السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

"حفلة التفاهة" لكونديرا: هجاء الولادة والإرادة وحقوق الإنسان

محمد أبي سمرا
"حفلة التفاهة" لكونديرا: هجاء الولادة والإرادة وحقوق الإنسان
"حفلة التفاهة" لكونديرا: هجاء الولادة والإرادة وحقوق الإنسان
A+ A-

في مستهل روايته "حفلة التفاهة"، التي نقلها من الفرنسية الى العربية المغربي معن عاقل، ونشرها "المركز الثقافي العربي" في بيروت والرباط، "يؤرخ" ميلان كونديرا لعلامات "سلطة إغراء" النساء التي "لم تعد تتركّز في أفخاذهن أو أردافهن أو نهودهن، إنما في الحفرة الصغيرة المدورة التي تتوسط أجسادهن"، وهذا بناءً على ما يتوارد في ذهن إحدى شخصيات الرواية، ألان، السائر "متمهلاً" في نهار مشمس في أحد شوارع باريس.


مسألة "سلطة إغراء" النساء، تحولاتها وأبعادها "الفلسفية" الوجودية، حاضرةٌ في "حفلة التفاهة"، كخيط من خيوطها الروائية: كيف ولماذا جرى صوغ "الإغراء الأنثوي" ومركزتُه في "السرَّة"، سرّة المرأة، في مطلع الألفية الثالثة؟
كعادته في استنطاق سلوك شخصياته الروائية، وما يدور في وعيها وخلدها من أفكار وهواجس، يستنطق كونديرا بطله ألان السائر في شارع باريسي: حين كانت الفخذان مركزَ الإغراء الأنثوي، كان "ينبغي" أن تكونا "طويلتين"، كناية عن "صورة مجازية لطريق طويل وجذاب". وهذا ما كان "يسبغ على المرأة، حتى في المضاجعة، ذلك السحر الرومنطيقي لما هو عصيّ على المنال". أما حين انتقل مركز الإغراء الى الردفين، فإن ذلك كنَّى عن "فظاظة" و"مرح"، وقصّر الطريق "الى الهدف" المثير المزدوج. تمركز الإثارة والإغراء في النهدين، انطوى على "تقديس المرأة" و"خضوع" الذكر لـ"المهمة النبيلة" للأنثى. هنا تحضر في ذهن ألان، "مريم العذراء مرضعة المسيح".
يُبقي كونديرا دلالة تمركز الإغراء الأنثوي في السرّة، معلّقة، فلا يختصرها في كناية سريعة عابرة في مستهل روايته. ذلك لأن الأم والولادة وحبل السرّة هي المسائل الوجودية الأساسية في الرواية وفي حياة ألان وشخصيته وسلوكه. وهذا يعني أن هذه المسائل سوف تظل تتردد كموضوع روائي رئيسي في فصول "حفلة التفاهة" وعلى صفحاتها القليلة (111 صفحة).


الضمور والنسيان
ضمور حياة الرجال المسنّين، موضوع رئيسي آخر من موضوعات هذه الرواية. كأن قلة عدد صفحاتها تكني عن ذلك الضمور، وكذلك عن تقدم كونديرا نفسه في السن. فهو بلغ الـ 86 من عمره، ويبدو أنه كتب "حفلة التفاهة" في مطالع الألفية الثالثة. وهي من أجدِّ رواياته مع كتاب آخر عنوانه "الستارة"، صدر في العام 2005 في باريس، وترجمه الى العربية بدر الدين عرودكي، وصدر في العام 2007 ضمن سلسلة "المشروع القومي للترجمة" في القاهرة. شأن "حفلة التفاهة"، جعل كونديرا "الستارة" مداراً للتفكير في فن الرواية وفي الزمن وعمل الذاكرة والنسيان مع التقدم في السن، بعدما كان "الخلود" و"الخفة غير المحتملة للكائن" و"الضحك والنسيان" من موضوعاته الروائية الأثيرة. وقد يكون صاحب "الحياة في مكان آخر" من أشد الروائيين العالميين "التزاماً" لطرح الأسئلة الكبرى للوجود البشري، طرحاً روائياً - فلسفياً، في النصف الثاني من القرن العشرين. وهذا ما أوصله، أخيراً، إلى النظر في الوجود انطلاقاً من عمره وتقدمه في السن، جاعلاً من "حفلة التفاهة" مداراً لتأملاته في ضمور حياة المسنّين، وجودهم وذاكرتهم.
في "الستارة" كتب أن "النشاط المستمر للنسيان يعطي كلاً من أفعالنا طابعاً شبحياً، لا واقعياً، بخارياً"، ثم تساءل: "ما الذي تغدّيناه في الأمس؟ ما الذي قصَّه عليَّ صديقي، وحتى ما الذي فكرت فيه قبل ثلاث ثوان؟" الجواب: "كل ذلك نُسيَ، وما هو أسوأ ألف مرة، أنه لا يستحق شيئاً آخر". أما "الرواية بوصفها يوتوبيا عالم لا يعرف النسيان"، فليست بدورها سوى "قصر محصّن" تحصيناً سيئاً في "مواجهة النسيان". والدليل أنني - يكتب كونديرا نفسه - حينما "أقلب الصفحة، أنسى ما قرأته، ولا أحتفظ إلا بضرب من الملخص (...) وذات يوم، بعد سنوات، تستحوذ عليّ رغبة في أن أتكلم عن رواية لصديق. آنئذ سنتأكد أن ذاكرتينا لم تحتفظ إلا ببعض المقتطفات، وقد بنت لكل منا كتابين مختلفين تماماً".


المراصد ومسرح الدمى
في "حفلة التفاهة"، فيما كان ألان يفكر في تغيّر مركز الإثارة في جسم المرأة، كان رامون يقف أمام المتحف المجاور لحديقة لوكسمبورغ الباريسية، راغبا في زيارة معرض للرسام الراحل مارك شاغال. لكنه كان يعلم أن قدرته لن تسعفه ليقف في الصف الطويل الذي يتقدم بطيئاً نحو صندوق دفع تكلفة الدخول الى المعرض. لذا "أخذ يراقب الناس ووجوههم المشلولة من الضجر"، وفضّل الدخول إلى الحديقة المجاورة، حيث "الجنس البشري أقل عدداً وأكثر حرية". في الوقت نفسه كان دارديلو، وهو شخصية ثالثة في الرواية، يمرّ في الحديقة نفسها، مردداً "في سرّه بصوت راعش أنه سيحتفل بعد 3 أسابيع، وفي آن واحد، بذكرى ميلاده البعيد وذكرى موته الذي أصبح وشيكاً". ذلك لأنه ينتظر "نتائج فحوص" طبية يُشتبه في كشفها عن إصابته بالسرطان. لذا يسمّي الذكرى المنتظرة "عيداً مزدوجاً"، وفقاً للمذهب الكونديري التهكمي (الكلبي) العدمي.
لا تتكشف فحوص دارديلو عن سرطان. وقبل إحيائه حفلة في ذكرى ميلاده، يلتقي أصدقاءه ويستغرقون في ثرثرة عن الزمن والسن والعمر. أحدهم يقول: "يلتقي الناس في الحياة، يثرثرون ويتناقشون ويتشاجرون، غير مدركين أنهم يتخاطبون من بعيد"، من مسافة فروقات السن في ما بينهم: "كل واحد يتكلم من مرصد ينتصب في موقع مختلف من الزمن". لذا يتكلم كل منهم على ليلاه... "ثم يموتون"، يتابع صديق آخر، قائلاً. ثالث يضيف: "يظل الميتون بضع سنوات (حاضرين كذكرى) مع الذين عرفوهم". ثم "يصبح الأموات أمواتاً قدامى، ولا يعود أحد يتذكّرهم ويختفون في العدم". أما المشهورون، و"هم قلّة نادرة" فتمكث أسماؤهم في الذاكرة"، لكنهم يتحولون "دمى" بعد تجريدهم من أية شهادة صادقة ومن أية ذكرى واقعية". هؤلاء ليسوا سوى "دمىً في مسرح العرائس".


هجاء الولادة
أخيراً، ها هو ألان مجددا: فمن لم يتمكن طوال حياته من قطع حبل السرة الذي يربطه بأمّه التي تكره الإنجاب وأُرغمت عليه، ها هي أمُّه تناجيه قائلة: "دوماً بدا لي أنه من المرعب إرسال شخص إلى العالم من دون أن يطلب ذلك". لكن الأشد رعباً هو أن "لا أحد موجودٌ بإرادته". هذه هي "الحقيقة الجوهرية بين جميع الحقائق"، سوى أن الجميع "كفّوا عن رؤيتها وسماعها"، لأن لا جدوى من التفكير فيها. أما ما "يهذون" به عن "حقوق الإنسان" فليس سوى "طرفة"، بل ترهات و"تفاهات"، ما دام الوجود نفسه "لم يتأسس على أي حق" أوليّ أصيل: إرادة الإنسان أن يولد. مَن هذه حاله كيف يمكنه اختيار أي شيء جوهري وأصيل في حياته؟! وها هم "فرسان حقوق الإنسان" لا يسمحون لأحد بأن "ينهي حياته بإرادته". وما يفعله البشر في الفسحة الزمنية الفاصلة بين غياب هاتين الإرادتين - إرادة الولادة وإرادة الموت - ليس سوى "قتل الوقت الذي لا يعلمون ماذا يفعلون به" (كونديرا)، والذي "لا ينقضي" (بسام حجار)، ويقترح عباس بيضون ابتلاعه أو اجتيافه "بجرعات كبيرة" حتى "خلاء هذا القدح". أما إميل سيوران فوضع كتاباً خاصاً في هجاء الولادة سمّاه "مثالب الولادة". ما يقترح كونديرا على الإنسان أن يفعله في الفسحة الزمنية بين امتناع الإرادتين، هو "حب التفاهة" باعتبارها "جوهر الوجود" والحاضرة "على الدوام وفي كل مكان: في الفظائع، والمعارك الدامية، وفي اسوأ المصائب". وإذا كان صاحب "المزحة" قد بنى عالمه الوائي على التهكّم والعبث والدعابة والمرح والسخرية المرّة، فإنه في ختام روايته هذه يضيف التفاهة إلى ذلك العالم بوصفها "مفتاح الحكمة" و"مفتاح روح الدعابة".


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم