الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"كنت ألعب وفجأة خسرت يدي"

المصدر: "النهار"
فيفيان عقيقي
A+ A-

"كنت بالمدرسة، كنت ألعب، كنّا مرتاحين، لحدّ ما بلشت الحوادث بسوريا، تهجّرنا وخسرنا بيتنا، واضطررنا على المجيء إلى لبنان". هكذا يستهلّ يوسف ابن العشرة أعوام سرد قصّته، التي تتشابه وقصص أولاد كثيرين، كبروا باكرًا، تعرّفوا إلى قساوة الحياة وعودهم ما زال طريًّا، عايشوا ظلمًا قضى على أحلامهم الورديّة. أطفال يبحثون عن طفولة وهم في سنّها.


هرب يوسف مع أهله من سوريا إلى لبنان، استقروا في ضواحي بيروت، في صبرا تحديدًا. صبرا التي فقدت صبغتها اللبنانيّة وباتت أشبه بموقع عالمي، يضمّ اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والعراقيين والأردنيين والمصريين والبنغلادشيين وغيرهم. أشخاص من كلّ الجنسيات وحّدهم الفقر بعدما تحاملت عليهم الحياة. جمعهم قدر لا يعرف التمييز، ولا تهمّه الجنسيّات والأعراق، ولا يدري ما هي العنصريّة، ليس لإنسانيّته العالية بل لقساوته المفرطة.


من اللعب إلى العمل
يروي يوسف الذي يحلم بطفولة سرقت منه، كيف يعيش في صبرا، وكيف تبدّلت حياته، ويقول: "كنت ألعب وأدرس وفجأة وجدت نفسي مسؤولًا عن أهلي، مجبرًا على العمل لأعيلهم. والدي كبير في السنّ ووالدتي مريضة. جرّبت أعمالًا كثيرة، عملت فترة في أحد المطاعم، ثمّ انتقلت للعمل في ملحمة".
هناك في تلك الملحمة المشؤومة، أصابت يدَ يوسف سكين، وهو يلبي طلبات الزبائن الكثيرة، إصابة أتت على أعصاب يده. ويتابع: "أصبت يدي بالسكين وأنا أقطع اللحمة، ونتيجة لذلك فقدت إصبعي، واضطررت لترك العمل لفترة، ولكنها لم تكن كافية لشفائي، فما زلت أعاني منها، الالتهابات امتدت إلى كامل يدي، وسبّبت لي أوجاعًا مؤلمة".


أريد طفولتي
خلال هذه الفترة، أحبّ يوسف المشاركة في النشاطات الترفيهيّة والتعليميّة التي يقوم بها مركز "دار الأمل" في صبرا لجذب الأطفال بهدف مساعدتهم، فحنينه إلى طفولته الضائعة لم يفارقه يومًا. هناك يلعب ويرسم، ويتعرّف إلى حقوقه التي لم يدركها يومًا، تلك الساعات القليلة التي يقضيها في المركز تعيد له القليل ممّا حُرم منه. عن تلك اللحظات التي يقضيها يقول: "لا أحبّ العمل ولكني مضطر، فأهلي لا يستطيعون ذلك. أنزعج وأحزن عندما الأولاد يلعبون فيما أعمل. أحبّ اللعب. أحبّ العلم. أريد أن أعيش بسلام وأمان. أريد حقوقي. أريد عائلة تحميني. أريد أن أعيش مثل كلّ الأولاد".


أنا من مسؤوليتكم
اليوم، يقسم يوسف وقته بين بيع الخضار على بسطة، وبين قضاء الوقت في المركز للرسم واللعب، ولكن كلمته الأخيرة كانت الأكثر تعبيرًا، كلمة تهزّ الضمائر وتبكي العيون. ضمائر ماتت لدى نظام ظالم وقاهر، ومعارضة متوحشّة مستفرسة، ضمائر ماتت أمام جشع دنيوي يدفع ثمنه الصغار، ضمائر استبدلت بمصالح وغايات. كلمة أخيرة قالها يوسف قبل أن يمضي إلى عمله: "أنا طفل، أنتو مسؤولين عني مش أنا مسؤول عنكم".


الاتجار بالأطفال
في هذا السياق تشرح المسؤولة عن الإعلام والمناصرة في "دار الأمل"، تريز رومية، لـ"النهار"، ما هو الاتجار بالطفل، وما هي أشكاله، وتداعياته على الطفل. وتقول: "الطفل معرّض لشتى أنواع الاستغلال. عندما يستغل مقابل المال، نضع حالته تحت خانة الاتجار بالطفل، وعندما يعمل من دون مقابل مادي توضع حالته تحت خانة العنف ضدّ الطفل. الاتجار لا يختلف عن العنف، فكلاهما جريمة بحقّ الطفل، وانتهاك لحقوقه، ويحملان تداعيات على صحّته النفسيّة والجسديّة. فالوالد الذي يتحرّش بطفله أو يعنّفه أو يزوّج ابنته القاصر، لا يختلف عن الوالد الذي يدفع طفله للعمل في الدعارة أو يجبره على العمل أو التسوّل".


وتتنوّع أشكال الاتجار بالأطفال، ليشكّل كلّ منها جريمة بحدّ ذاتها تنتهك الطفولة البريئة، وتقول رومية: "من خلال علمنا الميداني، واجهنا أشكالًا منوّعة من الاتجار بالأطفال. فما يميّزنا في "دار الأمل" عن غيرنا من الجمعيّات، أننا نعمل ميدانيًا مع حالات منوّعة ونحتكّ بهم، كما أنّنا نقوم بمناصرة هذه القضايا في كلّ الوسائل المتاحة لتحصيل حقوقهم والدفاع عنها. أمّا أشكال الاتجار بالأطفال فهي التسوّل، والدعارة، والعمالة القسريّة والعمالة المنزليّة، الاتجار بالأعضاء، الاستغلال الجنسي أو بيع صورهم أو أشرطة لهم، تجنيد الأطفال لاستخدامهم في النزاعات المسلّحة، وزواج القاصرات بغرض الانتفاع المادي".


إهمال رسمي
اللافت أن المشترع اللبناني يعاقب على جريمة الاتجار بالبشر في شكلٍ عام من خلال القانون رقم 164 الصادر عام 2011، لكن الواقع يشهد على تزايد هذه الجرائم، وهو ما تشرحه رومية بالقول: "القانون اللبناني يعاقب على هذه الجريمة، لكن المشكلة تكمن في عدم تطبيق القانون، وعدم وجود آلية لتطبيقه، وعدم ملاحقة المرتكب، وعدم حماية الأطفال وتوفير الحماية لهم قبل التعرّض للاتجار وبعده، فالتعاطي مع الطفل مختلف عن التعاطي مع الراشد، إنه أكثر حساسيّة ويلزم وجود آلية واضحة لمتابعة حالته على كل الصعد. مثلًا يقف الدركي متفرّجًا أمام طفل يتسوّل في الشارع، تكثر عصابات التسوّل من دون حسيب ورقيب. تعتمد الدولة على المأوي التابعة للجمعيّات الخيريّة بدل بناء وتجهيز مآوٍ رسميّة، وتكثر الأمثلة...".


طفل اليوم مجرم المستقبل
نتيجة هذه الانتهاكات، تكثر التداعيات النفسيّة والصحيّة على الطفل، وهو ما تشرحه الاختصاصيّة الاجتماعيّة ومسؤولة مركز صبرا في "دار الأمل"، نهاد بستاني، لـ"النهار": "هذه الانتهاكات تجعل الطفل مستسلمًا ومنكسرًا وانطوائيًا. تدفعه إلى العنف والجريمة. تحوّله إلى منحرف يمارس السرقة والاعتداء. تدفعه نحو المخدّرات والكحول للهروب من واقعه. تعرّضه للأضرار الجسديّة والأمراض والتحرّش الجنسي ما يجعله مشروع متحرّش للانتقام. تحرمه من العلم. تسقط لديه مفاهيم القيم الإنسانيّة والعدالة الاجتماعيّة".


وفي هذا السياق، تقوم الدار بعدد من النشاطات للحدّ من هذه الظاهرة والتوعية حولها، وكانت البداية مع تضافر عمل جمعيّات عدّة لتغطية أكبر قدر من الحالات في مناطق منوّعة تشكّل بؤرًا حاضنة للاتجار بالأطفال، وتقول بستاني: "لدينا مجموعة من البرامج التي تساعد وتساند الطفل على كلّ الأصعدة. نوعّي الطفل حول حقوقه وأشكال الاستغلال التي قد يتعرّض لها، ونعرّفه إلى القوانين التي تحميه منها، وذلك عبر برامج محو الأمية، والحماية الذاتيّة، والتعامل مع الأزمات، إضافة إلى مجموعة من النشاطات التربويّة والترفيهيّة، والمساندة الصحيّة والقانونيّة والتربويّة. وفي المقلب الآخر نقوم بحملات توعية للأمّهات المسؤولات المباشرات عن حماية أولادهن من هذه الانتهاكات".


وما زلنا نسأل من أين ولدت ثقافة النحر؟
أطفال اليوم هم رجال المستقبل، والعلم في الصغر كالنقش في الحجر؛ فإذا تربّى الطفل في بيئة سليمة وصحيّة كان نموذجًا لمواطن صالح في المستقبل، أما إذا تربّى على العنف تحوّل إلى إرهابي مستقبلًا، وإذا تعرّض للتحرش بات مشروع متحرّش، وإذا نما متسوّلًا جنح لاحقًا نحو الجريمة والسرقة والاعتداء على الآخرين، وإذا كبرت أميّة ستمتهن الدعارة. فهذه البؤر الغائبة عن اهتمام الدولة وعنايتها هي سبب تنامي الجريمة والإرهاب والانحراف. وما زلنا نسأل من أين ولدت ثقافة النحر؟ وما زلنا نلوم الغرب على تصدير الانحراف؟


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم