الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

سينما - "برلين 65": هرشبيغل يردّ الاعتبار إلى المقاومة ضد النازية ودرايسن يرحم تائهي التاريخ

سينما - "برلين 65": هرشبيغل يردّ الاعتبار إلى المقاومة ضد النازية ودرايسن يرحم تائهي التاريخ
سينما - "برلين 65": هرشبيغل يردّ الاعتبار إلى المقاومة ضد النازية ودرايسن يرحم تائهي التاريخ
A+ A-

بعد مغامرة غير موفقة في أرض الآخرين ("ديانا" عن سيرة أميرة ويلز)، يعود المخرج الألماني القدير أوليفر هرشبيغل الى موضوع يعرفه جيداً ويملك مفاتيحه، كونه سبق أن طرحه في "السقوط"، في العام 2005: هتلر، الديكتاتور الذي لا تزال أشباحه تطارد كلّ ألماني. الفيلم عنوانه "ألزر" ("13 دقيقة" بالانكليزية)، يتعاون فيه هرشبيغل مع كاتب السيناريو في "صوفي شول" فريد براينرسدونفر ومديرة التصوير جوديت كوفمان، ليقدم عملاً مقّطعاً بالطريقة الألمانية الصارمة يخطف الأنفاس من أول لقطة حتى آخر ثانية، عُرض الأول من أمس خارج المسابقة في مهرجان برلين السينمائي (5 - 15 الجاري).


جورج ألزر كان رجلاً مسيحياً عادياً محباً للحياة ينظر الى التحولات التي يشهدها محيطه، في منتصف ثلاثينات القرن الماضي. يرى صعود النازية وتكريس التطرف والعداء لليهود اثر انتقال المنطقة التي يقطنها من كفّ الاشتراكية والشيوعية الى العقيدة النازية. فأراد أن يخطط بمفرده، واعتماداً على قدراته العقلية، لعملية اغتيال هتلر، وهو يلقي خطاباً، في ميونيخ في التاسع من تشرين الثاني 1939. لكن القدر شاء ان يخرج الفوهرر من مكان الاغتيال قبل 13 دقيقة من لحظة انفجار العبوة التي صممها ألزر بنفسه. كان الرجل يريد منع اندلاع الحرب، بحسب اعترافه، ولكن بدلاً من إطاحة النازية عبر قتل قائدها، قتل ثمانية أبرياء لا علاقة لهم بالحركة العنصرية الصاعدة. أإرهابٌ ما قام به ألزر أم مقاومة، كونه لم يصب هدفه النبيل؟ هذا السؤال لا يشغل بال هرشبيغل كثيراً، بقدر ما يبدو مهموماً بآلية العمل النازية التي استطاع النازيون بموجبها السيطرة وتنظيم القتل وجرّ أوروبا الى العنف.
مرةً أخرى، تعود الفترة النازية الى مهرجان برلين، ولكن هذه المرة بفيلم يستحق الاشادة، وهو إذ يعود الى صفحة سوداء انزلقت فيها مئات الأفلام مباشرةً او مواربةً، فلكي يردّ الاعتبار الى مقاوم تأخرت ألمانيا الرسمية في تكريمه. في "ألزر"، وجهة نظر أخرى تتمثل في هذه الشخصية الحالمة (ألزر) التي يتوحد معها المتفرج، ومثله مثل ألزر، سيبدأ بطرح بعض الأسئلة الافتراضية من نوع "ماذا لو؟". ماذا لو لم يغيّر هتلر برنامجه في اللحظة الأخيرة في ذلك اليوم ولم يختصر خطابه للعودة الى برلين؟ هل كان أنقذ ألزر حياة الملايين؟
يردّنا الفيلم من خلال أكثر الطرق كلاسيكية، ومن خلال الاستعادات الزمنية، الى السنوات التي سبقت محاولة اغتيال هتلر. أيامذاك كان ألزر شاباً يعزف الموسيقى ويطارد البنات الى أن تعرف الى امرأة متزوجة من سكّير تافه وأقام معها علاقة غرامية. هذا كله نراه في موازاة رؤيتنا التحقيق الذي يجريه معه ضابطان من الغستابو لمعرفة مَن هي الجهة التي تقف خلف عملية الاغتيال. طبعاً، لا شيء سيقنعهما بأنها مبادرة شخصية. على الرغم من كلّ العقاب الجسدي الذي سيناله، يرفض ألزر اختلاق حكاية. بيد ان لكلّ رجل نقطة ضعفه، ونقطة ضعف ألزر هي حبيبته ألسا. في النهاية - وقصته معروفة لا نكشف سراً هنا - يُرسَل ألزر الى معتقل داخو، حيث سيُعدَم رمياً بالرصاص بعد مضي ستّ سنوات على اعتقاله؛ فترة زمنية لا نعرف ماذا فعل خلالها ولا يقول الفيلم شيئاً عنها.
يتفاعل النصّ مع سيرة ألزر وفق المنطق الاختزالي. لا يطرحه كأسطورة ولكن يصوّره رجلاً بسيطاً يؤمن بالحرية، ويقف مدافعاً عنها بجسده وبكلّ ما يملكه. في المؤتمر الصحافي الذي عُقد بعد عرض الفيلم، قال هرشبيغل إن التأخر في رد الاعتبار الى ألزر يعود الى اعتبارات كثيرة، أهمّها انه كان للألمان حتى الأمس القريب صورة مشوّهة ومغلوطة عن ألزر، فبعضهم يعتبره عميلاً للبريطانيين والأميركيين. هناك ايضاً شائعة تدّعي انه كان مكلفاً من هتلر تنفيذ عملية الاغتيال بهدف الاظهار ان عين الله رعت قائد النازيين وأنقذته من الموت. ربط هرشبيغل بين ألزر والأميركي ادوارد سنودن (العميل في وكالة الأمن القومي الذي سرّب تفاصيل برنامج التجسس)، معتبراً ان الاثنين جازفا بحياتهما، مع معرفة مسبقة بأنهما يضعانها في دائرة الخطر.


* * *
المخرج الألماني اندرياس درايسن يصوّر كما يتنفس، براحة وسلاسة. السينما في مسامات جلده. في فيلمه الجديد، "كنّا نحلم"، المعروض في المسابقة الرسمية، يضعنا امام لحظة سجالية من تاريخ ألمانيا الحديثة، أي الفترة التي توحدت فيها الألمانيتان، وانتقلت من يد الى يد. على مدار ساعتين من الزمن، يصوّر مخرج "صيف في برلين" خمسة من المراهقين الأصدقاء وهم يقومون بأعمال شغب ويتعاطون المخدرات ويمارسون أقسى أنواع التعنيف بعضهم في حقّ البعض الآخر. شلل وعصابات وأصدقاء وأحباب وأقارب وخصوم... كلّ شيء يختلط في لحظة فوضى لا يدينها المخرج بل يقدّمها كمختبر، من دون اتخاذ ادنى موقف من نلك الحقبة التي ستولد من رحمها ألمانيا الجديدة.
يتحرر درايسن من أيّ عقيدة في هذا الفيلم، تماماً كالشباب الذين، بعد سقوط الجدار، نراهم بلا مرجعية أخلاقية تسند سلوكهم، فهم ضائعون لا يعرفون ماذا يفعلون ولا الى أين يذهبون. حالة يعكسها المشهد الأخير من الفيلم عندما يسأل السائق واحداً من الشبان الذي تختار الكاميرا اقتفاء اثره: "والآن، أين تريد الذهاب؟". غياب الإيديولوجيا هو ايضاً سمة الرواية التي وضعها الكاتب الشاب كليمانس ماير في العام 2006، وشكّلت أصلاً ادبياً للفيلم، علماً ان كاتب السيناريو القدير وولفغانغ كولهاس، 84 عاماً، هو الذي حوّلها الى سكريبت. ثلاثة أجيال اشتغلت على الفيلم، ومن خلال هذه المبادرة أراد درايسن أن يتوصل الى استنتاج فكري سياسي يتكوّن من خلال لقاء الأجيال.
يُنزلنا الفيلم المقسوم فصولاً عدة، إلى العالم السفلي لمدينة لايبتزيغ، فنتابع الحوادث بوتيرتها الجهنمية، حيث الحركة مستمرة والمفارقات لا تتوقف. كلّ شيء يتّسم بالصدق في الفيلم، فما يصوّره درايسن بإيقاعه الخاص جداً قابل للتصديق، وخصوصاً ان الوجوه الجديدة الشابة التي جاء بها تساعده على نفخ الروح في الشخصيات فتصبح حقيقية شفافة. أجادت الادارة الفنية للفيلم خلق جوّ التسعينات بشكل لافت. خلافاً لما يلمّح اليه العنوان، يقول درايسن ان تلك المرحلة لم تكن مرحلة أحلام كبيرة، أقله بالنسبة له: "كنت أشعر بأنني بلا جذور".


* * *
المخرج الأميركي الكبير تيرينس ماليك كان حديث المهرجان مذ كشف عن تفاصيل فيلمه الجديد، "فارس الكؤوس"، المشارك في المسابقة الرسمية. ولكن عمله الجديد مخيّب بكل الاعتبارات، تتكرر فيه "تيكاته" التصويرية التي لا فكاك منها. للأسف، ما كان ممكناً تحمّله في المرات الماضية، تحول أسطوانة مزعجة هذه المرة في وجود التعليق الصوتي الحافل بالنشاز والمكرر، وخصوصاً أن كل هذه الصرخة في المجهول لا تتحول الى اي سؤال جوهري قد ينشغل به المتفرج. روحانيات تتجدد في أماكن وظروف مختلفة، لكنها تستعيد الأسئلة عينها في زمن استهلاكي لا يطيقه ماليك. ثم هناك هذا الدوران المفتعل على الذات، وكأن ماليك هنا يوجه تحية الى نفسه والى سينماه ويقول: "انظروا ماذا أستطيع أن أفعل". النتيجة: فيلم مبهم، أشبه بأحجية، غامض، مفكك، غير مفهوم، يلتف حول الأعناق بلا أيّ مسوّغ، يذهب به ماليك الى تجربة اكثر تطرفاً من أعماله السابقة، بحيث لا يعود الخيط الذي يسند العمل ذا أهمية. عشرات المرات يصوّر المباني الشاهقة والطرق التي لا آخر لها، يلتقط البحر والموج والسماء، وخصل شعر تتطاير، ويداً ممدودة من السيارة. مع ذلك، على الرغم من كل الغموض، المشروع واضح: ضرب تجاوزات الحياة العصرية من الأسفل، حيث الهمّ الأكبر استهلاك المزيد. في خطابه هذا، يبدو ماليك محافظاً. فالحياة الصاخبة التي نكتشفها بعيون كاتب للسيناريو يعيش ويعمل في هوليوود (كرستيان بايل)، لا تثير فينا أيّ شعور ايجابي أو سلبي. لا نفهم كل هذا التعذيب للذات الذي يرميه البطل المضاد في وجوهنا. المشكلة ايضاً أن ماليك مشغول بكلّ ما هو شكلاني، وغير قادر على بلورة علاقة قائمة على الحوار مع المتفرج. كلّ شيء عنده صار رهناً بالتأويلات الأكثر جنوناً، فيما هو شخصياً يكتفي بالصمت رافضاً التعليق، لأن هذا الصمت جزء من أسطورته. يبقى هناك عند المعلّم، هذا الحس الفيزيائي في تركيب لحظات لا تركب عادة عند أي سينمائي آخر، وهذا الجهد المتواصل في خربطة الحكاية وجعلها تتناثر امام عيوننا. ولكن، أين ماليك زمن "أيام الجنة" و"الخط الأحمر الرفيع"، وأين هو الآن؟


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم