الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

حكاية أمّ من وراء قضبان بعبدا

يارا عرجة
حكاية أمّ من وراء قضبان بعبدا
حكاية أمّ من وراء قضبان بعبدا
A+ A-

في سجن بعبدا مأساة من نوع آخر. مأساة إنسانية، مسألة عاطفية، أمّهات يبكين على فراق أولادهم وبنات اشتقن لرائحة أمهاتهنّ. دخلت شهرزاد السجن في تهمة تجارة المخدّرات، فحكم عليها خمس سنين حيث دخلت في 26 تشرين الثاني 2009 وخرجت في الثاني من كانون الأوّل 2013. رحلت ذات يوم من منزلها ولم ترجع، تاركة ورائها فتاة في سنّ التاسعة. رحلت لتقطن في سجن بعبدا، تلك المدرسة الداخلية التي علّمتها الأمومة.



مصير غيّر حياة الأم وابنتها



انفصلت شهرزاد عن زوجها عندما كانت ابنتها تبلغ من العمر سنة فقط. فاهتمت وحدها بتربيتها، لعبت دور الأمّ العزباء وحضنت ابنتها وقدّمت لها كلّ ما يلزمها من عاطفة وحاجات ماديّة. تروي شهرزاد لـ"النهار" مدى العلاقة الوطيدة التي كانت تربطها بابنتها وكيف كانت تحكي لها كلّ شيء عن حياتها بالمدرسة وأصدقائها إلى حين تمّ توقيفها "قبل عيد الأضحى بيوم واحد". حينها زعمت شهرزاد أنّها كانت "رايحة مشوار" في حين كانت ابنتها تنتظرها في المنزل، "ذلك اليوم ذهبت ولم أعد. اتصلت بشقيقتي وأخبرتها أنّه تمّ توقيفي، فتولّت حضانة ابنتي وأخبرتها ما حصل معي. طفلتي الصغيرة كانت ناضجة على الرغم من سنّها فاستوعبت ما حصل معي وكانت لاحقاً مصدر قوّتي".
أثّرت عقوبة الأم في حياة ابنتها ودراستها أولاً، كما تروي شهرزاد لـ "النهار"إذ تقول: "ابنتي كانت جدّ مجتهدة، غير أنّ توقيفي أثّر في أدائها المدرسي، فأصبحت تعاني قلّة التركيز وتغيّبت في الأيّام الثلاث الأولى عن مدرستها قبل أن تتركها لاحقاً بسبب عدم تقبّلها لردّة فعل زملائها في الصف، فأصبحت تتصرّف معهم بعنف. إلاّ أنّ شقيقتي أرغمتها على الالتحاق بالعام الدراسي اللاحق، ولكن ابنتي لم تصمد فتركت دراستها بسبب ما حصل معي".



عيد الأمهات في سجن بعبدا



وتتابع شهرزاد: "أصعب ما في الأمر كان التكلّم مع ابنتي من طريق نافذة النظارة. كم كنت أتمنى معانقتها واحتضانها، إلاّ أنّه لم يكن بوسعي فعل ذلك سوى لثوانٍ معدودة بسبب القانون الذي لا يسمح للزيارة أن تطول لأكثر من ربع ساعة". تستذكر شهرزاد الزيارة الأولى لابنتها في سجن بعبدا يوم عيد الأضحى حيث شعرت بحزن وحسرة شديدين خصوصاً أنها وعدتها أن تشتري لها "الثياب وتمضية اليوم معها. كنت ضعيفة أمامها وهي أقوى منّي. قالت لي يومها "ماما ما طوّلي"، وكانت تطمئنني في كلّ زيارة "ماما ما تخافي أنا مع خالتو"، و"كانت تقوم بزيارتي كلّ أسبوعين أو ثلاثة بحسب ماديّات شقيقتي". أمّا بالنسبة إلى عيد الأمّ في السجن، فتنوّه شهرزاد إلى أنّ "بعض الجمعيات كانت تحضّر الحفلات في هذه المناسبة، فكانوا يجلبون الأولاد للاحتفال مع أمهاتهم في السجن، ولكن على الرغم من ذلك، بقيت الحسرة رفيقة الأمهات في هذا اليوم، إذ لا يسمح للأولاد الذين تجاوزوا سنّ الثالثة عشرة من الزيارة، فتراقب السجينة زميلتها وهي تحضن ابنها أو ابنتها بينما هي ممنوعة من لمس أولادها. حال شهرزاد في بعبدا كحال زميلاتها اللواتي يعانين بسبب افتراقهنّ عن أولادهنّ "ذات يوم أتت ابنة إحدى السجينات التي كانت قد تزوّجت ووالدتها في السجن مع مولودها. ما زلت أذكر كم أثّر بي مشهد العناق بينهما، لم تصدّقا أنّهما التقيتا أخيراً بعد ما حصل مع الأم".



درس الأمومة



تعتقد شهرزاد أنّ "دخول سجن بعبدا هو كالدخول إلى مقبرة الأحياء. يكون السجين متوجهاً إلى آخرته، فلا يفكّر إلاّ في ماضيه، يراجع نفسه، ويتذكّر أمّه". في هذا المكان اكتشفت شهرزاد المعنى الحقيقي للأمومة، فتذكّرت أمها في الكثير من الأحيان وعشقت ابنتها وتشبثت بها للتشبث في الحياة "كنت منهكة من التعب، لم اكن بحاجة سوى إلى أمّي، كنت أحلم ليلياً بها، كنت قلقة على ابنتي، ففهمت حينها معنى الأمومة، فهمت شعورها عندما كنت أغيب عن عينيها، لأنني كنت أحسّ بالأمر عينه بسبب غياب ابنتي عنّي". ليس حبل السرّة فقط ما يجمع الأمّ بولدها، بل هو شعور الأمومة الأقوى من كل شيء، وهو ما أبقى شهرزاد على قيد الحياة، فكانت لا تفكّر سوى بها، تستمدّ قوّتها منها. ففي حين لم تعد تعني لها الحياة، كانت ابنتها الحياة كلّها. "كانت ابنتي تشجعني كثيراً، فتقول لي "بكرا بتضهري". كنت أفرح أنها أقوى مني بينما كنت أضعف منها، وما زلت أضعف منها نتيجة خوفي عليها كثيراً. سجني لم يحدّ من علاقتنا، فاستمرّت في رواية أخبارها لي وأنا في السجن، فحكت لي مرّة قصة حبّ تجمع بينها وبين شاب. كنت أخاف أن يقوم بإيذائها، وكنت أوصيها دائماً ألاّ تذهب مع أحد، فكنت أخاف من أن يستغلّها أحدهم. فكلّ همّي هو أن تكون ابنتي في أمان وأن لا تتعذّب مثلي. في السجن كانت تراودني أفكار جهنّمية كأن يغتصبها أحدهم أو يستغلّها، فكنت أرى الكوابيس ولم أوفّر نصائحي أبداً فكنت أطلب منها ألا تخرج في الليل وأن تبقى مع خالتها دائماً". إنّ عقوبة السجن هذه أثّرت كثيراً بشهرزاد إذ احتفظت بالعديد من الذكريات التي كانت تقدّمها ابنتها لها كأوّل رسالة كتبتها لها حيث ورد فيها بعض العبارات كـ "ماما استقتلك، بحبك كتير، خليكي قوية...". وتضيف شهرزاد أنّه عندما "كانت تقوم ابنتي بمعانقتي، كانت تبقى رائحتها معلّقة على ثيابي، فلم أكن أغسلها إلاّ عندما تقوم بزيارتي مجدداً لتبقى رائحتها معي. كما احتفظت بالدبّوس التي كانت قد اعطتني إيّاه عند زيارتها لي، وبمجموعة من صورها وهي متبرّجة وأنيقة فيها، لم أكن أصدق انها ابنتي. وفي المقابل، أنا كنت أكتب لها الأشعار والأغاني، عشقتها وكنت أفكر بها طوال الوقت. نعم شعرت بالندم لأنني ابتعدت عنها بسبب السجن...".



النهاية بداية لحياة جديدة



بعد خروجها من السجن، كان استقبال شهرزاد من عائلتها حاراً وخصوصاً ابنتها "قامت بتدليلي وتغنيجي لمدّة أسبوع كامل لتعود الأمور إلى طبيعتها، فأعود لأصبح أنا الأم وهي البنت. علاقتنا اليوم ممتازة، ما زالت المصارحة موجودة بيننا. فلطالما كانت الواحدة تفهم الأخرى من نظرة واحدة، غير أننا اليوم نمرّ ببعض النزاعات والمشاكل، اختلفت التربية ولم تعد تسمع منّي دائماً. أعتقد أنّ هذا الأمر طبيعي في مرحلة المراهقة، فهي تبلغ الخامسة عشرة اليوم. وهي متعلّقة بخالتها أيضاً ومقرّبة منها، ففي عيد الأمهات تشتري هديتين، واحدة لي وأخرى لها".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم