السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

غربة اللبنانيين عن مؤتمر المغتربين!

لندن - سليم نصار
غربة اللبنانيين عن مؤتمر المغتربين!
غربة اللبنانيين عن مؤتمر المغتربين!
A+ A-

ينتهي مساء اليوم في بيروت المؤتمر الذي دعا اليه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، تحت عنوان: "الطاقة الاغترابية اللبنانية". ومع أنه حاول، طوال ثلاثة أيام، أن يختصر بواسطة المشتركين أسطورة يعود تاريخها الى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، إلا أنه اكتشف أن المحاولة المتواضعة تحتاج الى أشهر من البحث والمراجعة.


السبب أن ملحمة الاغتراب اللبناني في القارات الخمس تعرضت لعملية تنقيب معقدة، خصوصاً بعدما أقامت مجموعة من المؤرخين والأكاديميين معرضاً ضخماً سنة 1988 في ايطاليا تحت عنوان "الفينيقيون".
وقد استعان مدير ذلك المعرض، سباتينو موسكاتي، بأكثر من عشرين شخصية بارزة في علم التاريخ والآثار، بحيث جاءت الدراسات شاملة وجامعة لمختلف جوانب ذلك الشعب الذي إنطلق، من جبيل وصيدا وصور وطرابلس وأرواد، ليؤسس مستوطنات في أقصى المعمورة.
وفي نهاية المعرض، الذي إستمر ستة أشهر، نشرت الادارة كتاباً ضخماً باللغات الايطالية والفرنسية والانكليزية، ساهم في إعداده عشرون مؤرخاً عالمياً (800 صفحة). وهو بحق يُعتبَر وثيقة نادرة، الأمر الذي أقنع ميرنا بستاني بضرورة شراء نسخ منه وتوزيعه على المهتمين.
والمؤسف أن وزارة الثقافة، في ذلك الحين، إعتذرت عن مهمة ترجمة الكتاب بحجة الشلل المادي خلال الحرب الأهلية.
ويُستدَل من مراجعة فصول ذلك الكتاب أن كل المؤرخين تنافسوا على إكتشاف طبائع سهولة الابحار، والاعتماد على التجارة الخارجية كمصدر رزق لدى الفينيقيين.
وفي وثائق الكتاب الصادر عن معرض ايطاليا، حكايات المغامرات التي قام بها أهل صور وصيدا وجبيل. ويظهر ذلك النص في مؤلفات المؤرخ الاغريقي هيرودوس الذي يؤكد أن الفينيقيين أبحروا حول القارة الافريقية سنة 600 قبل المسيح.
وأذكر أثناء زيارتي لزيمبابوي أن سألت الرئيس روبرت موغابي عن الأسباب التي دعته الى تغيير الاسم الذي أطلقه الرحالة البريطاني "رودس" على بلاده. فقال محتداً: لأن أجدادنا السود كانوا موجودين في هذه البلاد قبل أن يكتشفها "المستعمِر" الأبيض. لذلك ألغيت تلك الحقبة مع إسمها، وإستبدلتها باسم كان يستعمله الفينيقيون، ومعناه "بيت من حجر".
ثم إستطرد يقول: منذ مئات الأعوام كانت السفن الشراعية الفينيقية تبحر الى اسبانيا، ومنها تنطلق خلال فصل الصيف للدوران حول الجانب الغربي من افريقيا. وعندما يحل الشتاء، وترتفع الأنواء العاتية، كان البحارة يركنون مراكبهم في منطقة "رأس الرجاء الصالح"، ويتوجهون على الخيول عبر طريق برية تبدأ في جنوب افريقيا... وتمر هنا في زيمبابوي.. ومنها الى مصر فعكا وحيفا والقدس. وبعد قطع كل تلك المسافات، تصبح صور وصيدا سهلة المنال.
ويُستفاد من طبيعة البرنامج الذي أعده وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، أن حقبة الاغتراب بالنسبة للحكومات اللبنانية السابقة تبدأ من سنة 1860. أي من سنة نهاية حروب الجبل التي إنفجرت سنة 1840. وفي حقبة ثانية يعتبرها المؤرخون حاسمة بالنسبة للذين هربوا من الانخراط في سلك الجندية أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
وبما أن "حزب الكتائب" اللبنانية تبنى منذ تأسيسه شعار الأرزة، وكل ما يثبت أن لبنان هو نسيج خاص يختلف عن بعثية ميشال عفلق وسورية أنطون سعادة... فقد صنفه القوميون العرب في خانة الأحزاب الانعزالية. وحقيقة الأمر أن النائب يوسف السودا هو الذي جيَّر صفة الانعزالية الى الكتائب بعد أن تخلى عن الحزب الذي أسسه "المحافظون" (1926-1936)، ونقل الى موقعه الجديد شغفه بالفينيقيين، ورغبته في الاقتداء بمغامراتهم الرائدة.
وتفادياً للدخول في متاهات الماضي البعيد، حصر الوزير باسيل اهتمامات المشاركين في المؤتمر بقضايا الشتات، وكل ما يعزز اللحمة والتنسيق والترسيخ بين المقيمين والمغتربين.
منتصف الستينات، دعا الرئيس شارل حلو الى مؤتمر عُقِد في فندق فينيسيا اعتُبِر من أهم تجمعات المغتربين الذين جاءوا من الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين وجنوب افريقيا واوستراليا.
واللافت في حينه أن الجيل الرابع والخامس كان متحمساً لاظهار مشاعره وإعجابه بلبنان أكثر من الجيل الثالث أو الآباء الذين ظلوا على تواصل مع الوالدة المسنّة أو الوالد العجوز. وفي كل صيف تقريباً كان لبنان يستقبل آلاف المغتربين من الذين يفرغون جيوبهم من المال ويملأونها من تراب الوطن.
وكان عميد الجالية اللبنانية في البرازيل عزيز نادر (من بلدة القبيّات في عكار) يحرص على زيارة الأهل والاستمتاع بموسم الصيف. ومن الروايات التي رددها حول تدفق المهاجرين اللبنانيين الى البرازيل كانت رواية الامبراطور بادرو الثاني (1825-1891) الذي زار لبنان سنة 1876 ونزل في فندق "المنظر الجميل"، "بال فو" على "البرج"، ترافقه زوجته الامبراطورة تريزا كريستينا ماريا.
وأثناء إقامته في لبنان، زار امبراطور البرازيل بادرو الثاني كلية "كوليج بروتستانت" التي صارت لاحقاً الجامعة الاميركية. كما زار "كوليج جازويت" الفرنسية اليسوعية، التي تحولت بعد فترة الى جامعة القديس يوسف.
وحدث أثناء زيارته للجامعة الاميركية أن إلتقى عدة طلاب، وحدثهم عن الامكانات المتاحة لهم في حال قرروا الهجرة الى البرازيل. وكان بينهم نعمة يافث الذي قدم للجامعة بناية تحمل إسمه.
وبين العائلات المعروفة التي جمعت ثروات خيالية في البرازيل كانت عائلات: يافث ومعلوف (بينهم أهم ثلاثة شعراء) وعائلة زوجة فيليب تقلا وزوجة بيار إده وآل سعد والراسي ومفرج.
وكان من الطبيعي أن تساهم جريدة "الهدى"، التي أصدرها نعوم مكرزل في فيلادلفيا ونيويورك سنة 1898، بتعزيز اللغة العربية، وإفساح المجال لكبار الشعراء والكتاب لنشر إنتاجهم.
وعندما زار الرئيس بشار الأسد البرازيل، فوجىء بأهمية الحضور الاغترابي اللبناني، وبالمراكز العليا التي يحتلها عدد كبير منهم. وقد عبَّر عن إعجابه بذلك الحضور أمام نائب رئيسة الجمهورية ميشال تامر الذي ولِد في الريو (أصله من بتعبورة في الكورة).
وبما أن جميع الحفلات الرسمية التي أقيمت له كانت في "النادي اللبناني"، لذلك قال الأسد لمضيفه حاكم الريو جيلبرتو كساب، إن لبنان يلاحقه في كل مكان في العالم.
بقيت الأسئلة التي تطرحها وسائل الاعلام اللبنانية حول الغاية من عقد هذا المؤتمر في وقت يعيش الوطن الصغير في فراغ رئاسي منذ سنة تقريباً... وخلال مرحلة بالغة الخطورة في ظل خطب التهديد والوعيد التي يلقيها كل أسبوع السيد حسن نصرالله. وهذا يعني إنعدام فرص الاستثمار من قبل جماعات تعيش وتعمل في بلدان مستقرة بعيداً عن أتون النار الذي تشعله ايران في المنطقة.
صحيح أن السبعمئة ألف دولار التي ستنفق على التكاليف لم تُسحَب من خزينة الدولة... ولكن الصحيح أيضاً أن المتبرعين لا ينتمون الى جمعيات خيرية!
كما يعني أيضاً أن الوزير جبران باسيل لا يحسن "الطحن" بدليل أن السنوات التي أمضاها في وزارة الطاقة لم تثمر سوى الفاقة. في حين دفعت اسرائيل كل ديونها من أثمان الغاز الذي استخرجته من آبارها وآبارنا المجمدة بانتظار الترسيم والتنقيب.
وكل ما نتمناه هو ألا يكون مصير مشروع "الطاقة الاغترابية" مثل مصير مشروع الطاقة الغازية والنفطية!


كاتب وصحافي لبناني


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم