الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"الوطن الملجأ" مَن يُنجِده؟

محمود الزيباوي
"الوطن الملجأ" مَن يُنجِده؟
"الوطن الملجأ" مَن يُنجِده؟
A+ A-

في العام 1965، أنجز كمال الصليبي بحثاً بالانكليزية عنوانه "تاريخ لبنان الحديث" تناول فيه نشوء هذا الوطن وتطوّره من القرن الثامن عشر حتى العصر الحالي، وصدر الكتاب عن "دار وادنفلد ونيكولسون" البريطانية بالتعاون مع "دار بريغر" الأميركية في صيف ذلك العام. قبل صدور هذا الكتاب المرجعي، وضع المورخ مقالة عنوانها "تعريف موجز بلبنان" تُرجم إلى العربية ونُشر في مجلة "الأبحاث" الصادرة عن الجامعة الأميركية في العام 1962، واعتُبر هذا البحث مقدمة لـ"تاريخ لبنان الحديث". في شباط 1965، أعاد "ملحق النهار" نشر هذه المقالة منوّها بأهميتها، واختار لها عنوانا مثيرا: "تاريخ لبنان الطائفي، قرون من التصرّف الذاتي لم يكن فيها شعب لبناني".


في هذه المقالة، استعرض الصليبي بشكل موجز وسلس "الهجرة" الداخلية للجماعات أو الطوائف اللبنانية في الفترة التي سبقت إنشاء "المتصرفية اللبنانية". بحسب رأي الباحث، لم يُستعمل اسم "لبنان" استعمالاً رسمياً محدد المضمون إلاّ بعد قيام هذه المتصرفية، ولم يُستعمل اسم "جبل لبنان" للإشارة إلى المنطقة الشهابية بكاملها إلاّ في وقت متأخر من القرن الثامن عشر. قبل أن تولد الجمهورية اللبنانية، نشأت "الإمارة اللبنانية" تحت حكم المعنيين والشهابيين، وتألفت بشكل أساسي "من المقاطعات المارونية والدرزية التي كانت إقطاعاً للأمراء، والتي شكلت بعد ذلك متصرفية لبنان". تجاوز حكم هؤلاء الأمراء في كثير من الأحيان حدود هذه المقاطعات إلى المناطق المتاخمة لها. حكم المعنيون صيدا وبيروت، ودخلت طرابلس ضمن أملاكهم مدة من الزمن. كذلك، حكم الشهابيون هذه المناطق أكثر من مرة، وسيطروا على القسم الأوسط من البقاع الذي كان يُعتبر من الوجهة الرسمية جزءاً من ولاية دمشق، كما سيطروا على سهل عكار في الشمال الشرقي من طرابلس. لم يحكم المعنيون والشهابيون البقاع الشمالي، غير أن سكان منطقة بعلبك من المسلمين الشيعة كانوا "على علاقة وثيقة بشؤون الإمارة اللبنانية إلى حد لا يمكن أن يفصل تاريخها عن تاريخ جبل لبنان". امتد الحكم المعني والشهابي في الفترة العثمانية من جبال لبنان الشرقية إلى البحر، وضم منطقة تماثل في حدودها الجمهورية اللبنانية التي ولدت في مرحلة لاحقة، غير أن هذه المنطقة لم تكن موحّدة "بسبب الانقسامات العميقة بين الفرق والطوائف اللبنانية المختلفة، وان المؤرخ ليجد صعوبة في التكلم عن شعب لبناني دون تحفّظ". شكلت هذه الطوائف ما يُشبه الكونفيديرالية، واقتصر الاتصال العملي بينها على التعاون السياسي والعسكري.


الهجرات الداخلية
قبل الحكم العثماني، عرفت هذه المنطقة تحولات ديموغرافية عديدة، وتغيرت تركيبتها السكانية بشكل كبير. سيطرت فرق من الشيعة على لبنان بأكمله باستثناء مناطق بشري والبترون وجبيل التي كانت تحت سيطرة الموارنة. بقيت كسروان شيعية حتى القرن الرابع عشر، وكذلك كانت حال البقاع. قبل ذلك التاريخ، انتشرت الاسماعيلية في وادي التيم وفي الشوف على الأرجح، ثم تحول أهل هاتين المنطقتين الى المذهب الدرزي في وقت ما في مطلع القرن الحادي عشر. بين 1098 و1291، شهد الشرق الأوسط دخول الحملات الصليبية وتداعي الإمارات التي أقامتها في المشرق، ومع خروج الفرنجة، تغيرت الخريطة الديموغرافية في لبنان. سقطت الخلافة الفاطمية، ومعها فقد الشيعة السند الحامي، فـ"أصبحت القاهرة، عاصمة العالم الشيعي حتى ذلك الحين، قاعدة السلاطين من الأيوبيين والمماليك، وحصناً ضد الصليبيين والشيعة على السواء". أتمّ المماليك تحرير بلاد الشام من الفرنجة، ثم انقلبوا على الشيعة، وانهارت جبال عكار والضنية سريعاً أمامهم، "وتحول سكان هاتين المنطقتين إلى السنّة، وتفرّق بعضهم في البلاد فحلّ محلّهم السنيون". قاوم شيعة كسروان المماليك على مدى ثلاثة عشر عاماً، وتشتتوا إثر هزيمتهم في العام 1305، "ومع مرور السنين أخذ المستوطنون الموارنة القادمون من الشمال يحلّون محل الشيعة في هذه المناطق، بينما استمر تقلص الشيعة نتيجة الضغط والاضطهاد، فأخذ المذهب الشيعي يختفي تدريجاً من أكثر مدن الساحل، حتى لم تبق له أغلبية إلاّ في مدينة صور. أما جبل الدروز فلم تبق فيه سوى قريتين شيعيتين فقط، في منطقة الغرب (جنوب شرق بيروت)، بالإضافة إلى بعض الجاليات الساحلية خارج بيروت وبعض قرى الشوف الجنوبي، في مقاطعة جزين. وقد عبرت بعض الجماعات من الشيعة القادمين من منطقة بعلبك المرتفعات اللبنانية في أوائل القرن السادس عشر، واستقرت في مناطق جبيل وبشري وكسروان. ولكن ما إن قارب القرن الثامن عشر نهايته حتى كان أكثر هؤلاء المستوطنين قد طُردوا من هذه المناطق المارونية بمساعدة من الشهابيين، تاركين وراءهم عدداً قليلا من الجاليات الشيعية لا يزال في منطقة جبيل حتى الآن".
بالتزامن مع هذا الانحدار الشيعي، ازداد عدد السنّة خلال فترة المماليك والعثمانيين، وتكرّس تمدّدهم مع الزمن. في المقابل، استقرّ الدروز في الشوف ووادي التيم، وارتبطوا سياسياً بالموارنة خلال القرن السابع عشر. من وادي العاصي، جاء هؤلاء الموارنة إلى جبل لبنان، واستوطنوا في البدء الأقاليم الشمالية من بشري والبترون وجبيل، وأخذوا بالتمدد جنوباً إلى كسروان في مطلع القرن الرابع عشر، كما أشرنا. بعد ذلك، استقرّ عدد كبير منهم في المناطق الدرزية في الجنوب تحت رعاية المعنيين والشهابيين، وباتوا أوسع الطوائف انتشاراً في البلاد. جنح الملكيون (أي الروم) الى التجمع في المدن الساحلية والقرى الجبلية الكبيرة، ووطّدوا معيشتهم بشكل أساسي على التجارة والحرف. انقسمت هذه الطائفة في أواخر القرن السابع عشر روماً أرثوذكساً وروماً كاثوليكاً، واستوطن قسم كبير منها البلاد على دفعات. يرى كمال الصليبي أن "نسبة كبيرة من الروم الكاثوليك والروم الأرثوذكس في لبنان كانوا من الوافدين الجدد الذين استوطنوا البلاد في العهد العثماني، وخاصة بعد انفصال الطائفتين، الا أنه كان في لبنان ملكيون في زمن سابق لذلك، فقد كان ثمة طائفة قديمة من المزارعين الملكيين في لبنان الشمالي، في منطقة الكورة، منذ أوائل القرن الثامن حيث يقال إن الملكيين المقيمين في هذه المنطقة اصطدموا بجيرانهم الموارنة. وقد لحق عدد كبير من هؤلاء الملكيين بالموارنة عند نزوحهم جنوباً إلى المناطق الدرزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولكن الملكيين في لبنان اليوم الذين يعودون بأصلهم إلى الكورة لا يكوّنون إلا نسبة ضئيلة من طائفتهم، والأغلبية العظمى جاءت من حوران، وشمال فلسطين، والداخل السوري، وقد هاجر بعض هؤلاء الملكيين إلى لبنان كما هاجر غيرهم من النصارى أثناء حكم المماليك فراراً من أساليب الاضطهاد التي كانت تمارَس في حق النصارى بعد القضاء على الإمارات الصليبية. وقد تبعهم كثيرون أيام العثمانيين، فقد جذبهم تسامح المعنيين والشهابيين وحكمهم الخيّر. وخلافاً لمزارعي الكورة الملكيين كان معظم هؤلاء النازحين الجدد من سكان المدن الذين لم تجذبهم الحياة الزراعية في الجبال، وبالتالي فإن نسبة ضئيلة منهم استقرّت في الريف، وحلّت الأكثرية في مدن الساحل والقرى الجبلية الكبرى حيث واصلوا العمل في التجارة والحرف".
قبل أن يتحول لبنان وطناً وجمهورية، حضن جماعات اختلفت في أصولها كما اختلفت في نموّها وتطورها، واكتسبت كلٌّ من هذه الجماعات خصائص تميزت بها. عاشت هذه الطوائف جنباً إلى جنب خلال الحكم الشهابي، غير أنها لم تتوحّد، "وهكذا فإن الشعب اللبناني لم يكن حين ذاك أمة ذات وحدة في الهدف، وذات تحسس موحد بكيانها، بل برز كحلف يجمع بين طوائف مختلفة، منظّم على شكل عقد اجتماعي. وتاريخ لبنان منذ القرن الثامن عشر ينطوي في المقام الأول على تطور هذا العقد الاجتماعي، وانعكاس هذا التطور على مجرى التنظيم السياسي للبلاد".


الهدف المشترك
نشر "ملحق النهار" بحث كمال الصليبي، ورأى من خلاله أن "لبنان الشيعة والدروز والموارنة غير لبنان السنّة والطوائف الأخرى"، وبعد أسبوعين، عاد ونشر رداً من توقيع مفيد أبومراد عنوانه على صيغة سؤال: "لِم يختلف السنّة والملكيون عن الشيعة والدروز والموارنة؟". اعتبر الكاتب أن الصليبي أغفل "اعتراف العثمانيين بالروم كمرجع مسيحي رسمي ووجه ذمي شرعي"، وشدّد على أهمية هذا الاعتراف الذي أعطى الأرثوذكسي "حقوقا رعوية جعلته مواطناً ثانياً إلى جانب المواطن الأول الذي هو المواطن السنًي". هكذا تعايش السنّيون والملكيون بانتظام في المدن والموانئ والسهول المفتوحة، "فاستأثر أهل السنّة بوظائف الدولة العسكرية والمدنية. وانصرف الأرثوذكس إلى النشاط الاقتصادي والأدبي، وهذا ما يفسر لنا تجمع الثروة الاقتصادية للروم، أرثوذكساً وكاثوليكاً في ما بعد، في المدن العثمانية المختلفة، وكذلك حصولهم على الخبرة المالية والإدارية والتقنية والمهنية، وإطلاق لفظة خواجة على النصارى من أهل المدن، أي على الروم الملكيين، تحريف للفظة خوجة أي معلم". شكلت اتفاقات فرنسوا الأول مع سليمان القانوني منعطفاً تاريخياً مهماً، إذ أقرّت حماية فرنسا للرعايا اللاتين على أرض السلطنة. ولما ضعفت هذه السلطنة، توسعت هذه الحماية لتشمل من قال بقول اللاتين، أي الموارنة ثمّ الروم الكاثوليك. ساهمت هذه الحال في دفع بعض الدروز والشيعة إلى التنصر، "واقتباس المذهب الماروني بالذات، تخلصاً من المتاعب وطمعاً بالمكاسب التي أغدقتها الحماية وقنصلياتها الطامعة". اجتمع الموارنة والدروز والشيعة في مواجهة سياسة التهميش التي اعتمدتها الخلافة تجاههم، وانضمّ الروم إلى هذه الوحدة الثلاثية في القرن التاسع عشر "عندما اشتدّ جاذب النعيم، مرقد العنزة، الذي خلقته الطوائف المذكورة حين وطّدت ووسّعت ما يُسمّى الإمارة اللبنانية، وقد التحق السنّيون بوحدة الهدف تلك بعد أن صدمهم سقوط الخلافة، وروّعتهم سياسة تركيا الفتاة التتريكية القومية المعادية للعرب، وضايقهم الانتداب الفرنسي، وتبخرت أحلام الخلافة الإسلامية عثمانية كانت أم مصرية فاروقية".
يصعب القول بأن هذه الوحدة تمت بهذه الصورة الوردية. تقاتل الموارنة والدروز بين 1840 و1842، مما سمح للسلطنة العثمانية بإلغاء الإمارة وتعيين موظف عثماني لإدارة البلاد. تحولت الإمارة إلى قائمقاميتين، وبعد عقدين من الاحتقان المتفاقم بين الموارنة الدروز، غرق لبنان في مذابح 1860 التي امتدت إلى الداخل السوري وأوقعت ألوف القتلى. أفسحت هذه الكارثة المجال أمام فرنسا للتدخل، وأدت إلى قيام كيان خاص للبنان يرأسه متصرف مسيحي كاثوليكي غير لبناني يعيّنه السلطان من بين رعاياه. هكذا ولدت الفكرة اللبنانية وتحققت مع نهاية العهد العثماني عند انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. في اليوم الأول من أيلول 1920، ظهر الجنرال غورو وسط بطريرك الموارنة والمفتي الكبير في قصر الصنوبر، وأعلن في خطاب طويل قيام "لبنان الكبير" أمام أعيان البلاد، وتزامن هذا الإعلان مع القضاء على استقلال "الدولة العربية" في سوريا. خطب القنصل نجيب بيه أبو صوان يومذاك في بدء الاحتفال، وقال مرحّباً بالجنرال الفرنسي: "في هذه الساعة المهيبة التي تدخل التاريخ لتدوين حقبة غير قابلة للانمحاء، بيروت زهرة سوريا، عاصمة لبنان الكبير، مستعيدة أنفاسها الحرة، تحيي فيكم راعيها وتحيي بشخصكم فرنسا المجيدة". في 23 أيار 1926، تلقت دولة لبنان الكبير دستوراً حوّلها إلى "الجمهورية اللبنانية". هكذا ولدت كلٌّ من الجمهورية اللبنانية والجمهورية السورية تحت الانتداب الفرنسي الواحد، وكانت لهما عملة واحدة وخدمات جمركية واحدة، كما كان لكل دولة علمها الخاص، وإدارتها المحلّية الخاصة، تحت إشراف المفوّض السامي الفرنسي ذاته الذي كان مقامه الدائم في بيروت. وبعد سنوات، أصبح لكل من الدولتين الشقيقتين نشيدها الوطني الخاص بها.
تمّ إعلان دولة لبنان الكبير كدولة مستقلة تحت الانتداب الفرنسي، وتم بعدها إقرار الدستور، وتحققت بذلك الدعوة التي نادى بها الموارنة منذ عهد المتصرفية. رفضت الحركة الوطنية السورية وأنصارها في لبنان الاعتراف بالكيان اللبناني الناشئ، ودخلت المنطقة في صراع داخلي استمر حتى مطلع الثلاثينات، حين اشترطت فرنسا على الحركة الوطنية السورية الاعتراف بالكيان اللبناني قبل توقيع معاهدة تقرّ فيها باستقلال دولتي سوريا ولبنان. ولد الميثاق اللبناني في خضمّ هذا الصراع، وجاء بمثابة صيغة توفيقية تجمع بين الولاء القومي العربي والاعتراف بالكيان اللبناني. في دمشق، تحدث رياض بك الصلح عن "الموارنة والنهضة العربية"، فردّ أسعد عقل التحية بالمثل، وقال: "أجل ان نفحات روح دمشق وأنوار قلبها الفياض، تصل إلينا، وتحلّ في قلوبنا على الرحب والسعة، وتتعانق، على الرغم من جميع العقبات، مع روح لبنان وجهوده الوطنية ومناعته التاريخية في المحافظة على استقلاله. نحن نقرّ لسوريا العربية الجبارة بمكانتها السامية، ونقدّس طموحها للحياة الحرة، ونعترف بأن دمشق كانت وما برحت قائدة العرب ونهضاتهم وسيدة هذا الشرق القريب، فانقذوها وانقذوا لبنان يا دعاة الأخاء والتفاهم. وحيلوا دون قيام كل عقبة يقيمها المستعجلون في طريق تعاونهما المقدس لضمان حرية البلدين". بعدها، أعلن رياض الصلح في صيدا أنه "لبناني انفصالي اذا كان أساس الكيان اللبناني استقلالاً حقيقياً"، وشكل هذا الإعلان ولادة لمرحلة جديدة بدأ فيها تبنّي السنّة مبدأ الوطن اللبناني المستقل.
استقلت الدولة الناشئة عن فرنسا في العام 1943، وتسلّم الموارنة سلطة الحكم في الجمهورية التي كان لهم الدور الأساسي في تأسيسها. تحوّل لبنان إلى جمهورية، غير أنه بقي مجموعة من الطوائف منظّمة على شكل "عقد اجتماعي"، كما في عهد الإمارة. في تشرين الثاني 1952، اصدرت جريدة "العمل" لمناسبة عيد الاستقلال وعيد تأسيس حزب الكتائب عدداً ممتازاً شارك فيه سعيد فريحة بمقال مميز عنوانه "هذا الكوكتيل الذي يتألف من شعب لبنان". استهل صاحب "الصياد" حديثه بالكلام عن قانون الانتخاب الجديد الذي تبنّته الحكومة اللبنانية يومها، ورأى أنه قانون "يوزع الدوائر على أساس طائفي، فهنا سنّي، وهناك ماروني، وهناك شيعي، أو درزي، أو أرثوذكسي، أو كاثوليكي أو أرمني كاثوليكي، أو أرمني أرثوذكسي، أو الأقلياتي نسبة إلى الأقليات، إن لكل واحد منهم طائفته وأرضه الحرام في العاصمة والجبل وسائر المناطق اللبنانية". اعتبر الكاتب أن هذا القانون يعكس الواقع اللبناني، وقال: "أعتقد لو أن الدوائر وُزّعت على أساس غير طائفي لما تبدلت الحال كثيراً، ولانتخبت كل طائفة نوابها دون سواهم، لأن فضيلة العزلة أو الانكماش، سمِّها كما شئت، جعلت كل طائفة من طوائف هذا الوطن تعتصم بمناطقها وتستقل بأحيائها". حذّر فريحة في خطابه من تعاظم المسألة الطائفية في لبنان، وأضاف: "الطائفية في لبنان خطر، وخطر كبير جداً، وليس أدل على ذلك من وجود هذا الكوكتيل العجيب الذي يتألف منه شعب لبنان. بل ان الكوكتيل العادي يمتزج ويختلط ويصبح واحداً له طعم خاص ونكهة خاصة. أما شعبنا الأبي فيتألف منه كوكتيل لا يمتزج ولا يختلط، بل يظلّ بمئة طعم ومئة لون، مع ثلاث وثلاثين دائرة انتخابية، كل واحدة منها لطائفة أو لعدة طوائف، وكل طائفة، لها نواب منها وممثلون عنها، سواء أكان القانون على أساس طائفي أم كان على أساس: الدين لله والنيابة للجميع".
وفي العام 1958، تشاجر اللبنانيون وتقاتلوا في ما بينهم لمدة ستة أشهر حول مسألة الوحدة العربية التي عصفت بلبنان والعراق أيام صعود نجم الزعيم جمال عبد الناصر. هلّل الشيخ عبد الله العلايلي لـ"ميلاد لبنان"، وقال: "وفخر هذا اليوم البطولي، أنه جاء تصحيحاً ليوم بطولي قبله، فذاك أشار إلى أن لبنان ذو وجه عربي، وهذا أعلن في سمع الدنيا أن لبنان ذو حقيقة عربية، على أن ذاك حرّر لبنان من مستعمر على نحو ولون، وهذا حرّره من الاستعمار على كل نحو وكل لون". تفجّر هذا الصراع بشكل لم يسبق له مثيل في السبعينات، وتحوّل سلسلة من الحروب الأهلية المتواصلة حتى يومنا هذا. أحدثت هذه السلسلة من الحروب تحولاً جذرياً في الخريطة الديموغرافية اللبنانية تجلّى في خروج الشيعة من العزلة وصعودهم إلى الواجهة من جهة، وانكفاء المسيحيين ودخولهم في حال الإحباط المزمنة من جهة أخرى.
دمرت الحروب الأهلية الفكرة اللبنانية، غير أنها لم تقض على البناء العشائري الطوائفي الذي ساد في عهد الإمارة، قبل قيام المتصرفية، واستمر سيدا في عهد الاستقلال وبعده. في هذه الحقبة الحافلة بالأزمات، اختلف اللبنانيون في ولائهم، فتبنّى فريق منهم فكرة "لبنان الملجأ"، وتبنّى فريق آخر فكرة "القومية السورية"، وتبنّى فريق ثالث فكرة "القومية العربية". تهاوت هذه الأفكار بالتزامن مع صعود القوتين الإقليميتين الكبيرتين القديمتين والمتجددتين، القوة الإيرانية والقوة التركية، وعودة العرب إلى العصر الذي اطلقوا عليه اسم "عصر الانحطاط". في انتظار ما ستؤول إليه الأيام، يتشبّث اللبنانيون بعشائريتهم التقليدية في انتظار قوة خارجية عظمى تعيد رسم مصيرهم، كما حدث في الماضي القريب.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم