الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

رسائل ثمانية مسرحيين لبنانيين إلى ريمون جبارة

المصدر: "النهار"
رسائل ثمانية مسرحيين لبنانيين إلى ريمون جبارة
رسائل ثمانية مسرحيين لبنانيين إلى ريمون جبارة
A+ A-

ثمانية مسرحيين لبنانيين من الذين عملوا مع الراحل الكبير ريمون جبارة، ومن الذين لم تسمح لهم الظروف بذلك، اجتمعوا عبر "النهار" ليقولوا لريمون جبارة بعض ما يستحق. نحن أيضاً، في "النهار"، نردّد معهم: نحبّكَ ونُكبِر مسرحك.


 


كميل سلامة


لم أسأل يوماً أيّ الأدوار يكتبها لي ريمون جبارة. سؤالي الوحيد: "متى نبدأ؟". تجمعني به الثقة. لم تنفصل علاقتنا المهنية عن الصداقة التي تطوّرت. يستحيل على مَن تتلمذ على يديه، سواء على المسرح أو في الجامعات التي درِّس فيها، أن ينسى هذا "المصل" المدسوس في الدم. المسرح خشبة فرح. الغضب لا يصنع مسارح، ولا الذعر يفعل. أذكر قوله خلال التمارين: "تعوا لنتسلّى!". هو الشخص نفسه على المسرح وفي القهوة والمطعم. هو ليس ابن مدينة. يحمل إلينا الكثير من جذره الريفي، ويفيض تهكّماً وسخرية. ليت التلفزيون أفاد منه في عزّ العطاء. نخشى أن تفوت الأجيال هذه الإفادة. يربّي التلفزيون الذوق- لا أقصد تلفزيون أيامنا هذه- فيما يبقى المسرح مقصداً لعدد أقلّ من العامة. لا عمل مسرحياً يُنجَز ما لم يستمرّ الفرح، مهما بلغ الحزن. فَرَحُ ريمون جبارة ليس الضحك. هو الاقتناع بأنّ ما يفعله يصدر من القلب، وبأنّ المعاناة في أيدٍ أمينة. منه أتعلّمت العلاقات الإنسانية. فاق ريمون جبارة الوجع وجعاً. أعماله لكلّ زمانٍ ومكان. ليتها تُجدَّد. لو قُدِّر لها أن تُترجَم لكانت من روائع المسرح العالمي. ريمون جبارة وجع الإنسان في كلّ حيِّز. في "ذكر النحل"، تبلغ المعاناة الذروة. هي واقع كلّ مأزوم بالعمر يصل حدّ الشعور بأنّه جثة متحرّكة. جملةٌ تختزل مسرحه: "ليش العصافير المملوشة بتصير تشبه بعضها؟". الوجع عند ريمون جبارة وجع الضمير والإنسانية. فخرٌ إذ إنني في دائرته، إنسانياً ومسرحياً على السواء.


 


يترجم العمر على المسرح ويصنع فرادته


رندا أسمر


يختزل ريمون جبارة جيلاً بأكمله من المسرحيين. يعلّمنا أنّ في استطاعة المرء رؤية الحياة من منظار آخر: كأن تكون خليطاً من ألمٍ وفكاهة، ومن حقيقة الوجود وعمق الماوراء. يجمع البسيط جداً بالعميق جداً. يحمل همَّ الإنسان المظلوم، ويظلّ يردد: "المعتّر بيجبر خاطر المعتّر". يضيء على أوجاع الإنسان، وعلى وحدته وانكساراته. هو لا يُشعرنا بأنّ التحضير للمسرحية فرضٌ مخيف. لا يأتي إلينا برؤيته الإخراجية مكتوبةً على ورق. إخراجه وليد الساعة، مُرتَجل. طالما كان نموذجاً عن فنانين يمسكون أدواتهم في الشكل الأصح. صائبٌ في إدارة المشهد. يغرف النقّاد من أعماله، ويلقى العمل الواحد قراءات عدّة. يمتلك فنّ الإخراج، حدّ إنّه يتيح الخيارات كافة. قوّته في الاصرار على الابتكار. هو أيضاً غِنى. يُغنينا كمسرحيين، ويغني المُشاهد وتلامذته. لا يأتي ريمون جبارة من موقع أكاديمي. هو وافدٌ من تجربة الحياة. من نظرته الى ترجمة العُمر على المسرح، يصنع فرادته. يستمرّ بعض المخرجين من جيله يواصل الاقتباس، فيما هو يكتب ويخرج. يتألق بالسخرية السوداء. فلا يدري المتلقي هل يبكي في حضرته أم يضحك؟ يحوّل البسيط العادي موقفاً وعِبراً. يضحك على الإنسان. يقابل أزماته بالفكاهة. ويسخر أيضاً على نفسه. أخبرنا مرّة أنّ عصاه خانته فوقع، فإذا بأحد المارة، عوض مساعدته على النهوض، يقدّم إليه المال ظناً إنّه متسوّل. كم ضحك بينما يقصّ هذا الألم! مسرحه يهزَ صورة السلطة. هو يمجّد الحرية ويرفعها الى الأعلى. يكسر كلاسيكية النصّ المسرحي، ويقرّب الخشبة من ناسها. متواضع. حنون. يحتضن ممثليه ويحميهم. يردد ما إن يُطلعنا على عمل: "بكرا بتشوفوا شو رح نتسلّى". محبّ. لا يستخفّ بأي مُكرِّم ولا بأي التفاتة تثني على عطائه. همُّه إعلاء قيمة المسرح وإثبات مكانة الفنان.


 


 


نبض يخترق العظم ويتغلغل داخل الجلد


غبريال يمّين


ريمون جبارة ليس أستاذاً فحسب. هو يخترق العظم ويتغلغل داخل الجِلد. أجدني معه في بيتي، وهو أبٌ بكلّ معيار. تخطّيتُ معه مرحلة الحديث عن المسرح. يعنيني في ريمون جبارة رأسه وفكره. كان استاذي في الجامعة طوال 4 سنوات، عملنا معاً في المسرح، ولاحقاً أصبحنا صديقين. يستحيل معه إنكار ذلك الإحساس الرهيب بالمسرح. في أعماله يمكن المرء أن يضحك حدّ البكاء، ويبكي حدّ الضحك. يرخي الانطباعات وفق أهواء النفس. يظلّ همّه الإنسان كقضية. المسارح حول العالم، على العموم، تحمل الهمّ الواحد. لعلّ الإنسان يأتي في مرتبة أولى. لريمون جبارة هواجس ترافقه طوال مسرحياته. مسرحه مسرح الشعب، حيث الحياة الإنسانية على سجيتها. يأتي باليوميات الى المسرح، ويُجسِّد المعيش. علّمنا كيفية العيش. وقف أمامنا مُخرجاً وممثلاً. يحب مشاركة ممثليه على الخشبة ولو بأدوار صغيرة. صاحب نبض قوي. متحمِّس. يجد نفسه أحياناً وقد راح ينقل إلى الممثل هذا النبض ببعض "الغضب". أسمّي انفعالاته حماسة، سواء أغضِب أم كان هادئاً. لا أقيّم تجربته المسرحية. إحدى مهمّات التاريخ أن يفعل. آمل أنّه سينصفه، وألا ينتهي الزمن، مجدداً، مع انتهاء رجاله.


يحفر وينبش وكم تلصصتُ عليه!


رفيق على أحمد


ريمون جبارة فيلسوف يتلبّس لباس المسرحي. "أركيولوغ"، يحفر في المشاعر الإنسانية وينبش العمق. اختصاصه وجع الإنسان. رجل موجوع بالروح قبل الجسد. يحمل بعضاً من أوجاع الأنبياء على البشرية. نحّاتٌ في مسرحه، على مستوى النصّ وتركيب الشخصية. جريء. قاسٍ. صادق. ساخر من الضحك لاستحضار الغصّة. يرى أكثر مما نرى. موجوع أكثر من الوجع. لم أنل فرصة العمل وإياه، لكنني قابلتُ أعماله بالتلصص. "سرقتُ" منه من غير إذن. "سرقتُ" بعض السخرية والوجع. علّمني كيف أغوص في الأوجاع عوض البقاء على السطح. وعلّمني أيضاً أنّ الغوص سبيل الى الرضى. كم فرحتُ حين قال يوماً: "رفيق من يلّي بيكتبوا مسرح بلبنان". شهادة معلِّم تمنحني الفخر والثقة. لستُ من تلامذته، لكنني من مريديه. طالما راقبته من خلف الشبابيك. أجدني ألمحه في كلّ عملٍ يُنجَز. حاضرٌ هو طالما أنني أقدِّم مسرحاً، وفي كلّ كلمة أكتبها. يتراءى من مكانٍ ما يراقبني، وأتخيّلني أخافُ منه، ومن أن أخيِّب له أملاً. يظلّ رافعاً تلك المرآة الصريحة التي تكشف زيف الضحك الرخيص وتفاهته. يبحر في المشاعر الإنسانية حدّ فَرْض الصدمة. مفاجئ. ينبِّه الى أنّ الحياة أعمق مما نتصوّر. ريمون جبارة، أحبّكَ جداً.


 


خشبتُهُ صفعة تلو صفعة!


لينا أبيض


"بيكنيك عَخطوط التماس" التي شاهدتُها قبل 10 سنين، كانت أروع ما شاهدتُ على خشبة. ريمون جبارة فظيع بسخريته. يبسط حياتنا اليومية على خطّ ساخن. أعشق كيف يظلَّ يعمل مع ممثلين هم تقريباً أنفسهم، ولم يُبالِ أنّ غالبيتهم تلامذته. أحبُّ فيه تلك الثقة العمياء التي يمنحها للممثل والإيمان به كإنسان قادر. وأحبّ شجاعته وسخريته. الرجل فظيع بما تحتمله الكلمة. قدرته على الإبداع وليدة وجع هائل. واضح في مواقفه. قريب بالسخرية من الشعب
اللبناني المعروف بهذا الحسّ. يحضر التحدّي في مسرحه. خشبته تصفع. كفٌّ تلو الكفّ. ثمة وعيٌ لا بدّ أن يُستَخلَص. لا يجيب بل يسأل. مسرحه مجهر يأتي بالإشكاليات من الزوايا الى الواجهة. يوضّحها. يضع الإصبع على الجرح. صادق. قوي. إنسانه موجوع وواقف في آن واحد. إنسانه غير مكسور. دائم الضحك على نفسه. في إمكان السخرية على مسرح ريمون جبارة أن تداوي جرحاً. مسرحه يمنح الأمل. يؤسفني عدم العناية الكافية بأرشيفه وغياب الفيديوات التي توثّق أعماله. لم أعمل معه. حضر بعض مسرحياتي، وشجّعني على المزيد. كم أشعر بالوقار وأنا أصغي إليه. من فرط إعجابي لا يعود النطق ضرورة.


 


كيف لا يُدرِّس؟


عايدة صبرا


كبيرٌ أسّس مع كبار أمثاله المسرح اللبناني. أستشفّ من نصوصه كيف ينظر الى الحياة وكيف يريدنا، من غير إملاء ووعظ، أن نفعل. عشق التفاصيل واستحضرها من الظلّ الى الضوء. لذيذٌ الكفُّ في مسرحه. مُشاهده ينتظر الصفعة، فتباغته وتحلّ عليه من حيث يشيح النظر. يحزنني أنّ اسماً مثل ريمون جبارة لا يحظى بالاهتمام اللازم لجهة أرشفة أعماله. كيف نعلّم تلامذة المسرح في الجامعات أسماء كبيرة من الغرب، فيما أعمدتنا لا تُدرِّس كما يجب؟ أمام وزارتي الثقافة والتربية مسؤولية السعي الى أرشيف كامل لمن صنعوا النهضة المسرحية وحرّكوا الجمهور في اتجاه الخشبة. يستوقفني الإنسان في مسرح ريمون جبارة. هو الحاضر الأول، مرفَقاً بكثافة التوجّس. ماذا يواجهه وماذا ينتظره وماذا يحول دون هنائه؟ السخرية في تصوير المعاناة أشدّ وطأة من المعاناة عينها. هذا أسلوبه. لا يحتاج الى أن يصرخ بالجمهور: "أوعوا!". المتلقي من تلقائه يُعيد المراجعة: كيف نفكّر وماذا نفعل بذواتنا؟ يُنكِّت على المعاناة وعلى الواقع المرّ. نحّات في تعاطيه مع الشخصيات. يبدع لأنه يضعها في ملعبها. هو وممثلوه عناصر قوية تبهر المُشاهد. محظوظٌ مَن عمِل معه. محظوظٌ مَن عرفه أكثر.


 


أقدِّس هذا الذي تختزل أعماله احتفالية الإنسان


جوليا قصّار


لا أبالغ في القول إنّ أجمل ما حدث معي هو اللقاء بريمون جبارة. أستاذٌ كبيرٌ آمن بي كممثلة، وأتاح لي الوقوف للمرة الأولى برفقته على المسرح. لا أخجل من المجاهرة بأنني أنتمي الى زمن يقدّس أساتذته. يختزل العمل مع ريمون جبارة احتفالية الممثل على المسرح. قال مراراً: "لو لم أكن ممثلاً، لما كتبت". يحتفل بالممثل، ومن خلاله تحضر احتفالية الإنسان. أعود الى أيام التمارين الممتعة. قدرة ريمون جبارة هائلة على خلق علاقة خاصة مع الممثل. كان الاستعداد للمسرحية احتفالاً بالعمل معه. ممثلوه متماسكون إثر الطاقة الجميلة التي يظلّ ينشرها على المسرح. لم ييأس على رغم أنّ الإنسان في نظره "مشروعٌ فاشل". يرفض الهزيمة ولا يزال "يقاتل". أُعجَبُ بإنسان لا يفسح المجال لأيّ إحباطٍ بالتغلّب عليه. أراه مناضلاً وسط حياة صعبة. يناضل بالفكر وقوّة الإرادة، وهو أكثر المدركين مآسي العبث. يغلّب الحياة على الحرب، ويشعل في ممثليه الرفض والتمرّد. يفعل هذا كلّه لإيمانه بإنسان أفضل. انتقاده الظلم والعدم نابعٌ من كونه يتوق الى التغيير. هو نموذج روح الفنان العالية. يؤمن بأنّ الإنسان كائنٌ ميؤوس منه، لكنّه يظلّ يحلم بعالمٍ أفضل. وفيٌّ. نقيٌّ، لا ينسى العظماء من أمثاله. مسرحه كصخب الحياة، يلدغ، يضرب، لا يُشرَب من الكأس ذاتها. يقول ما يريد بأقل الكلمات. بهذه الكلمات القليلة وجّهنا الى أقصى الفاعلية في الأداء والعطاء.


 


التركيبة المتفوّقة النادرة


رفعت طربيه


إذا سُئلتُ عن رجل مسرح، فلن أنطق باسم آخر: ريمون جبارة. كاتبٌ ومخرجٌ وممثل. تركيبةٌ متفوّقةٌ ونادرة. يتعامل مع العمل بخفّة متناهية. يتقن تحويل المشهد العابر مشهداً مسرحياً في لحظات. حين عملتُ وإياه في "شربل"، وزّع عليّ نصاً عبارة عن ورقة. لوهلةٍ دُهشت. ورقة؟! سألتُ كميل سلامة: "ما هذا؟"، أجاب: "إنّه أبو الريم. المسرحية كلّها هون"، مشيراً بالإصبع الى رأسه! فنانٌ يحترم الممثل، يصغي إليه، ولا يتكبّر. هو في الدقائق الخمس الأولى من التعرّف إليه "أستاذ ريمون"، بعدها "أبو الريم"! يجمعنا حديث المسرح وكلّ حديث آخر. رجلٌ "عيِّيش"، "شببلك"، مرحُه أسود في الحياة والمسرح. من حواضر البيت يستنبط مسرحية. يجعل من الخاص فناً بين الأيادي. خلّاقٌ على رغم مرضه. أذكر في "مقتل إنّ وأخواتها" كم كان يتعب. كنا بنظرة منه نفهم المبتغى. وحده ريمون جبارة يستعيض عن الكلام بالصمت وإشارات العينين، ويظلّ خلّاقاً. دراميٌّ من الطراز الأول. يتعاطى مع الوجع بإيجابية مسرحية. أعماله تولّد صفعة. يُضحك الجمهور ثم يلوم نفسه لأنّه فَعَل. مسرحه ابتسامات صفراء. تلك ضرورة المسرح الساخر. يستحيل معها بلوغ حال القهقهة. إذا حدث فالمصير هو الندم. "عملها فينا ريمون جبارة!". صاحبُ مقالِب. يوقع الجمهور في فخ. الجمهور الضاحك خلال "زرادشت صار كلباً" بينما أرسمُ كميل سلامة على هيئة كلب، سرعان ما أدرك المغزى. شعر، من حيث لم يتوقّع، أنّ الجمهور الكلب هو الذي جعل سلامة في العمل كلباً! هنا قوّته. حتى إنّه من فرط هذه القوة لم يدرك ماذا يفعل. ولم يدرك عظمته. غريبٌ عجيب هذا الرجل إذ يكتب المسرحية في 48 ساعة. يخمّرها سنواتٍ في رأسه، يقصّها على الأصدقاء، يضيف، يعدّل، ويُفرغ النصّ على آلة تسجيل، ويقول هيّا. في المسارح هامات، الأبرز ريمون جبارة. يتفوّق على الجميع بأنه رجل مسرح. أجزم أنّ مَن جرّب العمل معه يتمنّى، طالما يقف على مسرح، أن يكرر التجربة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم