى مستعرضاً في تسكعه الواجهات ومعروضاتها من السلع الجديدة، قلقاً في البحث عن صورة القارئ الجديد، قبل عودته الى مكتبه لكتابة مقالته. فبيئة الحمراء "قدمت النموذج الأولي للقارئ النموذج الذي يتوجه إليه الملحق". هذا فيما تزيد آنية العمل الصحافي من قلق الكاتب الذي يراوده شعور بأنه "يكتب على نهر جارٍ من اليوميات". ومجتمع الحمراء شاب وحديث النشأة، وقدم نموذجاً مثالياً لما يتوخاه "الملحق" في فرادته وطرافته ونزواته وشغفه بالجديد، وفي خروجه على المألوف. هذه كلها صفات لا تتوافر في أي مكان آخر من بيروت غير الحمراء الذي كان الـ"هورس شو" فيه أكثر من "منتجع" (هذه أيضاً من قاموس البستاني القديم) للمحررين حتى آخر الليل. وذلك للقاء الأصدقاء الصحافيين وغير الصحافيين والكتّاب والشعراء والفنانين والقراء الفضوليين وقد تكون شهادة عصام محفوظ هذه عن صلة الحمراء بـ"الملحق" من أفضل الشهادات.


الفانتازيا والتهجين الكتابي
يروي البستاني نقلاً عن شوقي أبي شقرا أن "الملحق" كان فريداً في مادته. تكمن فرادته في غلبة جانب المتعة على جانب الاهتمام بالوقائع والحوادث وهاجس إعلام القارئ وإنبائه وتوجيهه. فالصورة التي كان يبرزها أقرب الى الخيال والحلم منها الى الحقيقة والواقع اللذين استلهمهما من الشعر والدهشة، وليس من الإدراك التفصيلي والرياضي. هذا لأن العاملين فيه فنانون وشعراء كسروا رتابة العمل الصحافي الآلي، وشكّل عملهم سابقة في الصحافة اللبنانية. من سوابق "الملحق" أيضاً إدخاله الفانتازيا على فن العنونة الصحافية الذي ابتكره أبي شقرا مستلهماً موهبته الشعرية وغرابة شعره الفكاهية.
أما الباحث بيار ألبر في كتابه "الصحافة" (بالفرنسية، منشورات "عويدات" 1970)، على ما يترجم عنه البستاني، فيشير الى ان "النهار" خصصت "الملحق" في سنوات صدوره الأولى لصحافة المنوعات والمجتمع النسائي وصور الازياء وأخبار الرياضة ومبارياتها وأبطالها، ولشؤون الاذاعة والتلفزيون وأخبار الفنانين والطرائف. ويتميز أسلوب كتابة هذه المادة بشدة الإيجاز وبفن اللمح وإنشاء مميز، يختلف عن اسلوب النقل اليومي الموحد والنمطي في وكالات الأنباء المحلية والعالمية. ذلك لتقديم مادة منوعات واسعة ومشغولة بالحساسية الكتابية الشخصية لكاتبها الذي يعيد مجدداً صوغَ المادة الصحافية المترجمة من صحافة المنوعات الغربية، والاخرى الواردة من الوكالات، ومن المحررين المحليين العاملين في الصحيفة اليومية. إذ يندر أن تلقى في "الملحق" صحافياً ليس كاتباً في الأصل، ولا يستخدم اسلوبه الكتابي في عمله الصحافي، على الرغم من انشغاله في كتابة المنوعات على اختلافها. ومن هذا الاختلاط والتزاوح والتهجين ولد "الملحق" وتنوعت موضوعاته.


الحداثة البصرية وثقافتها
يبقى أن هنالك مسألة أو ظاهرة اساسية أطلقها "الملحق"، في حقبة غلبة المنوعات عليه، قبل تحوله ملحقاً ثقافياً وفنياً وللسجالات الفكرية حول لبنان واللبنانوية وتاريخهما وقضايا العروبة والإسلام والسورية القومية الاجتماعية والعمل الفدائي الفلسطيني المسلح، ومسائل التراث والحداثة.
تلك الظاهرة الاساسية في "ملحق" المنوعات، هي الالحاح على تلبية حاسة القارئ البصرية وإثارتها. والحاسة هذه كانت غائبة في المطبوعات والمنشورات الصحافية والثقافية، وبرزت قوية نهِمة في الستينات مع تزايد ظهور سفور النساء في الحياة العامة واعتنائهن بالمظهر والأزياء وتسريحات الشعر وزيادة طلبهن على مستحضرات التجميل والعطور واللانجري وأدوات الزينة التي أخذت تروِّج لها بقوة الإعلانات والدعاية التلفزيونية وتلهب الحواس (خصوصاً البصر) والمخيلة والرغبة. فقبل ذلك كانت المطبوعات عموماً تعتمد على الكلمات واللغة والإنشاء اللغوي، وتقدم للقراء مادة "ذهنية" و"عاطفية" غير حسية. وهذا ما كانت مجلة "المكشوف" قد خرقته في الأربعينات والخمسينات، فقدمت للقارئ، الى جانب الأدب والثقافة، مادة بصرية مثيرة، مستبقة في ذلك زمن الستينات التلفزيوني الذي تميز بتدفق الصور، وبإطلاقه ثقافة بصرية جديدة، مدارها الأساسي النساء ومظهرهن وزينتهن، قبل أن يكتب الشاعر محمد العبدالله في إحدى قصائده في مطالع السبعينات: "تكتمل المرأة في زينتها".
الثقافة البصرية والمظهرية هذه كان لها حضور أساسي في "ملحق" المنوعات الى جانب اعتماده الفانتازيا في عنونة موضوعاته. والحق أن هذه الثقافة كانت إحدى علامات "الزمن الجميل" اللبناني وصوره التي طغت على المخيلة الاجتماعية العامة كمظهر أساسي للحداثة والتحديث اللذين كان مدارهما ومحورهما شكلانيين مظهريين، يتصدرهما الزي والتأنق وحيازة السلع المحدثة وسفور النساء. وهذا من عوامل تحويل الحداثة اللبنانية والعربية عبادة صنمية للمظهر والشكل والاستهلاك والصور، معطوفةً على عبادة حيازة مرتبة اجتماعية مرموقة وإظهار حيازتها والتمتع بها في العلانية العامة، وذلك بصلف يخفي الفراغ والخواء إلا من ثقافة المظهر الاستهلاكية.


غياب المجتمع الفعلي
الثقافة هذه والانشغال بها وتلبيتها، أدت الى الانصراف عن متابعة المجتمع الفعلي وثقافته وأحواله وبيئاته وجماعاته وعلاقاته المحلية. أي مجتمعات العمل والأحياء وشؤون السكن وهجرات الريفيين إلى المدينة والنزاعات المحلية والأهلية، وأشكال التنظيم الاجتماعي في بناها وعلاقاتها التحتية، والتعليم ومناهجه وقيمه وصلته بالحياة الاجتماعية... الخ. هذا على الرغم من أن المسائل هذه كلها كانت حاضرة ومستجدة بقوة في الستينات، لكنها غابت عن المتابعة والاستطلاع والتحقيق والمناقشة، إلا في ما ندر، وعلى هامش الانشغال بالإخْبَار عن الطبقة السياسية العليا وكواليسها وعلاقاتها، وعن الزعماء السياسيين وجلسات صالوناتهم وشؤونهم وشجونهم، فيما تغيب شؤون المجتمع الفعلي والحقيقي او المادي، كأنه غير موجود، إلا في لحظات انفجار أزماته وحوادثه المفاجئة، صغيرة وكبيرة.
الى جانب هذا الغياب، وحضور الثقافة البصرية والمظهرية ومتطلباتها، حضر أيضاً الانشغال بشؤون ومناقشات وسجالات فكرية مجردة من مادتها وحيثياتها الاجتماعية والتاريخية، ومن الوقائع والحوادث، أي من مادتها الفعلية وتمثيلاتها في الواقع الاجتماعي ووعي الناس وعلاقاتهم والتحولات التي يعيشونها. الكتابات هذه كان ينشغل بها من يسمّون "أهل القلم" المحترفين الذين تنصبّ اهتمامامهم على معارف شفوية وكتبية تراثية وعقائدية يستخدمونها في المناقشة والسجال، مهملين المادة الاجتماعية الحية والراهنة للأفكار المجردة، وكيفية تكوّنها وتلونها وتحولها في سياقات الوقائع والحوادث. وقد يكون هذا من ثمار الانشغال بالثقافة العقائدية والحزبية الثابتة والمكتملة مسبقاً، اكتمال العالم وثباته في تلك الثقافة، التي تُعتبر صانعة المجتمع والحياة السياسية والعالم.


التنوع والاختلاف
لكن "ملحق النهار"، لم يثبت على حال واحدة ولم يستسلم لها قط. بل كان مواكباً لتحولات المجتمع والحياة الثقافية وللحوادث، ومستقبلاً لها وفاعلاً في مجرياتها، فور ظهورها، ومشرّعا لمتابعتها صفحاته التي التقت فيها الآراء والأفكار والمواقف والاتجاهات المتناقضة والمتعارضة، وخصوصا في ما يتعلق بمسائل الحرية وشؤونها، من حرية الرأي والمعتقد الى التحرر الاجتماعي والسياسي. هكذا كنتَ تجد في أعداده الاسبوعية، على ما يشير البستاني ويبيّن تصفح مجلداته في حقبة ما بعد المنوعات، مساهمات من الكتاب الكبار الى جانب كتابات المبتدئين ورسائل القراء والمتابعين التي تتمتع بحيز واسع وفي الصدارة. كما تجد سعيد عقل الى جانب الغضب على سعيد عقل، والشعر القديم الى جانب الحديث، وقصيدة النثر والشعر العامي. والنثر المرسل والوجدانيات والكتابة في شؤون التاريخ والاجتماع والسجالات الفكرية التي يشارك فيها أكاديميون وباحثون وجامعيون الى جانب صحافيين وبعض من نخبة الطلبة الجامعيين. عمل "الملحق" ايضا على تشجيع الشك في المقدسات والثوابت، الى جانب الكتابة في شؤون اللاهوت والايمان، والعروبة والإسلام والقومية السورية والحضارات والتاريخ اللبناني.
من أهمّ مميزات "الملحق" منذ عشيات هزيمة حزيران 1967 وبعدها، أنه قدّم مادة تحقيقات دولية وعربية لا مثيل لها، كان ينجزها مراسلو "النهار" الجوالون في العواصم العربية والدولية. التحقيقات هذه فريدة في بابها وأسلوبها المبتكر الذي يمزج المعلومات بالانطباعات بالأخبار وبمقابلة صنّاع القرار والاستطلاع الميداني.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم