الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

جولة في دهاليز الجهاد

يارا عرجة
A+ A-

رحل بن لادن. تقول إحدى الروايات إنّ جثّته موجودة اليوم في قاع المحيط. رحل بن لادن، فاعتقد الغرب أنّه قد دفن معه الإرهاب والتطرّف. رحل بن لادن، ولكن طيفه ما زال ينتقل من بلد إلى آخر، واهباً الإنسانيّة "ذريّته الصالحة" ومباركاً أعمالها الجهادية. ولدت "داعش" من رحم القاعدة، وهي اليوم تغرز جذورها بقوّة وإحكام في باطن الأرض، تهدد وتتوعّد، تقتل، تذبح، تحتل المدن وتزيل الحدود. تتداول وسائل الإعلام مؤخراً، بطولات الجهاديين الشبّان من دون أن تتطرّق إلى كواليس العمليات الجهادية وكيفيّة تحضير فرسانها إلى المعركة. فهل تساءلت يوماً عن السبب الذي يدفع بالشباب إلى الانضمام إلى صفوف "داعش" وأخواته؟ تكثر التوقعات عن مصير لبنان في عصر الإرهاب والتطرّف، فهل سيلتحق بقافلة الحركات الأصولية؟ ما هو موقف علماء الدين المسلمين من جرائم هذا التنظيم؟



المتطرّفون والجهاديون في صفوف "داعش" ومثيلاته
يتذرّعون بالدين ويستميلون الشباب، هكذا يتمكن الداعشيون من تأليف جيشهم وشنّ المعارك. فقد أوضحت بهاء يحيى وهي أستاذة علم النفس في كليّة الآداب في الجامعة اللبنانية ومعالجة نفسية لـ"النهار"، أنّه "يجب معرفة الجهة المتأثّرة بالتفكير الداعشي، وهي غالباً ما تضمّ شباناً صغار السنّ مهمّشين. فيتبيّن إن قمنا بدراسة حالتهم أنّ معظمهم يعانون من تسرّب مدرسي، لم يكملوا دراستهم، ارتكبوا جنحاً بسيطة، ليس لديهم انتماء لمهنة معيّنة أي إنهم يعانون من حالة بطالة ميؤوس منها، ويعانون من سوء توافق اجتماعي. فيأتي بالتالي من يدغدغ غرائزهم، فيصبح الدين غريزة تسيّر الإنسان. كما، ويعتبر الدين بالنسبة إلى هؤلاء بمثابة ملجأ، خصوصاً أنهم ينتمون إلى مرحلة المراهقة التي يسود فيها الضياع، فيلجأون، إذاً، إلى الدين للحماية من هذه التغيّرات التي تطرأ على حياتهم وأجسامهم، إذ يعتبر من السهل استخدام هذه الفئة. فيعمل الزعيم الجهادي على الوتر الديني، لأنه يحمي من يعانون من تزعزع في بناء الشخصية، فلم تتكون بعد هويتهم، ويكون لديهم قالب شخصية غير مكتمل، فيستغل الدين في مرحلة المراهقة. أمّا بالنسبة إلى الجهاديين الذين لا ينتمون إلى الدين الإسلامي ويحاربون في صفوف "داعش" ويأتون من أوروبا وهم الأقليّة، تتمحور خصائصهم الاجتماعية والنفسية حول التهميش وضعف الشخصية. في هذه الحالة، يجب البحث عن السبب، إذ قد تكون الأسرة، المسيرة التعليمية، أو الصورة الدنيوية التي كوّنها الفرد عن نفسه، فيبحث تالياً عن شيء غريب ليلفت النظر به، فيحارب إذاً في صفوف "داعش". ويعاني هؤلاء من قلّة ثقة بالذات، وليس لديهم اكتمال في نضوج الشخصية. فلا يحترمون السلطة الأسرية ولا حتى المؤسسات في بلادهم. بينما يشعرهم الزعماء بفائدتهم كقولهم "عندما تستشهد ستدخل الجنّة وستكسب رضى الله". أمّا بالنسبة إلى الإقدام بسهولة على الانتحار، يشاع أّنه يتم تناول الحبوب المخدّرة التي تجعل الفرد مسيّراً، فينفّذ ما يطلب منه من دون اعتراض. ومن السهل استعمال هذا الأسلوب مع المراهقين الذين ينشؤون في بيئات غير حاضنة عاطفياً (غياب الإشباع الأسري العاطفي)".


وتعتقد يحيى أنّه "ما وراء الكلام، هناك تأييد لهذه الفئة من منطلق سياسي وذلك بحسب انتماء الفرد السياسي. إلاّ أنّ لبنان بلد منفتح على الأديان وهذا ما سيحمينا من التطرّف. فالخلافات السياسية هي التي تشجّع أكثر من الانتماء الديني أو المذهبي على ذلك. أمّا بالنسبة إلى الحلول، فيجب أوّلاً على صعيد الدولة، بناء دولة ومؤسسات دستوريّة عاملة، كما يجب اتّباع سياسة إعلاميّة موحدة يكون فيها إشراف ورقابة على الإعلام. كما يقع دوراً هاماً على عاتق الأسرة، إذ يجب تربية الأولاد على مبادئ وقيم كالانفتاح على الآخر، عدم التعصب، توفير فرص عمل لأنّ الانحراف ينجم عن يأس. فيجب احترام السلطات، لأنّ ذلك يساعدنا على احترام الأنا، فلا أقدّم نفسي ضحية للآخرين".


أمّا بالنسبة إلى زينة زيربه، وهي اختصاصية في علم النفس العيادي ومعالجة نفسية، فهي توضح لـ "النهار"، أنّ "هناك فئتين من الأشخاص قد يستميلهما الإرهاب والتطرف:



• تتكوّن الفئة الأولى من الشعوب المحليّة في بلد معيّن، وهي ضعيفة اجتماعياً، ثقافياً، واقتصادياً. تعاني من الجهل، الفقر وتعيش في مجتمع لا مكان لحقوق الإنسان فيه. وتكون هذه الفئة محرومة من التعليم المدرسي والجامعي، وتعاني من الكثير من الانتهاكات والاعتداءات بحقها ما يولد عندها حاجة إلى الثأر من وضعها. وفي حالة العوز المتعددة الوجوه هذه، يبحث الفرد خصوصاً عن شخصية الأبّ التي يجدها في الزعيم الجهادي. ففي مرحلة المراهقة، يكون الشاب مندفعاً كثيراً لدرجة يطغى فيها اندفاعه على عقله، وفي حال كانت صورة العائلة لديه متفككة ومشتتة وأسهها مهتزّة، يلتحق بالمنظمات الجهادية، خصوصاً أنّ الوعد بالقوّة والسلطة يصبح حقيقة بفضل المال والسيطرة على الأراضي. فسلطة هذه المنظمات الجهادية المتطرفة معنوية وواقعية بالسلاح، تمارس سلطتها وتطرّفها على كلّ من يخالف عقيدتها وأحكامها. هم يرتكبون هذه الجرائم ليسترجعوا السلطة التي كانت بين أيدي الغرب الممثل بالاعتدال، ليسترجعوا حقّهم السلطوي من المنظمات المستضعفة اليوم والتي تتمثّل بالثقافة الغربية.



• تشمل الفئة الثانية الأفراد الوافدين من المجتمع الغربي الذين تطوعوا للجهاد على رغم ممانعة أهلهم ودولهم. يعاني شباب هذه الفئة من تفكك في العائلة وتفكك في الهوية، إذ أصبحت الهوية الوطنية ضائعة في مجتمعات مكوّنة من إتنيات عدة، يضمحل فيها مفهوم الهوية الفردية والوطنية. هذا ما يزيد، إذاً، من الرغبة لديهم في الانضمام إلى الجهاد، لتحقيق العدالة وردّ الاعتبار للشعوب المقموعة من الأنظمة القمعية الديكتاتورية. كما ويكون انضمامهم للمنظمات الجهادية ردّة فعل لاضطرار أهلهم التخلي عن ثقافتهم ونفيها للانضمام والاندماج في المجتمع الغربي".



وعن طريقة القتل، توضح زيربه أن "هناك نوعاً من السادية وبرودة الأعصاب في القتل مكلّل باللذة. إلاّ أنّ في ردّ على سؤالنا في ما يتعلق عن احتمال شعورهم بالذنب، تشير زيربه إلى أنه "استناداً إلى خبرتي مع المحاربين السابقين في الحرب الأهلية اللبنانية، تظهر "صحوة الضمير" والآلام النفسية بالنسبة إلى الأعمال التي ارتكبت بعد فترة من انتهاء الحرب، وتغلّف بالإدمان على الكحول مثلاً". وتؤكد أنّ الزعيم الجهادي هدفه عقيدته. كما تعتقد أنّ هاتين البربرية والهمجية ستزدادان مع الوقت نتيجة السياسات الخارجية. فالمشكلة مع الغرب هي أنه يهدف إلى الهيمنة على الشرق وفرض سيطرته لأهداف اقتصادية وسياسية، فيعيد هذا الأمر إلى الأذهان صورة الاستعمار الغربي أو الحملات الصليبة وخصوصاً عند المسلمين منهم، فيرون في ذلك تهديداً للهوية الاجتماعية والثقافية. فولد الجهاد كردّة فعل على التهديد، والأشخاص الذين يلتحقون بالمنظمات الجهادية يعانون من الكبت والتعاسة". لحماية الشبّان الذين لديهم استعداد للجهاد، تقول زينة زيربه أنّ "العلم هو السلاح الذي يحدّ من انضمام الشبّان إلى الحركات الأصولية، هذا فضلاً عن الأنشطة الثقافية والموسيقية والرياضية، تدعيم المهارات الشخصية وإعطاء ثقة بإمكانات المستقبل، كما أنه يجب مساعدة المجموعات المعرضة إلى حلقات نقاش والمتابعة النفسية الفردية إذا احتاج الأمر."



هل لبنان بيئة حاضنة للتطرّف؟
تتخوّف الأغلبية اللبنانيّة من انتشار التطرّف وبسط سلتطه في جميع أنحاء المناطق وسيطرته على عقول البعض. فتقول سلوى إنه على الرغم من عيشنا في بلد متنوّع، التطرّف يظهر بوضوح، فكلّ منّا متمسّك بدينه ومذهبه، الذي يعتبره بمثابة حصانة له تجاه الآخر المختلف، وذلك موجود في كلّ مكان. أمّا بالنسبة إلى كلودا، فالتطرّف ينشأ في بعض الأماكن اللبنانية وليس كلّها، لا سيّما في تلك التي ينتشر فيها الفقر والجهل اللذان يجعلان الفرد عبداً لتلك الأفكار المتطرّفة والأصولية. وفي هذا السياق، أوضح ساري حنفي، أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة الأميركية لـ"النهار"، أنّ "الأشخاص الذين يلتحقون بالجهاد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد. هي إذاً ظاهرة قليلة جداً، ولا يمكن حتى تسميتها بالظاهرة لأنها موجودة في كلّ المجتمعات. فإنّ منطق العنف لدى هؤلاء الأشخاص يجعلهم يتقبّلون فكرة رمي القنابل على المدنيين والتعدي على الآخرين. وفي منطقتنا هذه العنف ينجم عن الأنظمة القمعية، كالنظام السوري الذي يثير ردّة فعل عكسية تجد مبرراً لها في إيديولوجيات معيّنة أو في الأديان. ولمعرفة ما إن كان هذا العنف الموجود في المنطقة منذ نحو نصف قرن، له مكان في مجتمعاتنا، يجب دراسة العنف وردود الفعل الناجمة عنه. فالعنف سيظلّ موجوداً في حال لم يتمّ إيجاد حلّ سياسي للأنظمة القمعية. لذلك المطلوب من جميع العقلاء من رجال الدين أن ينتبهوا إلى خطاباتهم وأحاديثهم كي لا يصبح هناك خلع للإنسانية، أي النظر إلى الآخر على أنه غير إنسان، إذ يجب المحافظة على قواعد أخلاقية في المعركة، وتقبّل الآخر واحترامه".


أين المشايخ من كلّ هذه الجرائم التي ترتكب باسم الإسلام؟
يقترف اليوم البغدادي وتنظيمه العديد من جرائم القتل والذبح والسبي والاغتصاب باسم الإسلام، فشوّهوا صورة الإسلام ووسموه بـ "التطرّف". يدرك الجميع أنّ هذه ليست حقيقة الإسلام ولكنّهم بحاجة إلى إشارة، إلى كلمة تطمئنهم وتثبت لهم أنّ الإسلام دين المحبّة والسلام. وفي حديث لـ "النهار"، أوضح سماحة الشيخ القاضي زكريا غندور أنّ الجهاد في الإسلام نوعان: "الجهاد الأصغر وهو يعني رفع الظلم ومقاتلة من يحارب القيم والأخلاق والدين بالعدل. والجهاد الأكبر، وهو إصلاح النفوس وإقامتها على نهج الأنبياء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة الجميع إلى طريق الحق، وهذا ما قام به جميع الانبياء من سيّدنا آدم إلى خاتم الأنبياء محمّد. فدعوتهم واحدة ودينهم واحد: جميع الأنبياء إخوة، أبناء علاّت، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحد. وإنّ هذا الجهاد يعني تقويم الإنسان وإقامته على النهج القويم الذي استودعنا الله إيّاه. فلا تمايز بين البشر عند الله إلاّ بالتقوى. الجهاد يعني محاربة الظلم، فعن حديث لرسول الله علية الصلاة والسلام " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال: رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصر". مبادئ القيم هي، إذاً، لحفظ الإنسان. إنّما ما نعيشه اليوم من نظام العشائر والقبائل يعني النصرة الظالمة التي لا تقوم على إحقاق الحق ونصرة المظلوم، بل هي نصرة للظالم. فهذا ليس ديناً وليس إسلاماً، لأنّ الدين عامّة بعث لسعادة البشر. فيروي النبي أنّ امرأة دخلت النار لأنها حبست هرّة ومنعتها من الأكل والشرب، فكيف بمن قتل البشر والاطفال والنساء والأبرياء؟ إنّ جهاد التطرّف جهاد ضياع يقوم به أناس لا يميّزون ما يفعلون. فهم بحاجة ليستتروا أمام الناس، فيقولون إنهم مسلمون. لكنّهم لو عرفوا الدين لكانوا أرقى الشعوب إلاّ أنّهم قد هجروه. نحن بحاجة اليوم إلى إعادة تقويم: أين نحن؟ ما هي النتيجة؟ نحن في غاب كبير يأكل الأكبر الحمل ويعتدي على الآخرين. يتحكّم البغدادي بالناس، ويوهمهم أنّ مفتاح الجنّة بأيديه إنّما مفاتيح الجنّة ليست سوى بأيدي الله تعالى. فإذا ما تحقق الدين في حياة المسلم خلقاً وعقيدة والتزاماً، لا يكون الفرد مسلماً وفقاً للحديث " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلّي ولكنّ الإيمان ما ورد في القلب وصدّقه العمل".



القاعدة، النصرة، "داعش"، تسميات مختلفة ولكن في عباءة واحدة: الإرهاب. هي منظمات إرهابية تتلطى وراء ستار الدين وتأخذه رهينة، تقتل باسم الله خدمة لمآربها وأهدافها المنحرفة، أما آن الأوان لنتوحد جميعاً باسم الإنسانية والمواطنة للقضاء على هذه الظواهر الشاذة والتطلع إلى مستقبل زاهر وحياة يعمّ فيها الأمن والسلام.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم