الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

اللادولة أو العدالة الانتقالية

محمد أبي سمرا
اللادولة أو العدالة الانتقالية
اللادولة أو العدالة الانتقالية
A+ A-

في أيّ إطار وسياق يمكن الكلام اليوم على حركة المجتمع المدني وتجاربه ونشاط منظماته غير الحكومية المحلية والدولية، الحقوقية وللتنمية الاجتماعية والسياسية في لبنان، وذلك بعد مضي 40 سنة على بدء الحروب الأهلية الملبننة و25 سنة على توقفها، من دون مرحلة انتقالية ترسي آليات للمحاسبة وللتعامل مع إرث العنف والانتهاكات، وللعدالة وإنصاف الضحايا والمصالحة، ولبناء الدولة على أسس سليمة؟ وإذا كانت "ثورة الأرز" اللبنانية، المدنية والسلمية، تحت شعار "حرية، سيادة، إستقلال"، في شباط وآذار 2005، قد عجزت عن إطلاق آليات للمحاسبة والعدالة الانتقالية في ما يتعلق بحقبة الاحتلال السوري وبحقبة الحرب المديدة التي أدت الى ذلك الاحتلال، وتمكنت فقط من تحقيق مطلب إنشاء محكمة دولية خاصة باغتيال رفيق الحريري؛ فهل من المنتظر بعدُ أن يتمكن اللبنانيون من فتح ملفات العنف السياسي وإرثه المديد الذي لا يزال يتهددهم حتى الساعة؟


ثورات "الربيع العربي"، المدنية والسلمية البادئة في 2011 - وهي في بواعثها العميقة ثورات للحرية والعدالة والكرامة - أُجهضت في مهد مراحلها الانتقالية لإرساء العدالة والمحاسبة في مصر وليبيا واليمن، وتحولت جحيماً في سوريا قبل أن تصل الى تلك المرحلة. وذلك بسبب الضعف السياسي للقوى المدنية في هذه البلدان، معطوفاً على انتهازية حركات الاسلام السياسي، وعلى تمكّن ما يسمى "تيار الممانعة" الأسدي - الإيراني وذراعه العسكرية في لبنان، من إجهاض "ثورة الأرز" أولاً، ثم تحويل الثورة السلمية السورية الجَسورة جحيماً للقتل والتدمير.


مآسي شبّان الثورات
القوى المدنية في "ثورة الأرز" وفي ثورات "الربيع الربيع" - وهي قوى شبابية في بؤرها الاساسية - حلمت في بدايات الثورات بإطلاق منظمات فاعلة في ثنايا المجتمع المدني المحلي، تعضدها وتساعدها وترشدها منظمات دولية غير حكومية، في مجالات الحقوق المدنية والانسانية، والعدالة الانتقالية. لكن حضور شبّان تلك الثورات سرعان ما تلاشى في لبنان بعد تفكيك "مخيم الحرية" في ساحة الشهداء/ الحرية في بيروت.
في مصر تمكّن النظام العسكري الجديد من تشتيت "ائتلاف شبّان الثورة"، والزج بأبرزهم في السجون. هذا فيما عشرات الألوف من شبّان سوريا الذين تظاهروا طوال أكثر من سنة في ملحمة لا مثيل لها في النضال السلمي والإعلامي والمدني في مواجهة القتل اليومي، لم يبق منهم أحد في سوريا، إلاّ في المقابر ومعتقلات التعذيب المروع والمميت. أما شبّان الثورة اليمنية المدنية والسلمية، بعد خروجهم الجَسور على العصبيات القبلية المسلحة، فقد غيّبتهم والتهمتهم الثورة المضادة المنعقدة في رعاية إيرانية، بين "أنصار الله" الحوثيين والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح. مَن بقي منهم ناشطاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يعيش حائراً خائفاً ومحاصَراً بين القصف الجوي السعودي والترويع الحوثي اليومي في الجغرافيا السكانية اليمنية القبلية.


إرث الحرب
"المركز الدولي للعدالة الانتقالية" الذي تأسس في العام 2001، تحت شعار "المحاسبة عن انتهاكات حقوق الانسان" و"مساعدة المجتمعات على التصدي لإرث العنف والحرب"، وعلى "إعادة البناء"، أحيا في لبنان، بتمويل من الإتحاد الاوروبي، عدداً من ورش العمل، وأصدر دراسات وتوصيات وأبحاثاً بين العامين 2013 - 2014. شارك في إنجاز الورش والدراسات عدد من منظمات المجتمع المدني، باحثون وأكاديميون في لبنان. نجم عن ذلك تأليف فريق استشاري، واعلان توصيات في ما يتعلق بمسائل العدالة الانتقالية. ساهم في المشروع كلٌّ من جامعة القديس يوسف، و"مركز دراسات العالم العربي المعاصر" فيها، ومؤسسة "فريدريش إيبرت". من أهم توصيات المشروع "إنشاء لجنة مستقلة لإجراء عملية بحث شاملة عن الحقيقة في شأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان والقانون الدولي، المرتكبة منذ اندلاع الحرب في لبنان سنة 1975، حتى يومنا هذا".
أصدر المركز أربعة تقارير مرجعية في ما يتعلق بالعدالة الانتقالية في لبنان:
- إرث لبنان من العنف السياسي: مسح للانتهاكات الجسيمة في سنوات الحرب. يوثّق هذا التقرير معلومات عن حوادث العنف التي شهدها لبنان ما بين 1975 و2008، حسب مراحل الحرب ومنعطفاتها.
- عدم التعامل مع الماضي: أي تكلفة على لبنان؟
- كيف يتكلم الناس عن حروب لبنان: دراسة حول تجارب سكان بيروت الكبرى وتطلعاتهم.
- مواجهة إرث العنف السياسي في لبنان: برنامج للتغيير.
بناء على قراءة هذه التقارير، وفي مناسبة الذكرى الـ 40 لبدء الحرب والذكرى الـ 25 لانتهائها، نقتفي هنا بعضاً من ملامح جيل حرب السنتين الأوليين من الحرب.


جيل حرب السنتين
كانت الحروب الأهلية البادئة في لبنان في 13 نيسان 1975، في وجه اجتماعي عميق من وجوهها وبواعثها، وليدة بيئات أهلية ضعيفة الصلة بنشوء لبنان ودولته الحديثة (1920)، وبقاعدتها الاجتماعية ومؤسساتها ونظامها السياسي. استبطن ذلك الضعف مركّباً معقّداً، من عناصره شعور تلك البيئات (مسلمة في غالبيتها) بالحيرة والقلق والغربة والإهانة، وصولاً الى الضغينة المبيتة والمعلنة، حيال لبنان الوطن والدولة، حسب الظروف والتحولات السياسية والاجتماعية الداخلية والاقليمية الخارجية.
عن تنامي ذلك المركّب وتحولاته وأشكال التعبير عنه في بيئاته الأهلية ومن جيل الى جيل، نشأ أخيراً جيل فتيّ وشاب في المدن وضواحيها المتوسعة، يعاني من قطيعة واقتلاع ولاانتماء في بيئاته الأهلية التقليدية الذاوية والخاوية التي صدر عنها، من دون أن تقوى الأطر المجتمعية الوسيطة المحدثة للدولة اللبنانية ومؤسساتها على استيعابه وإدراجه في نسيجها وهيئاتها الاجتماعية والسياسية والتمثيلية.
إنه جيل حرب السنتين الأوليين من الحرب (1975-1976)، الناشط منذ عشياتها في نهاية ستينات القرن العشرين، بحثاً عن ردم هوة قطيعته المزدوجة، وعن تصريف قلقه وتذرره ولاانتمائه وضياعه وغربته، خارج بيئته الأهلية وأطرها وعلاقاتها وثقافتها التقليدية الضامرة، وخارج الأطر الوسيطة للدولة ومؤسساتها ونظامها السياسي والتمثيلي التي كانت عاجزة عن استيعابه وإدراجه فيها، بسبب ضعفها وجمودها وعدم استجابتها للتطورات الاجتماعية المستجدة. في بحثه هذا وتوقه الى الحضور والفعل، عمل ذاك الجيل على مزج نشاطه الإيديولوجي والثقافي الفانتاسمي أو الهوامي- المكتسب من انخراطه في التعليم وفي هوامش الحياة المدينية - بالعمل "السياسي" الحركي العروبي واليساري الهوى، وخصوصاً في أطر الحياة الطالبية المتوسعة قاعدتها في الثانويات والجامعات. لكن ذلك النشاط لم يلبث أن انزلق نحو العمل المباشر العنيف والمسلح، المنبعث من ضغينة ذلك الجيل على لبنان الوطن والدولة. وقد تغذّى ذلك الانزلاق من تمرّد اللاجئين الفلسطينيين وإنشائهم، غداة هزيمة حزيران العربية الناصرية والبعثية في العام 1967، منظمات عسكرية غذّتها واستعملتها الأنظمة العربية المهزومة وسواها (مصر الناصرية، سوريا والعراق البعثيان، ليبيا القذافية، والسعودية النفطية الملكية) في حروب بالوكالة ضد إسرائيل، عبر الأردن ولبنان، وفي حروب أخرى مخابراتية في ما بين تلك الأنظمة نفسها.
استهون ذلك الجيل اللبناني، المثلوم "الأبوة" السياسية والاجتماعية، في نشاطه التمردي على قطيعته المزدوجة، استلهام التمرد الفلسطيني المسلح، فاتخذه مثالاً، بل باشر الالتحاق به وبشعاراته وأهدافه، مع توسع منظماته المسلحة ونفوذها في الجغرافيا اللبنانية (وخصوصا في الجغرافيا والبيئات المسلمة)، وصولاً الى انتشار سلاح الحرب الأهلية الملبننة وتنظيماتها وأحزابها وشللها ومتاريسها وخنادقها في تلك البيئات، قبل منتصف سبعينات القرن العشرين.


هل كان السلاح قدراً؟
اليوم، وفي استعادة تأملية سريعة لأحوال ذلك الجيل، جيل حرب السنتين وعشياتها، تحضر التساؤلات الآتية:
هل كان قدراً محتوماً أن يتخذ النشاط التمردي لذلك الجيل صيغة العمل العنيف المسلح في توقه الى الحضور والفعل، وفي تأطيره نشاطه خارج مؤسسات الدولة اللبنانية ونظامها السياسي التمثيلي الجامد والمغلق والمفتقر إلى الحيوية والتطور؟
ألم يكن في وسع ذلك الجيل أن يجد لنشاطه التمردي وللبنانيته الضعيفة المثلومة، وسائل وسبلاً ومسارات وأطراً "مدنية" غير عنيفة ولا مسلحة، تنأى عن التمرد الفلسطيني العروبي المسلح، فلا تستجيبه وتلتحق به وتنخرط فيه، فيستهدف (الجيل) في نشاطه العمل على "إصلاح" مؤسسات الدولة اللبنانية وتوسيع أطرها وتطويرها، لتتمكن من استيعابه، ويتمكن من الاندراج فيها؟ وذلك بدل أن يكون (الجيل نفسه) جسراً ومطيّة للسلاح الفلسطيني في تدميره الدولة والمجتمع اللبنانيين، وبدل أن يتوهم ذلك الجيل أنه يستعمل السلاح الفلسطيني مطيّة "نضالية" لتحقيق أهدافه اللبنانية الموهومة؟
في المقابل، هل كان قدراً محتوماً أن يأتي ردّ فعل جيل فتيّ وشاب في البيئات الأهلية المقابلة، غير المثلومة اللبنانية (مسيحية في الغالب، ومنضوية عضوياً في الدولة اللبنانية ونظامها السياسي)، على تمرد جيل حرب السنتين العروبي واليساري (المسلم غالباً)، رداً عنيفاً ومسلحاً وشبه ثأري، في مقابل ضغينة الجيل الآخر على لبنان ودولته؟
ألم يكن في وسع ذلك الجيل اللبناني (المسيحي غالباً) أن يبتكر رداً آخر، غير عنيف ولا مسلح، أي "مدني" على تمرد الجيل المقابل؟


"تمرُّد" سلمي مجهض
أسئلة استعادية واستدراكية من هذا النوع، تحتاج الى أمثلة واستحضار تجارب محدّدة، ولو جزئية، للعثور على احتمالات أجوبة تمثّل عليها نشاطات جماعات وفئات من كل من الجيلين المتقابلين.
في هذا السياق تحضر تجربة في البيئة المسيحية، "حركة الوعي - جبهة الشباب اللبناني" وشبانها الناشطون في أطر الحياة الطالبية والشبابية، الجامعية خصوصاً، وفي كليات الجامعة اللبنانية تحديداً، كما في الجامعة اليسوعية، في نهاية ستينات القرن العشرين والنصف الأول من سبعيناته. فطلاب تلك الحركة وشبّانها، كانوا في وجه من وجوه حركتهم ونشاطهم "متمردين" على بيئاتهم المسيحية الأهلية التقليدية، بعدما أبعدهم منها كلٌّ من التعليم، والمدينة بدرجة أضعف وأقل. فإلى صدورهم عن بيئات وفئات اجتماعية عاميّة مسيحية، ومتوسطة في ما ندر، اختاروا لنشاطهم "الاحتجاجي" على بيئاتهم التقليدية وعلى جمود النظام السياسي اللبناني ومؤسسات الدولة، أطراً ومسارات "مدنية" وسلمية وغير عنيفة. الأرجح أن ذاك الخيار كان بديهياً، لأن نشاط تلك الحركة الطالبية والشبابية لم يكن في طبيعته يستهدف الخروج على الدولة، بل إصلاحها، وجعل نظامها أكثر عدالة وتطوراً.
الباعث "العامّي" المسيحي في نشاط "حركة الوعي" حفّزه التعليم الجامعي في المدينة على الخروج السلمي من أطر العصبيات الأهلية العشائرية والعائلية ومنازعاتها الدامية في بعض البلدات والقرى والمناطق اللبنانية المسيحية، ولا سيما زغرتا وبشري.
هذه الميزات كلها حملت ناشطي الحركة الشبّان على اتخاذ موقع ثالث، في الحياة الطالبية الجامعية، مخترقاً التقسيم الجامد بين اليمين واليسار، مضمونه الغالب مطلبي ويستهدف إصلاح مؤسسات التعليم، لكنه ذو بعد وطني شامل. الموقع ذاك توسط المسافة بين متمردي جيل حرب السنتين اليساري والعروبي الأهواء، والجيل المقابل اللبناني المسيحي "اليميني" الذي اعتمد في ردّه على انتشار السلاح الفلسطيني ومستتبعاته اللبنانية اليسارية والعروبية، نهجاً عنيفاً ومسلحاً، دفاعاً عن الفكرة والنظام اللبنانيين، وكان "شوفينياً" على الرغم من دفاعيته. هذا ما أدى إلى ظهور عدوّين أخذا يتكافآن في عنفهما وصولاً إلى خنادق الحرب.
لكن ذلك الموقع الوسطي السلمي و"المدني" لـ"حركة الوعي"، سرعان ما أخذ يحاصره العدوّان المتكافئان في مجابهاتهما الحامية. وفي خضم ذلك الحصار أعلنت "حركة الوعي" توقف نشاطها رسمياً بعدما اشتدت المجابهات في عشيات الحرب، وصولاً إلى بداياتها التي أدت إلى تفكك الحركة الوسطية واختناقها، واختفائها الكلي.


استحالة كبح الحرب
في المقابل، يصعب أن نلمح مثيلاً منظوراً لـ"حركة الوعي" على أطراف الحركة اليسارية والعروبية وحواشيها، في سيرها الحثيث نحو اعتمادها العنف والسلاح سبيلاً متمادياً في نشاطها وتمردها، وصولاً إلى الحرب على قاعدة النضال الفلسطيني المسلح.
فهنالك شلل ومجموعات طالبية يسارية سبقت خنادق الحرب ومتاريسها في التقنُّع بالعمل الطالبي المطلبي، لإخفاء انضوائها في العمل الفلسطيني المسلح. من هذه المجموعات ما سُمّي في مطلع السبعينات "أنصار الثورة" الذين كانت أجهزة "فتح" تدير نشاطهم الطالبي في الثانويات، قبل أن تنشئ منهم في عشيات الحرب "السريّة الطلابية"، ثم "الكتيبة الطلاّبية" التابعتين لـ"فتح"، وضمّتا في صفوفهما شباباً مسلمين ومسيحيين من اليسار الجديد الماوي المذهب. وقد شكّل هؤلاء جسراً متيناً للحرب وتوغلها في ثنايا المجتمع اللبناني.
الحق أن جيل حرب السنتين في الحركة العروبية واليسارية الطالبية، الجامعية وفي الأحياء السكنية المدينية وفي الضواحي (الإسلامية غالباً)، عاش مخاضات شديدة التعقيد في أهوائه الإيديولوجية الفانتاسمية أو الهوامية المتناسلة انشقاقات وتشققات داخلية، متصلة اتصالاً وثيقاً بالمنظمات الفلسطينية وبما سُمّي "الشارع الوطني" العروبي واليساري. وهو اتصال كثير الأوجه يتعلق بسياسات مصر الناصرية وسوريا والعراق البعثين الأسدي والصدامي، وبأجهزة هذه الدول الإيديولوجية والمخابراتية الناشطة في الحركتين، الفلسطينية والعروبية في لبنان، وصولاً الى حروبه الملبننة. في خضم تلك المعمعة من الأهواء والتشققات والأجهزة الرمادية المتناسلة وسط جيل حرب السنتين العروبي واليساري، كان من الصعب ظهور تيار ما، على غرار "حركة الوعي"، يتخذ من النشاط "المدني" السلمي وجهة عمل يمكن أن تكبح سير ذلك الجيل الحثيث نحو حرب لم يكن منتبهاً أصلاً إلى أنها ترتسم في أفق دعواته ونشاطه. حتى أن مجموعات وأفراداً من ذلك الجيل، بادروا في بدايات حرب السنتين الى تدارك تورطهم فيها، فأخذوا يخرجون من معمعتها وأتونها، بعدما كانوا استسهلوا الانتقال من التظاهرات الطالبية وسكراتها إلى معسكرات التدرب على السلاح وإلى المتاريس، انتقالاً متدرجاً صوّر لهم أن البندقية والمتراس امتداد للتظاهرة. فأحد "نجوم" كلية التربية في الجامعة اللبنانية وكوكبة شعرائها الشبّان آنذاك، محمد العبدالله، قال ساخراً إن الحرب التي كانت معتبرة "وطنية" و"طبقية"، سرعان ما تكشّفت عن حرب أهلية، ما إن أطلَّ من الشرفة ونظر إلى الشارع، فكتب لاحقاً: كل شيء أفضل من الحرب.


حطام المجتمع المدني
أما في سنوات الحرب الطويلة وحقبها ومنعطفاتها ومحطاتها - من حرب السنتين (1975 - 1976)، إلى مشاركة القوات السورية مباشرة في ما سُمِّي "حرب المئة يوم" في الأشرفية و"معركة زحلة" إبان صعود نجم قائد "القوات اللبنانية" المسيحية بشير الجميل (1977 - 1982)، فتلت تلك الحقبة، غداة الاجتياح الإسرائيلي لبنان (1982)، حروب أشرس من السابقة في الجبل وطرابلس وبيروت وفي المخيمات الفلسطينية وبين منظمتي الطائفة الشيعية العسكريتين (1983 - 1988)، وصولاً الى "حرب التحرير" و"حرب الإلغاء" العونيتين ضد القوات السورية و"القوات اللبنانية" ما بين 1989 و1990 – أما في هذه الحقب، فقد أخذت الطوائف اللبنانية تنشئ منظماتها وجيوشها الحربية على أنقاض القوات الفلسطينية التي رُحِّلت من لبنان الجنوبي وبيروت وعسكرت في البقاع والشمال، وعلى أنقاض قوات "الحركة الوطنية" اليسارية.
وإذا كان جيل حرب السنتين اليساري والعروبي والفلسطيني الأمرة والهوى، قد شكّل خميرة ووقوداً لبدايات الحرب، بعد انعطافه من النشاط في الأطر الطالبية إلى العمل المسلح "الشعبي" في الأحياء والمناطق السكنية، وعلى جبهات الحرب، فإن ذلك الجيل، خبا افتتانه بالسلاح، وسلك طريق التذرر ومغادرة متاريس الحرب وهاجر قسم كبير منه إلى خارج لبنان، تاركاً الجبهات لمقاتلين من جيل جديد أكثر تمرساً واحترافاً حربيين، وأقلّ تعليماً وتطلباً إيديولوجياً وثقافياً، وأشرس طباعاً، ومتفرغاً للأعمال الحربية في جيوش الطوائف.
طوال هذه الحقب الحربية، جرت عسكرة المجتمع وجماعاته، فتحول مجتمعات حربية التهمت المجتمع المدني وسيطرت عليه سيطرة شبه تامة، أو همّشته وحطّمته، وجعلته مكتوماً ومرهقاً ومنكفئاً ومقطّع الأوصال خلف خطوط التماس، ليعيش حياة شبه بيولوجية مضطربة، غارقاً في مآسيه اليومية ومنشغلاً في تدبير حاجاته الضرورية. أما الهجرات الخارجية فقد التهمت فئات واسعة من الطبقات كافة. هذا فيما تحولت مجتمعات التهجير الحربي الداخلي مادة ووقوداً لاستمرار الحرب وتغذيتها بالمقاتلين والقتلى "الشهداء" الذين غصّت بهم المقابر المتوسعة. فهل يمكن في هذه الحال الكلام عن مجتمع مدني وعن نشاط لمجتمع مدني مناهض للحرب؟ قد يمكن ذلك، لكن على نحوٍ سلبي تماماً، مداره الامتناع عن المشاركة في الأعمال الحربية، والمحافظة على الحياة والقيام بتدبير حاجاتها وشؤونها في شبه "نضال" يومي كئيب يبعث على اليأس قدر ما يبعث على العبث والعيش لحظةً بلحظة ويوماً بيوم، وسط الحصار والخوف اليومي.
لكن هذا المجتمع المدني اللبناني المكتوم والمختنق والمرهق والمحاصر، لم يعدم طوال حقب الحرب الطويلة ومنعطفاتها، بعضاً من الأنشطة السلمية والمدنية المتفرّقة والضعيفة في احتجاجها على الأعمال الحربية والحواجز وميليشياتها وعلى المعابر بين المناطق. على الرغم من قلة هذه النشاطات وضعفها، وقيام الميليشيات بخنقها وإنزال القصاص والتنكيل والترويع والخطف وأحياناً القتل ببعض المتجرئين عليها، وعلى رفع أصواتهم ضد أمراء الحرب والمحاربين، فإنها اليوم في حاجة إلى المراجعة والتوثيق والإحصاء.


مقاومة الإحتلال سلمياً
انتهت الحروب الملبننة باتفاق الطائف واحتلال الجيش السوري الأسدي لبنان كله، وتدمير دولته وشعور المسيحيين اللبنانيين بهزيمة ماحقة، وسكوت المسلمين عن ذلك الاحتلال وإعلان معظم سياسييهم تأييده، أقلّه تأييداً لفظياً. وبينما جرى تجريد الميليشيات المسيحية من سلاحها ومطاردة كوادرها وسجن قائدها، وتحطيم الجيش اللبناني الموالي للجنرال ميشال عون وإعادة تركيب المؤسسة العسكرية على قاعدة الولاء للمخابرات السورية ومطاردة ناشطي الحركة العونية، وتشكيل طبقة سياسية لبنانية جديدة موالية لسوريا الأسد، جرى في المقابل التشريع دستورياً وسياسياً للميليشيا الشيعية المزدوجة، "حزب الله" و"أمل"، وإطلاق نشاطها الأمني والعسكري تحت اسم "مقاومة" الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان.
هكذا طُويت صفحة الحرب وصدر عفو عام عن أمرائها ومقاتليها وجرائمها، وجرى ضمناً تحميل تبعاتها السياسية للطرف المهزوم فيها، أي للمسيحيين الصامتين عن الاحتلال السوري صمتاً خائفاً. لكن ذلك الصمت لم يستمر طويلاً. فقد أطلق ناشطو الحركة العونية و"القوات اللبنانية" المجرّدة من السلاح، مقاومة سلمية لذلك الاحتلال، على الرغم من مطارداته الأمنية لأولئك الناشطين وترويعهم. وفي نواتها ومتنها الأساسي كانت تلك المقاومة السلمية، الشبابية والطالبية في جامعة القديس يوسف وفي فروع الجامعة اللبنانية في المناطق المسيحية. استمرت تلك الحركة في احتجاجاتها المدنية طوال عقد التسعينات من القرن العشرين، قبل أن تقوى ويتصلب عودها في مطلع الألفية الثالثة، مع انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان، ونشوء "تجمع قرنة شهوان" السياسي المناوئ للإحتلال السوري، وإذاعة الهيئات الدينية الكنسية المسيحية نداءها الداعي إلى تحرير لبنان من ذلك الاحتلال. وشمل التململ والاحتجاج أيضاً أوساطاً شبابية وطالبية مسلمة ضيقة، في طليعتها "اليسار الديموقراطي" الذي أقام جسراً بين الحركة الاحتجاجية المسيحية العميقة وسواها المستجدة بين فئات طالبية في الشارع الإسلامي. هذا قبل أن ترتسم الملامح السياسية الأولى للحركة الاستقلالية اللبنانية السلمية والمدنية المطالبة بالحرية والسيادة وجلاء الجيش السوري عن لبنان، عشية إصرار نظام بشار الأسد على التجديد للرئيس إميل لحود، وميل الزعامة السياسية لكل من وليد جنبلاط ورفيق الحريري إلى تأييد تلك الحركة وملاقاتها في منتصف الطريق. فأدى ذلك إلى إشهار الاغتيال سلاحاً ضد أقطاب الحركة الاستقلالية التي انفجرت وعمّت معظم المناطق اللبنانية غداة اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005.
كان وجه من وجوه تلك الحركة السلمية والمدنية العارمة في 14 آذار 2005، ينطوي على رسم أفق جديد للبنان المتحرر من الاحتلال السوري وتهديده اللبنانيين الدائم بالحرب الأهلية كلما أشار أحد منهم إلى ذلك الاحتلال. لكن "حزب الله" و"حركة أمل" وسواهما من زبانية النظام الأسدي والإيراني، سارعوا إلى تحطيم ذلك الأفق الواعد بتجديد التهديد بالحرب الأهلية وممارستها بجرعات يومية مدروسة في الشوارع والأحياء، وفي الحياة السياسية الجديدة الهشّة للحركة الاستقلالية التي حصدت الاغتيالات المتلاحقة بعضاً من أبرز وجوهها. واكتمل ذلك التحطيم بإلحاق العماد ميشال عون تياره المسيحي الواسع بما يُسمّى "تيار الممانعة" الأسدي – الإيراني الذي حوّل سوريا الثائرة ثورة سلمية مدنية جَسورة، جحيماً لا مثيل لها منذ الحرب العالمية الثانية.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم