الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

إنه ولد قبل لبنان الكبير

الدكتور داود الصايغ
A+ A-

لم يكن لبنان الذي ولد في وجدان سعيد عقل هو ذلك الذي خطط له مارك سايكس وجورج بيكو عام 1916، ولا ذاك الذي أعلنه الجنرال هنري غورو عام 1920. فهو ولد قبل هذين التاريخين، عام 1912 بالذات.


كان السلطان العثماني لا يزال على عرشه، وقيصر روسيا على عرشه، وامبراطور النمسا على عرشه. إنه شاهد تهاوي العروش وبقي عرش لبنان صامداً، لأن للبنان عرشاً عند سعيد عقل هو الصخرة المعلقة بالنجم، وهذه لا تتهاوى.
إنه سكن تلك الصخرة. ولكن ليس من الحلم وحده نسج سعيد عقل لبنانه. هذا فضله، هذا سره. على طول جيل من الزمن شاهد وحضر وعرف وشهد.
إنه تجول في التاريخ كأنه على مركبة سحرية. فلم ينزل منها يوماً. وضع نفسه حيث يجب أن يكون لبنان. ولبنان هو غير الواقع الذي تقلبت فيه أحوال الزمان، لمن أدرك كـُنـْه َ المسألة، لمن تمكن من اختراق الحجب على أنواعها، فاهتدى الى النور الذي يشع من تلك النجمة المعلقة في الأفق.
كلا، لم يبتعد سعيد عقل عن الواقع، ولا هو أراد أن يشيح بنظره عنه، بل إنه أراد دائماً أن يرشد الى المنبع الصحيح: انهلوا من هنا واغرفوا، فالماء غزير صاف، يغني عن كل السواقي.
كانت السواقي قد جرفت البعض في المسار اللبناني، في التفاتات البعض الى الخارج، في العواصف التي لم تهدأ، في الصراعات التي دارت حول لبنان وفيه، في أطماع الجيوش المتعاقبة والعواصم المتعاقبة التي أدارت وجهها صوب لبنان، في بعض الزمان ومدت ايديها العابثة إليه.
لم يكن ذلك من فعل الأقدار وحدها، على نحو ما يحاول الكثيرون أن يبرروه. هذا صحيح، فلبنان وجد على المفارق الخطرة كما كان يقول ميشال شيحا، ذاك الذي آمن بلبنان في مقاربة لعلها الترجمة السياسية لما آمن به سعيد عقل. إذ بين واضع الدستور ومنظـّر التجربة والشخص الذي جعل الصخرة موطنه، فارق في الدرجة وليس في النوعية.
إنه حاول الاقتراب حتى من الواقع السياسي عندما ترشح للانتخابات النيابية الفرعية في زحلة عام 1965. ولم يحالفه الحظ. فإغتاظ غسان تويني من بين من اغتاظوا، وعبـّر عن غضبه يومذاك في افتتاحية مشهورة. ومع ذلك لم يعتبر سعيد عقل أن الزحليين خذلوه. خذلته اللعبة التي لا يتقنها، ويتقنها في المقابل أولئك الذين لم يقرأوا بيتاً له كما قال صاحب "النهار"، وأكمل طريقه، بكمية الحب ذاتها التي حفظها في قلبه للزحليين.
ولكن مهما كبرت اللعبة بقي هو أكبر منها. جعل السياسة اللبنانية التقليدية في الحجم الذي يجب أن تكون فيه، فالمعارك التي يحبها هي من نوع آخر، كتلك التي وصفها لمعركة الأمير فخر الدين في عنجر في مهرجان شبلي ملاط عام 1961، يوم حسم أن لبنان لن يكون منتقماً.
طوال أكثر من ثمانين عاماً، بقي الرجل يضرب على الوتر ذاته، بألحان مختلفة. ولذا، فإن كلامه تجاوز الآذان لينخرط في الضمائر. ليس لبنان مشاعاً سائباً، ولا هو ساحة، ولا هو حلبة صراع لأحد ولا هو مرتهن لأحد. وإن خاض سعيد عقل في التاريخ السحيق، وتشدد في لبنانيته، فالجميع يسلمون بأنه أفصح من نظم في الفصحى والعربية مدينة له. فلم تكن محاولات التوفيق في الانتماءَات من المشاكل التي توقف عندها. لأن رؤيته للبنان هي أوسع من ذلك. هي رحابة وعطاء، حدودها الحرية، وهي بطبيعتها لا متناهية.
لذلك لا يمكن أيضاً أن يحاسب سعيد عقل على انتماء سياسي ما أو تبرم بممارسات معينة في سنوات الحروب، بالنسبة الى من وضع نفسه ووضعه الآخرون، في وضع المؤتمن على تلك الفكرة عن لبنان.
لبنان اليوم، الذي تشتد حوله الحرائق وتضربه عواصف المنطقة الهوجاء ليس خائفاً. لا يجب أن يكون خائفاً. وإلا، لماذا صمد. فشعبه كان ولا يزال قابلاً للائتلاف السريع، ومكوناته البشرية ملتقية حتماً، وهنالك اليوم من يمد يده الى الآخر بصراحة وصدق، لأن في ذلك مصلحة لبنان.
مصلحة لبنان هي المساحة القابلة للاتساع والاكتمال في وقت قريب. إذ لا يمكن من يرفضون الإنفصال بعضهم عن البعض سوى أن يلتقوا. إذا لم يكن اليوم فغداً. وإذا كانت الفرقة خياراً مرفوضاً لدى الجميع، فمن المفروض أن تصبح الطريق سالكة أمامهم.
لعل المصير المجهول للمنطقة يعيد البعض الى صوابهم. هذا بيتنا. هذا لبناننا. وقد آن الأوان لكي نحسن تسييجه ونحن نرى إنهيارات كيانات البعض. إنهم يذبحون الآخرين الذين لا يشبهونهم في المعتقد. ولبنان هو بلد الآخرين. فالآخر موجود دائماً في لبنان. إنه مثلي أقبله ويقبلني، أحترمه ويحترمني، أعيش معه في الوفاق والكرامة والإنفتاح والسلام، في تجربة تظهر يوماً بعد يوم حاجة الجميع إليها. فلبنان الصلابة هو هذا، أكثر من الحدود التي تحميه في علاقات الجوار، لأن الوفاق الداخلي هو الحدود الحقيقية التي تحمي لبنان من أطماع الآخرين وتهديداتهم. ومن كل تلك المحاولات التي جربوها لنقل الصراعات إلينا.
سعيد عقل أدرك تلك التجربة. ولعله وصل بها الى أبعد مدى ممكن حتى يصعب القول إنه يختصرها. وبما أنها عطاء، فالعطاء هو بلا حدود. ولكن ما ميزه طوال حياته أنه كان مرتفع الصوت بإستمرار. وحسناً فعلت السياسة أنها صدّته، وإلا لكان عليه أن يساوم. حسناً فعلت تجربته الانتخابية اليتيمة أنها أبعدته عن المقعد النيابي، وإلا لتحول الى نائب مثقف يغرد في غير سربه، بينما بقيت الآفاق مفتوحة كلها أمامه، يغرد كما يشاء، ويقول ما يشاء. ولكن مع تقديره المعلن دائماً للبنائين والذين أنجزوا، على صورة لبنان الذي أراده، من بشارة الخوري ورياض الصلح الى فؤاد شهاب ورفيق الحريري.
هل جاءت ساعة الحقيقة مع انطفاء الصوت، وهل انطفأ الصوت فعلاً؟ ماذا أراد سعيد عقل أن يقول للبنانيين طوال ثمانية عقود غير ردع الخوف والتطلع الى الأمام. فالوطن قوي، والنفوس يجب أن تكون على صورته. والغد هو القبلة الدائمة، كما يليق بأبناء الحياة. "لا تخافوا" قال البابا يوحنا بولس الثاني في تشرين الأول 1978 للحشود المحتشدة في ساحة القديس بطرس. ومن بعد ذلك تغير العالم. سعيد عقل لم يرد أن يقول للبنانين غير هذا: "لا تخافوا".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم