الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

نص - رحلة الشاطر كلكامش الى دار السلام

علي السباعي
نص - رحلة الشاطر كلكامش الى دار السلام
نص - رحلة الشاطر كلكامش الى دار السلام
A+ A-

- كلكامش لا تعرض. انكَ لمن الخاسرين، واقصص ما جرى لكَ في دار السلام على الناس، لكل الناس.
- أنا الشاطر كلكامش، إني لمن الخاسرين سأقصّ عليكم ما رأيتهُ وما شعرتُ به تماماً كما رأيتُه وشعرتُ به. لقد حدث بالطريقة التي أقصّها عليكم:
لقد كنتُ من الخائبين. كنتُ خائباً في كل شيء. أنا خائبٌ حتى في ألعاب البنات، اذ كانت بنات محلّتنا يتفوّقن عليَّ في كل ألعابهنّ. آه كم كنت خائباً، وإلى الان لا أزال خائباً. خائبٌ أنا في كل شيء. وكما تعلمون، الناس لا تريد العصفور الذي يزقزق بل تريد الأسد الذي يزأر. أنفقتُ وقتي كلّه عصفوراً لا يزقزق. كثيراً ما حاولتُ في حياتي بلوغ النجاح، النجاح في اقتناص فرصة لتغيير نمط عيشتي، لكني فشلتُ في إدراك الطريقة الوحيدة التي توصلني الى ذلك، ألا وهي الخروج من طوق الدعة والراحة. اتبعتُ حكمة ابناء قريتي، "الطائر الذي يلوذ بعشه لا خطر عليه من الصياد"، وللمرة الأولى خالفتُ حكمتي وقصدتُ مدينة السلام. واعلموا، أنا بطبيعتي حمار، حمار لأنني أتعثر بالأشياء ذاتها مرتين، ولقد أنفقتُ جلّ وقتي في رد الفعل، ولم أكن البتّة فعلاً.
نحن في نهاية عام القرد، وسندخل في سنة الأرملة، وقلما تتشكل النجوم في برجي، برج الجوزاء، على نحوٍ إيجابي، كما هي عليه حالياً. فالمريخ والمشتري يتّحدان ليبعثا في نفسي الشجاعة، أنا الشاطر كلكامش. كانت غلطتي بألف. حاولتُ أن أحيط نفسي بالمجد، مثل إيروسترات، اذ دمّر إحدى عجائب الدنيا السبع بإحراقه معبد دلفي في أثينا كي يخلد اسمه!
كانت لوعتي على نفسي مثل لوعة الشموع وهي تنير الزوراء. أول ما يفعله المرء في بغداد شراء الكتب. اشتريتُ كتباً كثيرة بعد تجوالي الطويل في مكتباتها، ورزمتُها في كيس بلاستيكي أصفر. صارت الرزمة أشبه بصندوق، والصندوق داخل كيس بلاستيكي. كنت أنوء بحمل كتبي الثقيلة فرحاً، أحملها مسروراً. بعدها حاولتُ الاستمتاع في هذا الجو المنعش بمنظر "نصب الحرية"، وبعدها عرّجتُ على حديقة الملك غازي سابقاً، وحالياً "حديقة الأمة" بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام ثمانية وخمسين وتسع مئة بعد الالف، لأشاهد تحفة خالد الرحال، تمثال الأم، وبعدها تطلعتُ الى رائعة فائق حسن، محاولة مني لتذكر أيام دراستي في معهد الفنون الجميلة، وأنا في طريقي إلى مرأب النهضة استعداداً لمغادرة بغداد. كان الجو ينبئ بالمطر. كنت أحبّ المطر، فرائحة المطر تذكّرني برائحة من أحبّ، زليخة. كان شتاءً ممطراً خصباً وكان نهاري نهاراً وردياً جديداً، نهضت دار السلام على مثله من قبل. هكذا بدأ الأمر في مدينة السلام. لم يكن يوماً ربيعياً استثنائياً بل كان يوماً شتائياً. لم يكن خياري استمرار الرقابة، رقابتي في يومي، هذا أمرٌ محتوم. الا أنني كسرته بالسير والتطلع الى "نصب الحرية" وجدارية فائق حسن. كان نهاري ممتعاً جداً في بغداد. جاء في كتاب "بغداد مدينة السلام"، لابن الفقيه الهمداني، أن المفكر والفيلسوف أحمد بن الطيب السرخسي، أحد تلامذة الكندي، ذكر في كتاب له بغداد: "إنها مدينة العلم، شريفة المكان، كثيرة الأهل، واسعة الشكل، بعيدة القطر، جليلة الولاية، نبيهة السلطان، ينبوع الأدب ومنبت الحكم، أهلها برد الآفاق وخطباء البلاد، ما فعل فيها من خير فمشهود وما أعلن فيها من شرً فمستور، منها الفقهاء والقضاة والأمراء والولاة، اعتاد الخلافة ودار أهل الدعوة، وان لها جنساً من السعادة، ولأهلها نوع من الرياسة، وذلك أنه قلما اجتمع اثنان متشاكلان، وكان أحدهما بغدادياً، الا كان هو المتقدم في لطف الفطنة، وحسن الحيلة، لين المعاملة، جميل المعشر، حلو اللفظ، فليح الحركات، وطريف الشمائل".
بدأت الشمس. شمس الزرواء اليوم علية ومتعبة. كان الجو فيها يتراوح من خفيف ذي لون أصفر مشرق الى خفيف ذي لون أسود غامق. السماء مرشوشة بغيوم بنية بلون الطين، غيوم رصاصية، وغيوم حمر. تلك كانت سماء بغداد إذ احتشدت فيها الغيوم مؤثثةً بحشود المطر. ستمطر مطراً مترعاً بشقائق النعمان. تلك هي سماء دار السلام، بينما أسير فيها مثل سير عقرب الساعة في ساحة التحرير، أمام "نصب الحرية" وقفتُ أتطلع خاشعاً ومبهوراً كمَن يشاهد النصب للمرة الأولى في حياته. موجودات النصب كانت بلون سحنتنا، سمرتنا بلون طيننا. من قبل كنت أتصوّر أن اللون يتحلل بالموشور. ولأنها مشغولات جواد سليم ومفردات جداريته، علمتُ أن اللون يتأتى وينبثق من الطين، ذلك الخلق الهائل حيث خلق منه الانسان: "إنّا خلقناه من طين لازب". فتذكرت اليوم الذي مات فيه أستاذي جواد سليم وأنا بعد طالب في معهد الفنون الجميلة. كان الجو فيها مثل هذا الجو الآن، أصفر معتم الى خفيف ذي لون بني لذيذ. كان يتقدم المشيعين الشاعر الكبير خالد الرحال يبكي. وبقوة سار المشيّعون من منزل المرحوم في الوزيرية مروراً بالكسرة، ومن أمام معهدنا قلت مخاطباً "نصب الحرية"، وأعني جواد سليم:
- اذا عدت إلى الحياة الآن فماذا ستبدع؟
تذكرت ما قرأته ذات يوم، يوم زار ضابط الماني الفنان بيكاسو ايام الحرب العالمية الثانية في منزله، وكانت المانيا تحتل فرنسا. نظر الضابط الالماني إلى لوحة الــ"غيرنيكا" فأعجب بها أيما إعجاب، فقال لبابلو بيكاسو:
- أحسنتَ صنع الــ"غيرنيكا" يا سيد بيكاسو.
أجابه بيكاسو بذكاء:
- لم أصنعها يا سيدي الضابط بل أنتم الذين صنعتموها.
كنت منذهلاً. ماذا لو استفاق جواد سليم من رقدته الأبدية؟ ماذا كان ليبدع في حياتنا الآن؟ شاهدتُ سيارة "هامفي" فوقها جندي أميركي صوّب فوهة قنّاصته إلى صدري فوق القلب، فاكتشفتُ أنني أكبر مغفل على وجه الأرض، أعيش كالنعامة. مثل النعامة كنت نعامة تدفن رأسها الصغير في الرمال، فتظن إنها في منأى من الخطر، خطر الآخرين، والآخرون هم الخطر. اذا بي مكشوف أمام أذى الآخرين، والآخرون هم الأذى، والخطر يدهمني من كل مكان، يحيط بي ويترصدني. كنت نعامة تدفن رأسها الصغير، توهم نفسها بأني في مأمن. قلبي يؤلمني. يؤلمني حين أرى أمامي الجندي الأميركي من الفرقة الرابعة - مدرعات، يقف هو الآخر أمام "نصب الحرية" في دار السلام، مصوّباً فوّهة قنّاصته ذات الشعاع الليزري الأحمر فوق قلبي. إنه قدرنا أن نعيش حروباً لا نهاية لها. استدرتُ فأعطيتُ ظهري للجندي الأميركي على طريقة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال، رمال السلام، فتذكرتُ مقطعاً شعرياً لشاعر سومري اسمه دنجي رامو، رحتُ أردّده وأنا أتفحص تفاصيل "نصب الحرية"، حتى كأن ما قاله قبل خمسة آلاف سنة هو نفسه ما يقوله شعراء العراق اليوم. فأيّ دوّامة لعينة لم يبرأ منها هذا الوطن:
وا حسرتاه على ما اصاب لكش/ وكنوزها/ ما أشد ما يعاني الأطفال من البؤس/ اي مدينتي/ متى تستبدلين الوحشة بالفرح؟
أمس، واليوم، أطل الصباح البنفسجي نفسه. بنفسجي خالص مطلي بلون الزعفران. هدوء غريب يسود ساحة التحرير. ما زلتُ أعطي ظهري للجندي الأميركي. ارتفعت نبضات قلبي، أحس به كأنه يكاد يتوقف. إنه قد توقف. أجل! يكاد أن يتوقف. أبصرتُ لون السماء: كان بنفسجياً خالصاً، وتارة ليلكياً أو زعفرانياً مفرطاً في الجاذبية، وكان الفضاء أيضاً بنفسجياً مائلاً الى الليلكي الجميل، يزداد انفراجاً حتى يتسع فينداح، ينداح فيتسع، ثم يتسع حتى يحلّ أول الضحى. كان نهاراً زعفرانياً بأناقة باردة، وتحدٍّ بارد. عقرب ساعتي يهرول مسرعاً ناحية الضحى، ضحى هذا اليوم، ببريق قصف الرعد الجاف، فشعرتُ أنني أزداد توتراً. بدأت يداي بالارتجاف لزمن قصير. توقفتُ ثم واصلتُ سيري ناحية "حديقة الأمة" حالياً، وحديقة الملك غازي سابقاً، تلك الحديقة التي تغيّر اسمها مرتين، مرة منذ ثورة الرابع عشر من شهر تموز سنة ثمان وخمسين وتسع مئة بعد الألف، وتغيرت معالمها بعد الخراب والتدمير عقب حوادث عام الفين وثلاثة. ضوء الشمس لا يزال بنفسجياً ساطعاً من خلف غيوم زعفرانية. قلت بما يشبه الاحتجاج:
- كيف هي الحياة، يا أيها الشاطر كلكامش؟
ازداد الاشتعال حتى صار بارقاً غزيراً كثير البرق، والسماء التي شطرها نصفين مكفهرة مبللة، منفرة وثقيلة، ذات لون أزرق رمادي كلون حمامة أورفلية.
اصطبغت الأشياء كلها بلون الزعفران. معالم "حديقة الأمة" ونافورة البط والناس وتمثال الأم والشجر والموجودات، تلوّنت رؤوسها بالأزرق الممزوج بالوردي المائل الى الليلكي. رحت أصغي الى ضربات الخوف التي اخذت تحتلني ولا يزال الخوف يسكنني. علمتُ لحظتها أن الموت بشكل عام يجعلها أكثر يقظة لنبض الحياة، وأنا رجل يعيش على معتقدات قلبه وقناعاته تحت شمس ضحى الجمعة، غرة ضحى الجمعة. كانت ساحة الطيران، ضاجة مثلنا كالحة، والناس في الساحة يحثّون الخطى مقتربين بعضهم من بعض ومبتعدين بعضهم عن بعض.
ما أروعك يا دار السلام! وصلتُ إلى مكان اصطفاف سيارات النهضة. لا أحد في سيارة الكيا الا السائق خارجها ينادي: نهضة... نهضة. صعدتُ السيارة، بيدي كنزي الثمين: كتبي. داعبت مسامعي أنشودة إلهام المدفعي الجميلة جداً والمحببة الى قلبي: موطني... موطني... موطني. وضعتُ كيس كتبي الأصفر على المقعد الذي خلف السائق مباشرةً في انتظار مجيء الآخرين القاصدين مرأب النهضة. في مثل هذا الوقت، وقبل خروج الموظفين من أماكن عملهم، يكون عدد الركاب قليلاً، كون أغلب عامة الناس من الكسبة في أعمالهم، والأغلب الأعم من الناس يتبضعون في مثل هذا الوقت. رحت أنتظر. طال انتظاري، فترجلتُ من سيارة الكيا. واجهتني مهيبة شامخة رائعة للفنان الكبير المرحوم فائق حسن. رحت اتأملها. العمال الذاهبون إلى العمل والفلاحون الذاهبون إلى الحقل. القفص مفتوح والطيور المتحررة بيد زليخة. آهٍ يا زليخة! يا للأسى! في تلك البارحة القديمة قادتني الحرب من ياقتي، ياقة قميصي المدني، بعيداً عن زليخة، زليخة التي أحب. كنت غض العود شاباً. ارتديتُ الكاكي وهناك، هناك فقط في الحرب، في جبهة القتال أثناء المنازلة واشتداد القصف، تعود أحزاني الى الناصرية، وملامحي السومرية التي تتجعد كالحمامة الأورفلية تعود الى زليخة، لأن زليخة التي أعشق كانت في داخلي حية، تنبض حلوة سمراء كنخلة عراقية لها عينان سوداوان واسعتان، مثل شبعاد، شابة أبداً تعزف على قيثارة قلبي. كانت زليخة شبعاد شابة أبداً مثل حياتي التي سرقتها الحروب.
وصلتُ أمام جدارية أستاذي فائق حسن. انحنيتُ بكل قامتي لها. انحنيتُ فتذكرتُ ذات يوم حينما كنت في النمسا وأنا أتجول في أحد شوارع فيينا القديمة. كان الجو بنياً مشوباً بالصفرة. مر موكب أمبراطور النمسا فتوقف كل مَن في الشارع. جاء وقوفي لتحية الأمبراطور قرب بيتهوفن. كان بيتهوفن واقفاً على الرصيف وأنا بجانبه، ألحظه بطرف عينَيَّ السومريتين مسروراً. مرّ موكب الأمبراطور من أمامنا. رفع الناس قبعاتهم احتراماً للأمبراطور كما هي عادتهم للتعبير عن احترامهم للشخصيات السياسية والاجتماعية الكبيرة. مثلهم أنا فعلت. رفعتُ قبعتي. أنا عربي. لكن بيتهوفن لم يرفع قبعته وبقي متوتراً عند مرور موكب الأمبراطور. التفت رجل واقف الى جانبه، وقال لبيتهوفن:
- يا سيد بتهوفن، لماذا لا ترفع قبعتك احتراماً للأمبراطور؟ اجابه بيتهوفن باعتزاز:
- اسمع يا هذا، اذا مات الأمبراطور فهناك ألف رجل يستطيع كل واحد منهم أن يكون أمبراطوراً. لكن اذا مات بيتهوفن فمَن يستطيع أن يخلفه من أبناء الجنس البشري في الموسيقى؟ تساءلتُ في نفسي مَن سيخلف جواد سليم، فائق حسن، خالد الرحال، ومحمد مهدي الجواهري، بدر شاكر السياب، محمود بريكان، بلند الحيدري، غائب طعمه فرمان، محمود جنداري، مهدي عيسى الصقر، وجليل القيسي في صورة الفنان الحقيقي؟ مَن؟ وقفتُ وجدارية فائق حسن مواجهَين للحياة، لاتجاه شروق الشمس، بعد شروقها، الشمس التي لمست بعد شروقها رأسينا، أعلى الجدارية، ورأسي، وانزلقت على جسدينا: جسد الجدارية، وجسدي، ثم ألقت علينا لمعانها البهيج مثل بساط لامع تحت أقدامنا. حقاً، كنت مبهوراً ومبتهجاً بتلك الرسوم ذات الألوان الجميلة التي أبدعتها أنامل فائق حسن. رغم الجو المنبئ بالمطر ارتجفتُ خشوعاً، انخلع قلبي من مكانه، نظرتُ وتلفتّ بشدة حولي، عاودتُ الالتفات بريبة وقلق كبيرين. كانت ساحة الطيران صامتة خالية الا من صوت إلهام المدفعي وأياي. وقف الناس بعيدين جداً قرب قواعد تماثيل الثورة. نظرتُ اليهم بقلق، وكان سائق سيارة الكيا التي حجزت فيها أكثرهم إصرارا وانفعالا على مناداتي. في البدء لم افهم الأمر جيداً، ولم أفسر حركاتهم ونداءاتهم التي تدعوني إلى القدوم ناحيتهم. فأنا حمار بطبيعتي. المهم، بدا الأمر طبيعيا بل أكثر من الطبيعي. طبيعي جداً. طبيعي كمعرفتي تفاصيل وجهي. لم يكن الأمر غريباً أن يناديني الآخرون، وليس في امكاني أن أخمّن سرّ اصرارهم على مناداتي. رأيتهم مصرّين على أن أكون بقربهم، أن أذهب حيث هم. حثثتُ الخطى نحوهم بعدما غادرت روحي بلادها. سألتهم بصوت تخالطه رعشة واضحة:
- ماذا هناك؟
صمت الناس، صمتاً مجبرين عليه. تغيّرت معه ألوانهم، ألوان وجوههم. كان خوفهم أسطورياً، بينما كان الناس يتصوّرون بلادتي مشاكسة صبيانية. قال سائق الكيا محتداً وبعصبية واضحة جداً، حدّ الصراخ عليَّ وعيناه جاحظتان في وجهي، ووجهه يستعير صفرة وجوه الناس الخائفين قربه، صرخ:
- هناك عبوة ناسفة في سيارتي!
قالها وقد بانت طبقة بيضاء في زاوية فمه وهو يشير بإصبعه الغليظة الطويلة الاظفار الى سيارته. الأطفال المشاكسون مرعوبون من حديث العبوة الناسفة، حديث الموت. كانت راحات أيدي المشاكسين الصغار تجفف خوفهم في عيونهم قبل خوفهم في وجوههم، غارقة في ما صنعت، فيما يجري وجدارية فائق حسن تنطلق منها طيور الحرية الى الخلف حيث تمثال الأم الى الوراء، حيث "نصب الحرية".
رأيت العبوة الناسفة في سيارتي موضوعة خلف مقعدي مباشرة. التفتُّ خلفي، ناحية سيارة الكيا، فوقعت عيناي على زليخة المرأة المياسة التي حررت الطيور من جدارية فائق حسن. تبتسم المياسة، تضحك ضحكاً مسموعاً تنشر موسيقاه في أذني. كنت أسمعها ابتسمت. تركتهم مغادراً تجمّعهم لأجلب كتبي، كنزي، وأنا أضحك بفرح طفولي مشاكس. شككت ان قطرات من المطر بدأت تتساقط. ابتعدتُ عن حشد الناس قليلاً، وقطرات المطر تقذفني. الحمائم البيض تحلّق عالياً، بعيداً، بعيداً جداً. عالم غريب قد دهمني. ابتعادي وضحكي زادا غضب الناس. امسكوني عنوةً، وبقوة، محاولين منعي من الذهاب، وكسر عزمي. الحمائم البيض والغيوم مع الحمائم ذات اللونين الازرق والرمادي، تضرب سماء بغداد. انكسرت نظراتي. سالت نظراتي من جدارية فائق حسن على الإسفلت المترب على ساحة الطيران، وتجمدت عند حذائي. تساقطت فجأة قطرات من المطر محدثةً صوتاً عالياً. كان الشتاء مدرار المطر. رفعتُ رأسي ولمحتُ تلك الاضاءة النادرة التي برقت على محيا الناس رغم الخوف. حدث استنفارٌ كامل، استنفرت عيونهم وجذور قلوبهم، وهناك في الشرق أمامي بدا شقّ ورديّ ضيق يقسم السماء نصفين وعلى جانبه كانت الغيوم الرمادية تمرح بجذل، فكان بالفعل شتاء كريماً ومدرار المطر، فقلت ببلادة:
- أتقصد الكيس الأصفر البلاستيك الكبير؟
أجاب بنفاد صبر: نعم.
قالها بشدة ونفاد صبر، فكررتُ عليه سؤالي ثانيةً، وبكل برود وبلادة غليظتين:
- أتعني الكيس البلاستيكي الأصفر الكبير الذي خلف مقعدك؟ رفع صوته، وعجب كبير يلتمع في عينيه اللوزتيين. لكن نبرة العجب واضحة في صوته يصرخ بعنف وهيجان: نعم. نعم.
سحبني من ذراعي اليسرى، فلم أعارضه. لم أسأله ثانية عسى أن يفصح عن غضبه وعلام هو غاضب. أمسك بخانقي وراح يخنقني، بقوة يخنقني. كانت أصابع يديه قوية غليظة متسخة، ويضغط بقوة، بقوة.
نظر السائق بعيني بحدة وقد تغيرت سحنة وجهي كثيراً. لم أفكر في سقوط المطر. سقط المطر فلم أكترث بسقوطه. لقد أفسدوا عليَّ استنشاق رائحة جسد زليخة حبيبتي مع رائحة المطر. شاهدت طيور فائق حسن السجينة وهي تغادر قفصها وتغنّي أغنية الحرية. طار قلبي هلعاً حين اقتربت منه. الجميع ينظرون اليه واليَّ مندهشين. كان يريد أن يميتني لبلادي، أن يهشم رأسي الغبي ليسفح دمي فوق ساحة الطيران، فوق بقايا قواعد المسروقة لقادة ثورة مايس، فوق جدران فائق حسن، فوق الناس، حتى تصبغ دار السلام كلها بدم الأحمر القاني. اللون الأحمر هو الملائم الآن. الموضة اليوم، لون الدم الأحمر. كل شيء يفضح دمنا الأحمر. تدخل الناس لتهدئته وناشدوه بأن يتركني لحال سبيلي قبل أن أموت بين يديه. شَخَصَ بصره نحو البعيد وهو يستغفر الله، فحمدتُ الله لتركه رقبتي. رحتُ أعبّ الهواء عبّاً. توقف أمامي مباشرة. لا يزال غضبه رطباً مبللاً بالمطر المدرار الذي انهمر علينا. دمعت عيناه باستنشاق الهواء ثانية، لم تدمع عينا السائق. ركز نظرة رجولية متحدية بعينيه الدامعتين، رأيت من بين دموعي شفتيه تتمتمان بحنق: مشاكس. فأجبته من خلال دموعي:
- المشاكسون هم المقدامون في الحرب.
الشمس تسحب خيوطها مع آخر حبات المطر، تتجمع في بقعة حمراء، تخلّف في رمادية السماء لوناً وردياً خفيفاً كأنها لون بني يذكّرني بلون الطين. توقف انهمار المطر تماماً. ابيضّت أعين الناس في ساحة الطيران لسماعهم ما قلت:
- إنه كيسي، وفيه كتبي التي اشتريتها...
في البداية كان الصمت. بعدها سرى النبأ في ساحة الطيران فحرّك سكونها وترقبها. تراكض الناس نحوي واستجابوا تلك الجلبة فشارك النبأ برفع أصواتهم وراح صغارهم يقذفونني بأقذر الشتائم. فاض السيل، سيل الكبار، متدافعاً بالأكتاف، يضربونني أنا بالتأكيد. لم أقل شيئاً يجعلهم يضربونني، وعيونهم قاسية تشع غضباً عنيفاً قد اشعل النار وأوقدها في قلبي. بعدما كان لون وجوههم شاحباً صار لونهم أحمر، وفاض سيل الكبار متدافعاً بالأكتاف وبالأيدي وبالمناكب يضربونني وبالرؤوس ينطحونني ويركلونني على شكل جماعات غير منظمة وعضوية. حزينة هي المرأة المياسة زليخة حبيبتي التي حررت الطيور من قفصها في رائعة فائق حسن. سحبتُ يدي اليمنى التي تقطر دماً. سحبتها، شددتها، بقوة سحبتها كي لا اعيد ما فعلت لأنني ندمت بعدما اكتشفت أنني الخاسر الوحيد في كل الذي قد جرى لأنني لم التزم حكمة ابناء قريتي: الطائر الذي يلوذ بعشه لا خطر عليه من الصياد.
كنت بعد ضربات الناس وتقريعهم لي، مثل صاحب الحوت منبوذاً في ساحة الطيران. الجندي الأميركي من الفرقة الرابعة - مدرعات أشاهده من بين أقدام الناس، قبالتي، وقد جعلته أمامي وجعله كل الناس خلفهم، وجعلنا كلنا تحت فوهة رشاشة. ولا تزال أنشودة إلهام المدفعي تصدح في رأسي: موطني... موطني... موطني، وابناء وطني يضربونني ويصرخون بصوت غاضب هادر عالٍ: إرهابي.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم