الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أمهات المعتقلين وجدن أنفسهن من دون جبران

منال شعيا
منال شعيا
أمهات المعتقلين وجدن أنفسهن من دون جبران
أمهات المعتقلين وجدن أنفسهن من دون جبران
A+ A-

في ذاك الصباح من 12 - 12 - 2005، وهو في طريقه الى اهالي المعتقلين في السجون السورية المعتصمين امام "الاسكوا"، لم يكن جبران تويني يعلم ان القتل المقصود سيخطفه بعيدا... بعيدا من الجميع. يومها، كان ينوي التحضير لتحرّك كبير مع الاهالي. كعادته، حضّر ملفه. استذكر وجع الامهات اللواتي قصدنه مرارا وهمّ بالنزول الى مكان اعتصامهن المستمر... لحظات ويعلن الخبر المشؤوم... جبران لم يصل اليهن... لم يعقد معهن الاجتماع الاعتيادي، بل تركهن وسط معاناة وحزن ومرارة مستمرة منذ اكثر من 18 عاما. لم يتبدّل شيء في تلك القضية. ملف انساني بقي من دون حلّ. فارق وحيد شعرت به الامهات: انهن اصبحن من دون جبران تويني...


ذاك الصباح، توقف الزمن عند كثيرين. كأن الوقت تجمّد. هكذا هي لحظات الموت، دائما، تكون ثقيلة، طويلة، منهكة... ويصعب على المرء استيعابها. وأهالي المعتقلين لم يستوعبوا انهم فقدوا جبران تويني. هو من رفع الصوت عاليا في ملفهم، وطالب بإطلاق ابنائهم، بل ذهب أبعد بكثير من حدود السياسيين وحساباتهم، فطالب بنبش المقابر الجماعية وجلاء مصير مفقودي الحرب.
ثلاثة اعوام مرت... مرت على استشهاد تويني، ومرت ايضا على اعتصام وخيمة بقيت وحيدة في حديقة جبران خليل جبران، ولا من مجيب على مطالب هي نفسها تتردد مع كل تحرك وتظاهرة واحتجاج: "نريد ابناءنا، احياء ام أمواتاً... نريدهم بيننا".
كتب جبران تويني بعنوان "هدية عيد" في 24 – 11 - 2001: "انتظرنا هدية مختلفة في عيد الاستقلال، كأن تخلي الدولة سبيل جميع المعتقلين (...) انتظرنا الهدايا والاشارات وانتظرنا وسنبقى ننتظر، لاننا شعب يأمل ويعاند في الامل ويرفض الاستسلام لأي امر واقع، ولاننا شعب تسلّح ولا يزال بالمحبة والايمان والتفاؤل والخير. انتظرنا وسنبقى ننتظر(...)".
ومرّة قال في احدى مداخلاته التلفزيونية: "في معتقلين بسوريا، بدنا يرجعوا... وفي امهات بدن يعرفوا وين ولادن. من حقهن يعرفوا...".
... اليوم، لا تزال الامهات في خيمتهن، بين صور اولادهن. هي تبدّل لونها، وهنّ مرّ عليهن زمن ثقيل، تخففه احيانا بعض الحكايات والقصص عن ابناء لم يعشن معهم، انما لا يستطعن العيش من دونهم. هكذا هي قصص الحياة المرة. تجلس مع عدد من الاهالي فتشعر بمرارة ويأس حفرا عميقا في القلب، وتركا حزنا مرسوما على تلك الوجوه... ولعلّها ليست مفارقة ان تكون تلك الوجوه عرفت من قرب وجه جبران تويني، فتقاسما معا المعاناة. العلاقة بينه وبينهم علاقة عفوية، بسيطة. لم تعرف يوما الحواجز او التكلف. كثيرة هي الروايات عن اهالي المعتقلين وجبران تويني.
الكل يتذكره. الجميع عرضوا له مشكلاتهم. البعض منهم تفرّد بعلاقة خاصة وباجتماعات بعيدة عن الاعلام وعدسات الكاميرات، فبقي العديد من القصص داخل اروقة الجدران... لا بل داخل قلوب الامهات وحرقتهن.


سرقه الخطر
تجلس ماري منصوراتي على احد المقاعد امام الخيمة العتيقة، وحين تلفظ امامها اسم جبران تويني سرعان ما تردد: "الله يرحم جبران وترابه ... آخ. خسرت ابنين. وينك يا جبران..."، هذه السيدة كبرت ومرضت ولا تزال تنتظر ابنها منذ 16 عاما. اما لخسارة جبران فحكاية مختلفة.
داني، ابنها، ذاك الشاب الذي اعتقله السوريون في وسط الشام وتحديدا في ساحة عرنوس في ايار 1992، حين كان يزور جدته للاطمئنان الى صحتها، كان مرافق تويني منذ ايام الحرب، وجمعتهما علاقة متينة.
تخبر ماري: "كان داني يلازم جبران دائما، لم يفارقه. كانا صديقين يجمعهما العديد من القصص والروايات. ذهب الى سوريا بسيارته. كان جبران بالنسبة الى داني الرفيق الدائم. أذكر كم كان ابني يحدثني عن جبران وقلبه الطيب. كان انسانا قادرا على توزيع المحبة اينما حل".
بعد التوقيف، واظب جبران وعلى مدى شهر ونصف شهر، على مهاتفة ماري كل ليلة، ثم بات يزورها ويتصل بها من حين الى آخر، حتى يوم اغتياله. كان دائما يردد: "سأعمل المستحيل كي يخرج داني".
هكذا، كان جبران تويني: يعمل بعيدا من الضجيج والمزايدات. تعلّق منصوراتي: "كنت افاجأ باتصالاته المتكررة. لم اكن احتاج الى الاتصال به. لم ينقطع يوما عنا. هو دائم الحضور". تصمت قبل ان تتدارك: "شو بدّي احكي. الخطر رافقه دائما، الى ان اخذه منا... الله لا يوفقهم".
نقمة لا تبددها الدموع. هذه الام ارتدت الاسود سبعة أعوام حدادا على ابن فقدت الامل باسترجاعه، فاختارت ان تحزن على طريقتها. وفجأة خلعت لباس الحداد، رافضة التصديق ان ابنها مات، ففي 2001 افادها احد السجناء السابقين ان داني موجود في سجن صيدنايا. ثم عادت وارتدت الاسود فترة بعد مقتل جبران. تقول: "تارة كنت اتعب، وطورا كنت استرجع قوتي. الى الان دفعت 70 الف دولار لسماسرة تاجروا بألمنا. قلّة فقط كانوا الى جانبنا، وجبران واحد منهم".
في احدى المرات، اخبرها جبران انه خلال محاولة اغتياله في بيت مري، كان داني هو من انقذه من الموت. وفي شهادته في محاكمة داني شمعون، قال جبران: "اذهبوا وارسلوا لنا داني منصوراتي. هو اعتقل في سوريا وشاهد من حاول قتلي".
لا تزال تلك القصة محفورة في قلب ماري. ترددها وتبكي. تلك الام التي تحتفظ بأغراض داني كما تركها، حتى ادوات الحلاقة الخاصة به والشامبو. كلها لا تزال في اماكنها. شيء جديد اضافته اليها. صورة جبران مبتسما: "انا اعيش على امل لقاء داني... بس جبران..." وتختفي الكلمات وراء صوت مخفوض ودموع تغسل الوجه المتعب، وتتابع: "من سيتصل بي الان... اذكر انه يوم الاغتيال، لم استوعب كيف ضربت رأسي على الحائط مرات ومرات... علّني اصدق. انا فقدت ابنا لي سيعود يوما، انما جبران خسرته. لا احد سيفهم تلك المرارة". وتعود الكلمات لتختفي مجددا.
"رأيت فيه ابني"
مرارا، كان جبران يتردد على خيمة الاهالي. وبسرعة يتحلقن من حوله. الكل يريد التكلم معه. يريد ان يخبره قصته. صونيا عيد والدة جهاد الذي اعتقل في 13 تشرين الاول 1990 حين كان مع الانصار في الجيش اللبناني، يحارب دفاعا عن لبنان، هي من الامهات الاوائل اللواتي باشرن حمل ملف المعتقلين مع رئيس "سوليد" غازي عاد وفيوليت ناصيف، والدة جوني المعتقل. لصونيا اخبار كثيرة مع تويني توحدها كلّها غصة: "ضيعانو...". تقول وكأن همّاً ثقيلا يجثم على صدرها. تذكر صونيا اول اجتماع مع جبران، بعيدا من الاعلام. كان في مكتبه في جريدة "النهار". "لا تكلّف ولا بروتوكول". تخبر: "اذكر جيدا كيف ادخلنا امامه واحاطنا بمحبة لافتة. ربما هي تفاصيل، لكن هذه الاشياء الصغيرة تكشف حقيقة الشخص. وجبران كان قلبه كالطفل، كأنه قادر على استيعاب الجميع".
وبين اجتماع واخر، كان جبران يخبر الاهالي بتفاصيل او ببعض المعلومات التي كانت تصله احيانا. تلفت عيد الى ان "تويني وبعد الاجتماع الاول معها، بدا اكثر قربا. بات ينادينا بالاسم، فيشعرنا ان قصة كل ام تخصه. كأن القضية شخصية. باختصار "لبس" القضية. وحده هو و(النائب) غسان مخيبر اشعرانا انهما ملتزمان ملفنا".
في احد الايام، اتصلت صونيا بتويني، وعلى رقمه الخاص الذي اعطاه لهن منذ الاجتماع الاول. اجابها مباشرة. ناداها باسمها. كانت تريد الاستفسار عن معلومات وصلتها عن جهاد، وارادت من جبران التأكد منها. توضح: "لم يهرب مرة. لم يرفض مواجهتنا. ما يميزه انه قريب من الشعب ومأساته. يفهم الناس ويتعاطف معهم. وهذا ما يجعله قريبا من كل واحد منا، ان كان شابا مقموعا او عجوزا مقهورا، او ابا يعاني او اماً تفتقد ابنها".
ارتاح الاهالي لحضور جبران. وفي غيابه... افتقروا الى "شخصية وقفت الى جانبهم"، وفق عيد، "في احلك الظروف وامرّها. في وقت كنا مهمشين من السلطة، كان الى جانبنا. يعطينا الامل. يفرّحنا بابتسامة دائمة وحضور قوي. الكل اعتقد ان الابن سيعود عن طريقه. هذا هو جبران بالنسبة الينا...".
حين تسأل صونيا عن 12 – 12 - 2005، تشعر ان قشعريرة اصابتها. لحظات وتبدو مثقلة بالحزن ... "يوم تعيس. كأننا فقدنا فردا من اسرتنا. احزن عندما تحاول فئة سياسية اختصار جبران لها وحدها. كان يخص لبنان، وبموته عمّم حزنا كبيرا".
وربما هو القدر ان تكون المطبعة في المنصورية والتي تضرّرت في انفجار تويني، تعود الى زوج عيد وسلفها. تقول: "تشاركنا بالحزن وبالاضرار... اتذكر كم كان هذا اليوم ثقيلا". وصونيا التي ترفض حتى اليوم تناول "الكفتة"، لشدة ما كان جهاد يحبها كانت ترى في جبران ابنها: "كنت اشاهد جهاد بحضوره... خسرنا كثيرا. كأن الحياة ضدنا. كلما لاح أمل جديد في ملفنا سرعان ما ينطفىء، وجبران كان سندنا".
دقائق، وتستسلم للدموع... ولا كلام.


يفيض حيوية
الى داخل مجلس النواب، حمل تويني همّ المعتقلين. تكلّم باسمهم. رفع صوته، رافضا ان يدفن جنود لبنانيون في حفرة على ارض ملعب. كان جبران دائم الحساسية على كل ما يمس الانسان. لم يبال بتوقيت او حساب. القضية اكبر، فكان ان وجه كتابه الشهير الى الرئيس بشار الاسد في 23 – 3 - 2000، وفي هذا المقال، كتب: "الناس يرفضون التوقيفات والموقوفين في سجون دمشق". بالطبع، لاقى المقال الكثير من الانتقادات، وبعضها من الذين يزايدون اليوم في ملف المعتقلين، فيما جبران لم يبال. استمر بالوتيرة نفسها وبالتعاطف عينه. كان دائم الاتصال بغازي عاد ليتابع التحركات، فالمعرفة بين عاد وتويني قديمة، تعود الى ايام الدراسة في الجامعة الاميركية.
يكشف عاد: "كنا زملاء في الجامعة نفسها، وانتمينا كمعظم القيادات المسيحية حينها الى الرابطة اللبنانية. كنا متحمسين لمبدأ الاستقلال والحرية".
مضت اعوام. سافر خلالها عاد الى اميركا. انقطعت العلاقة. قبل ان يلتقيا مجددا في قصر بعبدا في التسعينات، "كنا على المنابر معا من اجل التحرير والسيادة"، يكشف عاد.
كان على عاد وتويني ان يواجها مراحل القمع والتهديد خلال فترة الاحتلال السوري، فانتظرا حتى عام 1997 ليحققا معا اول تقارب جدي في مسألة المعتقلين.عامها، اجتمع عاد مع جبران في مكتب "النهار" في الاشرفية. كانا ينويان التحضير لقداس على نية شهداء الحرب، وكانت "النهار" الداعم الوحيد. بعدها، استمرت العلاقة وتوحدت الجهود حول قضية المعتقلين، وكان اول قداس على نيتهم في مار روكز ترأسه الاباتي يوحنا سليم.
في تلك المناسبة، يذكر عاد كيف ان الاباتي سليم افرغ لتويني مكانا اماميا، فرفض مجيبا: "سأجلس الى جانب غازي. هنا القضية". بعدها، توطدت العلاقة، وكانا يتبادلان المعلومات وينسقان التحركات. ويشير عاد الى ان "تويني كان يؤدي دور الوسيط بين لقاء قرنة شهوان واهالي المعتقلين لعقد اجتماع بين الطرفين وبلورة آلية للتحرك، لكن اللقاء لم يتحقق".
"اللافت في شخصية تويني انه يشعرك دائما انك مقصر، مهما فعلت، لشدة ما كان يفيض حيوية واندفاعا". انطباع تركه جبران عند عارفيه، ومنهم عاد... ورحل مع مجموعة صور وذكريات.
لحظات وتفاجئك خلالها نور حنا بالعديد من الصور التي التقطتها بنفسها وهي تحتفظ بها في حقيبتها. تلك الصور تجمع جبران وبعض الامهات في الخيمة: "كان حاسس فينا". هكذا توجز حنا جبران تويني.
هذه السيدة فقدت سلفها جورج منذ 1985، وتأكدت انه في سوريا. ومنذ اكثر من ربع قرن وهي تطرق الابواب، علّ من يجيبها. لا تنسى نور وجه تويني الضاحك، وان كان اجتماعها الاول به يعود فقط الى 2000.


"لا أجاملكم"
تذكر حنا ان تويني قال لها: "جريدتي لكم. انا لا اجاملكم، ولن اتخلى عنكم. سنعمل معا من اجل القضية نفسها".
كان جبران يكتب "بشراسة". يحاور بجرأة. ويخطب بلغة مباشرة لا تعرف المواربة. في 31 – 3 - 2005، كتب: "هل نذكّره (الرئيس بشار الاسد) "بالدور الايجابي والبنّاء" لكل مراكز مخابراته بدءا بالبوريفاج مرورا بالشمال والجبل وصولا الى عنجر؟ هل نذكره بعدد اللبنانيين الابرياء الذين اعتقلوا في الليل والنهار وسجنوا في الاقبية وخضعوا لابشع انواع التعذيب؟ هل نذكره بالمعتقلين اللبنانيين في السجون السورية؟(...)".
بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري، تكثفت اللقاءات بين تويني وعدد من اهالي المعتقلين. توضح حنا: "كان يزيدنا قوة. حينها، شعرنا ان ثمة خرقا مهما قد يحصل في قضيتنا وان الاقتراب من الحل بات محتوماً. كنا نتصل به مباشرة ونتفق على الخطوات وعقد الاجتماعات".
تصمت نور ثم تدلك الى رقم تويني الخاص. لا يزال مسجلا على دفترها، انما "من سيسمعنا اليوم؟". تسأل وتجيب نفسها بحزن: "اخر اجتماع معه كان في تشرين الثاني 2005، لم اكن اعرف ان شهرا واحدا سينهي حياته... لوهلة، فكرنا انه قتل بسببنا. هذا صعب جدا علينا".
اما ملف المعتقلين فترك بلا حل. يقول عاد: "قضيتنا خسرت كثيرا بموت جبران. فمن كثرة الظلم كان صوته يخرق السماء ويظل صوته عاليا في ملف المقابر والمعتقلين. هذا ما نفتقده اليوم في الاعلام والسياسة".
اليوم، يصعب توصيف شعور الاهالي. أهو المرارة ام النقمة؟ ام الحزن الدفين؟ جميعهم يرددون: "لا يزورنا احد". يسألون: "اين هم السياسيون؟ هم ليسوا احسن من الذين قتلوا. الى من نلجأ؟ هم يتحفوننا بالكلام الرنان، وهم قادرون على الفعل اكثر من جبران. اين هم؟ لا نرى وجوههم... اسلوب المعاملة مع جبران كان مختلفا تماما. لم يصدمنا مرة، وتعاطفه معنا لا يقدّر بشيء. بموته، لا تزال جريدته تصل الينا في الخيمة كما اراد هو. ربما هكذا يكون بيننا".
عادة لا يحفر الحزن الا مكانه. ويصعب على المرء ان يعيش حزن الاخر. انما المعادلة بين جبران تويني واهالي المعتقلين بدت مختلفة: هو عاش مرارتهم وهم يشعرون بالحرقة على غيابه... وربما قلّة سيفهمون كيف ان ام معتقل تشعر بحزن على مقتل جبران تويني... معادلة ستبقى نادرة.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم