السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

جعفر بناهي من سينمائي الى سائق تاكسي في طهران!

المصدر: "النهار"
جعفر بناهي من سينمائي الى سائق تاكسي في طهران!
جعفر بناهي من سينمائي الى سائق تاكسي في طهران!
A+ A-

مَن كان يقول ان جعفر بناهي سيتحول الى سائق سيارة تاكسي يجوب بها شوارع طهران بحثاً عن ركاب؟ فالمخرج الايراني (1960) الذي منعته سلطات بلاده في العام 2010 من انجاز الأفلام لمدة عشرين عاماً، كلّف نفسه هذه المهمة "الوقحة"، فوجد فيها الذريعة السينمائية التي تجعله يقترب من الناس ليلتقط أفكارهم وهواجسهم وتطلعاتهم، بكاميراته الصغيرة المثبتة قرب مقود السيارة، مستعيداً بذلك حقّه في الانوجاد داخل ضوضاء المدينة، بعد فيلمين صوّرهما خارجها. هذا ما يفعله بناهي في فيلمه "تاكسي"، المشارك في مسابقة برلين الـ65، ببُعد نظر يُحسَد عليه، هو الذي سبق ان حاز في الـ"برليناله" جائزة "الدب الفضة" عن "ضربة جزاء" في العام 2006. هذا فيلم يفكّ عنه الأغلال التي تكبّله والقيود المفروضة عليه، مؤكداً من خلال هذه التجربة البديعة ان الخيال الانساني عصيّ على المصادرة والحاجة إلى التعبير مصدر كلّ الحيل الفنية. نحن ازاء سينما مقاوِمة، ولكن بلا قبضات مرفوعة وشعارات ورصاص حيّ.


يتحايل بناهي على قرار منعه من العمل، من خلال عدم نشر جنريك في آخر الفيلم، فلا أحد يستطيع والحال هذه، ان يزعم ان هذا فيلم تعود ملكيته الاخراجية اليه. فهناك في "تاكسي" عدد من "المخرجين" يتشاركون صناعته؛ حيناً نرى الكاميرا في يد تاجر أفلام مقرصنة، وحيناً آخر، تحركها ابنة اخت المخرج. هناك ايضاً الكاميرا المتموضعة التي يغيّر بناهي اتجاهها بين حين وآخر، بالاضافة الى عين مجهولة تلتقط ما يتعذر على الشخصيات التقاطه. غنيّ عن القول ان في كلّ مراحل نقل الحكاية، تتعدد أنواع الكاميرات، لتتراوح من عدسات أجهزة الخليوي الى الكاميرات الرقمية ذات الجودة العالية. ولكن أياً تكن الكاميرا المستخدمة، فهي دائماً داخل السيارة، من اللحظة الأولى حتى الأخيرة. عباس كيارستمي المعروف بحبه التصوير داخل سيارة ("عشرة" أو "طعم الكرز")، قال مرة في مقابلة لي معه: "السيارة أفضل الأمكنة لاستقبال الضيوف، لستَ في حاجة الى فتح الباب للضيف عندما يأتي ولا مرافقته الى الباب عندما يرحل". دعونا لا ننسى ان بناهي عمل مساعداً لكيارستمي، وهو تلميذه الى حدّ ما. هنا، في "تاكسي"، يذهب بناهي الى أبعد من فكرة معلّمه، محوّلاً مقصورة الركاب في السيارة مسرحاً للتبادل الديموقراطي بين نماذج مختلفة من المجتمع الايراني المعاصر.



الشق الأول من الفيلم مختلف تماماً عن الشق الثاني، لا بل يمكن القول انه نقيضه. في الأول، ينجرّ بناهي مع الشخصيات انجراراً شبه كامل. هي التي تتحكم به، تأخذه من مكان الى آخر. بناهي يمنحنا الشعور بأن قرار اختيار مساره لا يعود اليه، بل مرتهن بأهواء الركاب وخططهم. هم مخرجو هذا الفيلم في شقه الأول. في هذا الاطار، تشكل فكرة قيادة التاكسي وترك المسار للآخرين، فكرة مباشرة واضحة وذكية. بناهي هو الغائب الحاضر، موجودٌ وغير موجود، يلمّح الى وضعه كمخرج صار خارج الكادر، قبل ان يقع ضحية سلسلة من المطبات لا تنتهي. يجد نفسه وقد تورّط في مهمة نقل رجل مصاب الى المستشفى. أو لاحقاً، عندما يقل عجوزين ملتزمتين نذراً يفرض عليهما زيارة نبع علي على وجه السرعة.


بين كلّ هذه الشخصيات التي تعبّر الى حدّ كبير عن الواقع الايراني المعاصر، هناك القزم، شخصية محنكة تجول على بعض الزبائن لتعرض عليهم أفلاماً مقرصنة، وبـ"المصادفة"، يتبين انه من الذين يزوّدون بناهي الأفلام. انه بائع الأوهام الذي لا تهمّه الرقابة، في بلد "لا يتحقق فيه الهروب من الواقع الا عبر العبور بالسينما"، بحسب ما يقوله لنا بناهي. نعلم مثلاً في سياق الحديث، ان هذا القزم سبق أن باع بناهي نسخة مقرصنة من "ذات يوم في الأناضول" لنوري بيلغي جيلان. هذا اللقاء بين بناهي والبائع، يفسح المجال للقطات في منتهى السخرية. يقول له البائع: "من دوني، ليس في امكانك ان تشاهد أفلام وودي آلن".


"تاكسي" فيلم ذو مقاربة سياسية لوضع بناهي، لكنه ايضاً نقاش في السينما وتوظيفات الصورة وفعل التصوير في زمن المخابرات والتنصت وكاميرات المراقبة. هذا كله منجز وفق تداخل محكم بين الحقيقة والمصطنع. وكم تبدو ضرورية تلك الأسئلة التي تحركها الفتاة الصغيرة، ابنة اخت بناهي، وكأنها أسئلة بناهي نفسه تأتي على لسان كائن بريء غير ملوّث، وخصوصاً أن التلميذة الصغيرة التي طُلِب منها في المدرسة ان تنجز فيلماً قصيراً، تعدد الشروط التي على الفيلم السينمائي الايراني أن يستوفيها كي يُسمح بتوزيعه، ومنها مثلاً الا تحمل الشخصيات الشريرة اسماءً اسلامية. وكم جميلة تلك اللحظات الصافية في الفيلم، عندما تسأل التلميذة خالها عن معنى "الواقعية المنفّرة" (مرادف السينما النظيفة في مصر)، العبارة التي تحارب بها السلطات الايرانية بناهي وأفلامه. انه فعلاً لمانيفستو السينما المعتقلة قلباً وقالباً، يزعزع به بناهي بعض المفاهيم، حدّ انه لا يعود يهم ما هو الحقيقي وما هو المفبرك. تماماً كالأفلام التي يتأبطها البائع المتجول: هل فعلاً ثمة فارق بين الفيلم الأصلي ونسخته المقرصنة؟


[[video source=youtube id=p1InFBwN3SY]]


 


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم