الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

سينما - عقْد على رحيل أحمد زكي: القلِق الذي لم يَعِشْ الاّ على الشاشة

سينما - عقْد على رحيل أحمد زكي: القلِق الذي لم يَعِشْ الاّ على الشاشة
سينما - عقْد على رحيل أحمد زكي: القلِق الذي لم يَعِشْ الاّ على الشاشة
A+ A-

لا يزال حضور أحمد زكي (1949 - 2005)، بعد عشر سنين على رحيله، قوياً جداً في ذاكرة العرب لأسباب مختلفة، أهمها أن ما من ممثل عربي تجاوز موهبته من قريب او بعيد. وجهه الأيقوني الأسمر الذي يطل علينا من عمق السينما المصرية، هزم الى حد كبير غيابه، وهو وجه يبدو الينا قريباً وبعيداً في آن واحد.


كان زكي كتلة من الموهبة والطموح وعدم الرضى والألم الوجودي المتغلغل في مسامات جلده. هذا كله ازداد عنده وبلغ الذروة في سنواته الأخيرة من حياته. طفولته في الزقازيق شمال مصر لم تكن سهلة، إذ عرف محنة العيش بلا أب، في عزلة تامة بعيدة عن حنان الام. حمل ندوب هذا العيش المضطرب فتحولت ألقاً وعبقرية وبحثاً أبدياً عن الكمال قبل أن يخطفه سرطان الرئة عن 56 عاماً (ونحو 56 فيلما!) وهو في عز عطائه.
منذ اطلالاته الاولى كان زكي من طينة الكبار، مهووساً بالكمال الى حد المرض، يمثّل برئتيه وأعصابه وشرايين قلبه، فينتج من ذلك أداء مكهرب مركب مشحون بهذا الغليان الذي اشتهر به الممثل وهتفت اليه قلوب الملايين في أنحاء العالم العربي. بيد انه كان يعمل على أدواره بحب واخلاص من دون أن يشعر بأن ما يفعله وظيفة بل هواية يمارسها باتقان وشغف. تهيأ لكل دور بالبحث والتنقيب ومراقبة السلوك البشري واطعام الفنّ بالواقع. بهذا المعنى كان ممثلاً ستانيسلافسكياً ومن اتباع مدرسة التمثيل المنهجي الاعظم الـ"أكتورز ستوديو".
في حديث مع جورج كعدي في "النهار" قبل رحيله بأربعة اعوام، فتح قلبه وقال: "ثمة ادوار تحتاج الى ان تتعرّف اليها، تقرأ عنها، تتأملها، تراها. والحياة مليئة بالشخصيات، بالأمزجة المختلفة، بالوظائف والاحلام والاحباطات والانكسارات والطموحات، وكلّ يتعامل مع هذه الامور على نحو مختلف. داخل الفنان قدرة على التقاط الاشياء، من غير ان يعي ذلك. يرى في نفسه مخزوناً من المشاهدات. أول امرئ يصطدم به هو نفسه. الممثل كائن متحرك، تجيش في صدره امور وتنتابه امور. يتفرّج على نفسه في المقام الاول. يتفرّج على كذبه قبل صدقه، على ضعفه قبل قوّته، وعلى إحباطاته وسعاداته، على الانسان فيه. لا يرى الانسان الا جانباً واحداً في شخصيته. على العكس، لو نظر الى مشاعره المتناقضة فقد يمنعه ذلك عن الكذب. لا ينظر البشر سوى الى الجانب الايجابي في شخصياتهم. اما الضعف والكذب والرغبات فانه لا يسائل نفسه حولها ولا يحاورها كي يشرع في التعامل مع ضعفه او كذبه. لو انطلق في التعامل الصادق مع نفسه لأبصر أموراً في الآخرين من الأبسط الى الاعمق، ولألفى نفسه يلتقط اصغر التفاصيل".
كان زكي يقدم اداء داخلياً متيناً محملاً أبعاداً بسيكولوية يذوب فيه بشكل كامل. ادرك منذ البدء انه ينبغي ارجاع الشخصية الى المكوّنات التي شكلتها، والظروف الاجتماعية التي افضت بها الى ما هي عليه. اهميته في انه أجاد اقتناص الأدوار التي تضع موهبته تحت الضوء، من دون أن يسقط في فخ النمطية. اضطلع بمختلف الشخصيات التي يعج بها المجتمع المصري، من المحامي الى الميكانيكي فمزيّن الشعر، قبل ان يتجاوز نفسه ويتحداها من خلال تجسيده الرئيسين المصريين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات في فيلمين منفصلين، وهما شخصيتان قدمهما كل مرة بأمانة عالية واطلاع واسع على تفاصيل الشخصية المجسدة. عرف كذلك كيف يتعاون مع أفضل المخرجين في السينما المصرية طوال عقدين، وهؤلاء عرفوا كيف يوظفون طاقاته: يوسف شاهين، صلاح ابو سيف، رأفت الميهي، شريف عرفة، محمد خان، عاطف الطيب، داود عبد السيد، علي بدرخان...
عاش في القلق ونبذ النجومية العابرة والمجد الباطل منسحباً الى عزلته ووحدته ولائذاً بالسينما ليداوي بها علاقته المكلومة بالعالم. لم يعش إلا على الشاشة، ينزل الى الشارع ليتفرّج على نفسه والآخرين، ذلك انه كان يعتبر نفسه مواطناً مصرياً عربياً ينعكس عليه ما ينعكس على مواطن الشارع العادي من سلبيات وايجابيات وانكسارات. للأسف، لم يمهله المصير لاتمام احلامه كلها، جسد عبد الحليم حافظ، دوره الأخير، وهو على فراش الموت. ظل معطاء حتى اللحظة الأخيرة، لا تقود خطاه الا غريزة الحياة والخلق. كان يعتبر ان ما يطلع من القلب يصل الى القلب. لربما نسي ان يذكر ان ما يطلع من القلب يصل الى القلب ويقيم فيه اطول فترة ممكنة.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم