الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

سعيد عقل: لكَ هذا الريحُ عودٌ والغماماتُ وترْ

فوزي يمّين
سعيد عقل: لكَ هذا الريحُ عودٌ والغماماتُ وترْ
سعيد عقل: لكَ هذا الريحُ عودٌ والغماماتُ وترْ
A+ A-

"بنت يفتاح"، "المجدليّة"، "قدموس"، "رندلى"، "غد النخبة"، "أجملُ منكِ؟ لا"، "لبنان إنْ حكى"، "كأس الخمر"، "أجراس الياسمين"، "كتاب الورد"، "قصائد من دفترها"، "كما الأعمدة"، "الوثيقة التبادعيّة"، "دلزى"، و"خماسيّات الصّبا"...إلخ. كان سعيد عقل في تجربته كلها، راديكاليّاً، منحازاً إلى حدّ التطرّف، في كلّ كلمة من كلماته الشعريّة والنثريّة، وفي كلّ موقف من مواقفه التاريخيّة والسياسيّة والوطنيّة. وهو، إزاء ذلك، لا شَكّ إبرةً في الخفاء، ولا عَقَدَ خيطاً في الكواليس، بل قال ما يؤمن به علناً، وبصوتٍ عالٍ، وعلى رأس السطح.


كان سعيد عقل متطرّفاً في الشعر إلى حدّ أنّه غدا أكبر مهندسيه الشكلانيّين الذين رفعوه إلى أعلى مراتب الجماليّة نحتاً وموسيقى. وكان أيضاً متطرّفاً لوطنه حدّ أنّه جعل منه أسطورة (فينيقيّ غير عربيّ)، واخترع له لغة (مستقاة من اللاتينيّة)، وعمل جاهداً على تقديسه.
كان سعيد عقل مجنونَ وطن وجمال، فهل من خطيئة تُرتجى في ذلك؟ وهو لم يكن شاعراً فحسب، بل كان نحّاتاً ضرب إزميله عميقاً في عصب اللغة، مشتقّاً منها الأعاجيب، راصفاً ألفاظها وأوزانها لآلئ وهّاجة، مخلّصاً إيّاها من ميوعتها الرومنطيقيّة البكّاءة، ورافعاً بها إلى ذروة العافية والزهو والفرح.


رمزيّة
إنّ أولى القصائد الرمزيّة الناجحة التي كتبها الشاعر اللبنانيّ أديب مظهر ربّما تكون قد كُتبتْ في العام 1925، أي قبل أن تصبح الرومنطيقيّة حركة ناجحة. يعود ظهور الرومنطيقيّة، في ذلك الوقت المبكّر، إلى أنّ الموهبة اللبنانيّة كانت تنضج في وقت واحد في جميع النواحي. كان "التخمّر" قد استمرّ وقتاً طويلاً، وكان التجريب من أهمّ خصائصه. فكان الشاعر يمتلك دوماً قدْراً من الحرّية، إذ نشأ الشعراء اللبنانيّون على تقاليد دراسيّة تلقّحت، منذ زمن بعيد، بالأفكار والأساليب الغربيّة. وكان هؤلاء الشعراء، من الناحية الثقافيّة، على جانب من التمدّن والبراعة. لذلك وجدوا أنفسهم قادرين على تمثّل المفاهيم النظريّة في رمزيّة القرن التاسع عشر. وقد حاولت الحركة الرمزيّة في الشعر العربيّ أن تتبنّى مبدأ الرمزيّة الفرنسيّة في ذاك القرن، من دون أن تتغلغل فعلاً في جوهر فلسفتها. وهي، كتيّار فنّي، لم تستطع الإندماج في التيّار الرئيسيّ للشعر العربيّ في الثلاثينات والأربعينات، بل بقيت صوتاً شعريّاً مستقلاً إلى حدّ كبير، تمثّلها قلّة من الشعراء. إلاّ أنّ هذا الوضع تغيّر في الخمسينات، وأصبح العنصر الرمزيّ في الشعر جزءاً من حركة جديدة ذات أبعاد واسعة، تستوعب مشكلات وجود الإنسان الدقيقة في وطن عربيّ مليء بالتناقضات والأخطار. في المقابل، كان الهدف الرئيسيّ عند الرمزيّين العرب، يصدر، في الدرجة الأولى، عن فكرة لستيفان ملارميه، ثمّ لبول فاليري، مفادُها أنّ الشعر يجب ألاّ يُخبِر بل أن يوحي ويستثير. أعلن الرمزيّون الغربيّون أنّ معتقدهم الرئيسيّ يتركّز في الصفة المثاليّة للعالم، وأنّ الحدس الشعريّ يتفوّق على المعرفة العقليّة والعلميّة. وكان هذا المعتقد صوفيّاً، إيماناً بالجمال المثاليّ. وقد حاول الرمزيّون التعبير عن المدرَكات الشفّافة للحواسّ والعواطف الغامضة، واكتشاف المعاني الخبيئة المنطوية في النفس، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ من العبث تفسير عالم لا يمكن معرفته، من طريق تمثيل دقيق له- كما حاول الواقعيّون أن يفعلوا- وقد نجحوا في اصطناع الغرابة والإبهام الذي يشبه الأحلام. خاطب الشعر الرمزيّ الرغبات الدفينة والإثارات، وعبّر عن رؤى الشاعر الداخليّة بواسطة استعارات موحية ولحن سيّال، اعتقاداً منه أنّ الموسيقى جوهر الشعر.
برز الشاعر يوسف غصوب (1894- 1972) كتجربة رومنطيقيّة معتدلة، والشاعر أديب مظهر (1898- 1928) كنشأة للرمزيّة في لبنان، لكنّ سعيد عقل (1912- 2014) كان الرمزيّ الأكبر الذي خطف الأضواء بشكل سريع، وخطف الرمزيّة وطار بها إلى أبعد، بسبب موهبته المبكّرة والفذّة، فغدا أفضل من يمثّلها في الشعر العربيّ، ولُقّب بفاليري الشرق. كان ينقّب في المعاجم عن الكلمات النادرة المرِنة القابلة للاستعمال المجازيّ الممتع، وذات القيمة الموسيقيّة العالية، عاملاً على إخضاع كلّ منها إلى فحص، وصقل، ونحت، وتمحيص دقيق. وقد استعمل هذه الكلمات في شعره بشكل، كثيراً ما ترك أثراً فعّالاً في نفس القارئ. هذا المنحى في التنقيب والبحث- وهو أساسيّ في توجّه الشاعر- عكس وعياً مبكّراً لملاحقة هدفه الشعريّ، ورغبة حقيقيّة في بلوغ هذا الهدف. ولا شكّ في أنّه لم يكن شاعراً يترك الأمور للحدس فحسب، بل كان يتعمّد متابعة ثقافته الفنّية التقنيّة، والسيطرة على أدواته الشعريّة. هذا التثقّف المقصود يفسّر غنى قاموسه الشعريّ، وبراعته في استخدام الألفاظ. وقد ساهم الكتاب المقدّس، والروايات الأسطوريّة الفينيقيّة آنذاك، في تكوينه الشعريّ.
إنّ قصائده المسرحيّة التاريخيّة (المجدليّة، بنت يفتاح، قدموس) التي هي غاية في الجمال التعبيريّ، ليست بالمسرحيّات الرمزيّة الصرف، بل تميل أيضاً وبشدّة نحو الرومنطيقيّ والكلاسيكيّ، وتطغى عليها الغنائيّة، إلى جانب بعض المسارب الملحميّة البطوليّة. وتحوي، في ما تحويه، نزعة قوميّة لبنانيّة، ذات نبرة خطابيّة، وبلاغة صاخبة، وأسلوب فخم، وحرّية في الاستعمال النحويّ.
أمّا قصائده الغزليّة (رندلى، أجمل منك؟ لا، أجراس الياسمين)، فثمّة فيها لمحة من التصوّف، إذ كان الموقف الروحاني مهيمناً عليها دائماً. وهي لا تختلف، على تعدادها، إلاّ قليلاً في مظاهرها الخارجيّة، ما يؤشّر إلى انعدام التجربة الشخصيّة. فهو لا يخاطب امرأة من لحم ودم، بل امرأة أقدس من أن تُمَسّ ("هِمْ لا تُقرِّبْ يدا")، أشبه بحلم ("يا حلم الطفولة")، داعياً إيّاها إلى أن تبقى مترفّعة تبخل بالعطاء ("تمنُّع الشفة البخيلة")، وأن تبقى فكرة، وفرَحاً ("ظلّي فكرةً لغدي جميلة"). فمحبوبته التي هي "سُلاف العصور"، و"الكونُ منها في دُوار"، تمثّل ما في نفس الانسان من ميل إلى المطلق، من خلال التوق إلى جمالها. وهي، في نظره، لا تمثّل نفسها، بل هي رمزٌ للحياة والحقيقة، وبحثُ الإنسان عن جمال المرأة يمثّل بحثه عن الحقيقة. من هنا يكتسب الحبّ في شعره طابع العفّة، ويزدحم الفضاء العشقيّ بالمشاعر المحايدة. هذا لا يعني انعدام التعابير الحسّية في شعره، حيث يبدو أنّ الرغبة ليست ملغاة على الإطلاق، بل ينحو الحبّ فيه إلى المقدّس، فيغذّي البُعد أوهامَ القُرب، والقُرب أوهامَ البُعد، ويتجاور الحقيقيّ والمثاليّ من دون أن يتلامسا ("قبلةٌ في الظنِّ، حُسْنٌ مُغلَقٌ، مُشتهىً ضُمَّ إلى الصدرِ وفَرّْ"). صحيح أنّ الجمال هنا مُغلَق، كما ورد، والقبلة والضمّ مستحيلان، ولكن، في المقابل، يقيم الشاعر مساحة من الوهم والتوهّم، ويوسّعها، وذلك في إطار "الظنّ" و"المشتهى"، ما يشير إلى الإنفصال عن الشيء الذي ما إنْ يتمّ بلوغه حتّى يتبخّر.
على عكس الرومنطيقيّ الذي غالباً، إنْ لم يكن دوماً، مصبوغ بالكآبة، والحزن الوجوديّ، والقلق، والتمزّق، والامتعاض، لا نجد لهذه الحالات النفسيّة أيّ أثر في أعمال سعيد عقل. فهو عاشق مسرور، يعبق بصفاء داخليّ يعبّر عنه بنرجسيّة مفرطة، لأنّ عالم عشقه هو عالم من الوضوح والنور والغبطة والبهاء والصّفاء. وإنْ ذُكر موضوع "الظلمات" في شعره فللتغلّب عليها وتخطّيها. وفي السياق نفسه المعاكس أيضاً للرومنطيقيّ، يخوض سعيد عقل شعريّاً في الطبيعة وسحرها (القمر، النجوم، الشمس...)، ولكن ليس الطبيعة الرائعة الجمال فحسب، والمُبهِرة، والداعية إلى التأمّل فيها وفي الحال الإنسانيّة، أو تلك التي تمثّل هرباً وتشكّل ملاذاً للنفوس المتعبة، إنّما هي الطبيعة الأبعد، والأكثر ارتفاعاً، والمستحيلة البلوغ، والنفّاذة إلى التخوم المستحيلة، وذلك كانقطاع عن العالم الدنيويّ، وانغماس في المطلق، وانضمام إلى الكون الواسع الشاسع اللاّمتناهي.
هكذا بدأ بروز سعيد عقل منذ الثلاثينات، واستطاع المحافظة على أهمّيته في دنيا العرب في الأربعينات كذلك. غير أنّ أهمّيته الفعليّة تضاءلت في الخمسينات والستّينات، وخصوصاً عند جيل الروّاد الصاعد، وغشّت عليه حركة الشعر الجديدة، إذ إنّ فكرة الفنّ للفنّ، والشعر الخالص، تعرّضت لأشرس الهجمات من نقّاد الخمسينات وشعرائها. فإذا ما ألقينا نظرة شاملة إلى الفترة التي تثبّت بروزه ذاك فيها (نهاية الثلاثينات، وأغلب الأربعينات)، وجدناها أشبه بهدنة عجيبة توسّطت فترتيْن ممتلئتين بالصخب والتوتّر: الأولى، تلك التي سبقتها، كان يحكمها بحث رومنطيقيّ عن هويّة غير مكتشفَة، والثانية، تلك التي تَلَتْها، كان يحكمها بحث واقعيّ عن هويّة ضائعة. الفترة الأولى يمزّقها اليأس والشكوى والهروبيّة والأحلام الكئيبة المُحزِنة، والثانية تغشاها رؤى عنيفة من الرفض والتمرّد والكبرياء الجريحة. لذا، كان توجّه سعيد عقل الشعريّ، في تلك الفترة الوسطى، يبدو غير واقعيّ (ولا يزال؟!)، كأنّه أعجوبة تخطّت الحياة حولها، ومع ذلك قدّمت للشعراء اللاّحقين أساساً ممتازاً يبنون عليه.


كاريزما وأسطورة
إلى جانب شعره المبدع الصعب الذي يتحلّى بدفق بلاغيّ عجيب، وطلاوة مدهشة ساحرة، والذي ربّما لا شبيه له في الشعر العربيّ (أقرب إلى أبي تمّام والبحتريّ منه إلى المتنبّي)، وإلى جانب عبقريّته في انتقاء المفردات، واجتراح الصور، وتطويع اللغة (الفصحى تحديداً)، يمتلك سعيد عقل شخصيّة فذّة، فيها من النبل والترفّع والكبرياء، ما يجعله على توافق وتطابق مذهلين مع جوهر قصائده، ويضفي سحراً حضوريّاً على سحره الشعريّ: قامة ممشوقة على كِبَر، صوت وضّاح هدّار، نبرة واثقة متيقّنة لا يعروها تردّد أو شكّ، يدٌ عريضة كريمة قاطعة كالسيف تتمايل وتتراقص غنجاً ومجداً، حاجبان سميكان تعلوهما الرهبة والفطنة، وشَعر فوضويّ أبيض كشعراء الملاحم الأقدمين. من هنا يشبه سعيد عقل أولئك الشعراء الكبار، أمثال هوميروس (الإلياذة)، ودانتي (الكوميديا الإلهيّة)، وميلتون (الفردوس المفقود)، الذين استطاعوا، بخيالهم المتّقد الغنيّ، تحويل التاريخ إلى أسطورة للمجد والبطولة. هذه الأسطورة الشعريّة، بما تحويه من معرفة وثقافة وخيال، انحفرت عميقاً في ذاكرة الشعوب، وهي تعود لتستلهمها في أوقات المحن والشدائد لشحن الهمم والعزائم، بغية ربط لحظتها الحاضرة بلحظات أزماتها التاريخيّة، وتالياً وضع صراعها الراهن في سياق الصراع الأبديّ الشامل.
لا يجوز تسمية سعيد عقل بالفيلسوف، ولا بالمفكّر، وهذا ليس تقليلاً لأهمّيته، بالرغم من نزعاته الفلسفيّة والفكريّة. فلنسمِّه الشاعر فحسب. أصلاً، أليس الشعر هو الأهمّ، ولقب الشاعر هو الأرقى من بين كلّ الألقاب؟ فلنودّعْه في النهاية، كما استقبلناه في البداية، شاعراً كبيراً يمتطي صهوة اللغة، وفارساً مقداماً يخوض في أرض الكلمات المستحيلة، مكلّلاً بالغار الملوكيّ. وإذا كان عمرُه قد زاد على السنتين فوق المئة، فلتأكيد أسطوريّته، شعراً وحضوراً. وليس استخدام عبارة الأسطورة هنا بمعنى التقديس، كاستخدام عبارة الأيقونة وغيرها من العبارات المبجّلة الصنميّة المبتذلة الباهتة التي نستخدمها في المناسبات الكبيرة، بل الفرادة التي لا تتكرّر إلاّ عبر القرون. وإذا ما أُمسك على سعيد عقل بأنّه كان شديد المبالغات في شعره، ممّا تسبّب له بالكثير من "التشعيرات" السلبيّة، فيجب التأكيد هنا أنّ تلك المبالغات هي التي صنعت مجده الشعريّ، وهي التي شكّلت، مع سواها من الخصائص الشعريّة الأخرى، جوهر شعره الوطنيّ والغزليّ، على حدّ قول أحد الكتّاب الفرنسيّين، ميشال أوديار: "طوبى لـ"المُشعَّرين" لأنّهم وحدهم الذين يسمحون للضوء بأن يعبر". هكذا عبرَ سعيد عقل، في حياته وموته، سلطاناً فوق أرضنا العربيّة الخرِبة، كلمعة سيف وضوع ياسمينة، وعبرَ معه شعرُه الخالد على هودج المفردة والموسيقى والمؤثّرات السحريّة والجرس والإيقاع. هو من فوق، ونحن هنا من تحت، من متاهة الخوف والدم، لنا أن نلوّح له بيد تقول: "لكَ هذا الريحُ عودٌ والغماماتُ وترْ".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم