الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

ميرزا...

المصدر: "النهار"
طارق عينترازي-كندا
ميرزا...
ميرزا...
A+ A-

جمعتني مناسبة عيد ميلاد ابني ذي الأعوام الخمسة بمجموعة من أهالي أطفال صف الحضانة في مدرسته. وكما معظم مدارس تورنتو يضمّ الفصل موزاييكًا من الأعراق والجنسيات الذين ينعمون بجرعات لامتناهية من التسامح والأخلاق، واحترام واحتضان الآخر، التي كانت ولم تزل صفات تمثل القيم التي تميّز كندا.


جلسنا أنا والعائلة على الطاولة نفسها، مع رجل وزوجته عرّف عن نفسه بأنه ميرزا، والد ميلودي. والسؤال الأول الذي يُطرح في بداية معظم الأحاديث في كندا هو؛ من أين انت؟ وهل تزور الديار؟ قال لي ميرزا بلكنة فارسية انه مهاجر إيراني من أصفهان. فقلت له وأنا مهاجر من لبنان.
وكيف وصل بك المطاف الى تورنتو؟
قال: لقد كانت رحلة شاقة، قضيت فيها حوالي الأربع سنوات حتى مَنَّ الله عليّ بتأشيرة هجرة الى هذه البلاد الطيبة.
سألت: وكيف ذلك؟
قال: بدأت رحلتي في الحصول على فيزا الى تركيا، حيث عشت لأكثر من عام أعمل بأجور زهيدة، وأحاول التسلل الى ايطاليا. وفي ايطاليا تكرر الامر ولكن لمدة ثلاثة أعوام قضيتها بدون اقامة شرعية منتظراً الحصول على تأشيرة الهجرة إلى كندا.
وفي كندا تعلمت الانكليزية ودخلت الجامعة وحصلت على شهادة الهندسة المدنية. وخلال هذه الفترة كنت أكبر زملائي بسبعة أعوام على الأقل كنت خلالها أحاول الهرب من ايران... لذلك ترى اني على مشارف الخمسين وابنتي الوحيدة ميلودي لم تبلغ الستة أعوام بعد.
وسألت: هل تزور الأهل؟
فقال لي نادراً ما افعل ذلك. فقد اتيت الى كندا عام 1986 وأقفلت الباب على تلك الفترة من حياتي.
فقلت بنبرة الواثق. آه اكيد إن عائلتك كانت قريبة من نظام الشاه.
فقال ميرزا "ابداً! فوالدي كان رجل دين ما عرفته إلا قادماً من، أو ذاهباً إلى المسجد". وأضاف : "لقد هربت من ايران بعد ان علم والدي بقرب استدعائي إلى جبهة الحرب مع العراق، والتي افتعلها نظام الملالي في طهران".
زادت حشريّتي بقصة ميرزا الذي يدحض مع كل كلمة كلّ النظريات المسبقة التي كوّنها عقلي المريض بمتلازمة الشرق الاوسط التي تحكم فيها العنصرية على الناس حسب اللون والمذهب والجنسية وما الى ذلك.
قلت: " ولكن المعروف ان صدام حسين هو من بدأ الحرب".
فقال ميرزا: "قد يكون صدام طاغية ومجرماً، ولكن الملالي في طهران هم أيضاً طغاة ومجرمون، وأكثر مكراً ودهاءً وهم من جروا صدام الى الحرب. فمنذ اليوم الأول للاستيلاء على الحكم بدأت إذاعة طهران بمهاجمة العراق وصدام حسين ودول الخليج العربي. وقد صدمنا من ذلك الأمر نظراً لكون العراق قد استضاف الخميني خمسة عشر عاماً في النجف".
أضاف ميرزا: "الملالي أرسلوا الجيش ليُقتل على الجبهات، وأعدموا من كان هناك أدنى شك بولائه الاعمى. فاستراتيجيتهم هي نسخة عن دولة 1984 كما وصفها جورج أورويل. هناك دائماً عدو يجب قتله ومقاتلته ووقود جميع هذه الحروب هي دماء شباب ايران والدول المجاورة".
فقلت محاولاً ترطيب الجو؛ "لكن لا بد انك تسمتع بقضاء الاجازة مع ميلودي في ضواحي أصفهان الساحرة".
فقال :" لقد ذهبت زوجتي منذ عامين وأشكر الله انّي لم أرافقها. فقد خضعت لتحقيق مطوّل عند الوصول وأُجبرت على الدخول الى حسابها الخاص على الفيسبوك ليتمكن المحقّق من مراجعة كل ما كتبته أو كتبه اقرباؤنا واصدقاؤنا على مواقع التواصل الاجتماعي".
فسألته محاولاً استعمال موضوع الطقس لتغيير مجرى الحديث، و"هل تفكر بالتقاعد في أصفهان هرباً من صقيع هذه البلاد؟".
فقال جازماً: " لقد سرق مني نظام الملالي أجمل سنوات عمري قضيتها هارباً، خائفاً مستجدياً في بلادٍ غريبة. لن أعطيهم مستقبلي أو مستقبل ابنتي التي اسميتها ميلودي مستقصدًا أن أُبعِد عنها شبهة الانتماء الى ايران وكل هذا الشرق. قد أعود يوماً الى أصفهان إذا قامت في إيران دولة مدنية لا تعادي الّا الفقر والجهل والتعصّب. وهو ما يبدو بعيد المنال في جيلنا هذا!".
بينما ينعم ميرزا بنهاية سعيدة لمغامرة الهروب من جحيم إيران والمنطقة، كم من ميرزا طحنتهم آلة الحقد والديماغوجيا الدينية وأوهام الإمبراطورية البائدة؟ كم من ميرزا لم يصل أبعد من حقول القتل في صحاري العراق أو سهول سوريا وجبال القلمون؟ كم من ميرزا ابتلعتهم مياه المتوسط؟ كم من شبابنا سيسقط قبل ان نخرج من العصور الوسطى الى فضاء المستقبل المفتوح على كل ما في هذه الأرض من خير وجمال؟


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم