السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

قبل أن ينقشع غبار المعارك

الدكتور داود الصايغ
A+ A-

إذا كان لبنان لا يزال بمنأى نسبي عن الحرائق التي تلتهم المنطقة، فذلك لأنه لا يمكن أحداً أن يأخذه إلى المكان الذي لا يأتلف مع طبيعته.


وطبيعة لبنان هي نقيض المغامرات، وتنفر من المغامرين. وهذا ما يدركه الجميع، بمن فيهم أولئك الذين إرتبطوا بمحاور خارجية، او الذين رفعوا أعلام المنظمات التي يحاربها اليوم العالم كله.
وإذا كان لبنان قلقاً مما يجري حوله حالياً ، وهو من الخطورة بحيث أنه يهدد مصير بعض الكيانات الأساسية في المنطقة، فان الحديث عن تغيير مصيري لا يتلاءم مع مسيرة لبنان ككيان منذ ما يقرب من مئة عام. وفي هذا الصدد، وعلى رغم أن لبنان ينتمي إلى المنطقة المشتعلة بالحروب حالياً، فان ظروفه كانت ولا تزال وستبقى مختلفة عن ظروف الآخرين.
فالتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة يعلن أن الحرب على الإرهاب هي طويلة. وكمثل كل الحروب تُعرف فيها البداية ولا تعرف النهاية. وهذا ما جعل الغرب، أمس واليوم، يتمهل في إتخاذ القرارات العسكرية، وبعدما شاهدت العواصم الكبرى إلى أين آلت إليه الأوضاع في العراق نفسه، بعد عام 2003 وبعد أفغانستان، وما حلّ بليبيا إثر إسقاط النظام فيها عام 2011. وذلك بالإضافة إلى الأثمان التي ستدفع، والأثمان التي ستقبض من جراء حروب كهذه. فكما أنه ليست هناك حروب نظيفة، فليس في الوقت ذاته من حروب مجانية، فالمنطقة معرّضة للتغيرات المختلفة، نتيجة لما يجري فيها اليوم. فالحروب الداخلية في سوريا والعراق أضيفت إليها حروب الغرب، بالقصف الجوي اليوم، وبوسائل غير معروفة غداً، والتي قد تؤدي إلى الإنزال البرّي، وهو ما يتحاشاه الرئيس الأميركي وسائر المسؤولين الغربيين. فالعواصف هي في أوجها، ولن ينقشع أي غبار في مدى منظور.
ولكن وإذا كان لبنان بمنأى عن التغيير المصيري، فليس ذلك لأن هناك من يحميه، وقد ثبت أن الحمايات باتت لها حسابات مختلفة عن السابق، بل لأن له من تاريخه وتطور نشأته ومرتكزات وجوده ما يقود إلى اقتناع واحد أساسي هو أنه ليس هناك من بديل من كيانه القائم. فهو خارج أوهام البعض في إتفاق سايكس - بيكو لعام 1916، لأن ذلك الاتفاق لم ينشئه ككيان، وإن يكن جعله من مناطق النفوذ الفرنسي. لذلك لا يمكن أن يكون هنالك بديل من كيانه، وقت بدأت تظهر فيه بدائل عن الأوضاع التي كانت قائمة في كل من العراق وسوريا، في وقائع الأحداث وتطوراتها حالياً، والتي تجعل العديد من أصحاب الرأي المراقب، غرباً وشرقاً، يجمعون على القول إنه بات من الصعوبة بمكان أن تعود سوريا والعراق إلى ما كانتا عليه.
فهل إذا تعرض الكيانان السوري والعراقي لتبدلات أساسية، ولو ضمن صيغ تحافظ على الشكل الوحدوي، يمكن أن ينعكس ذلك على لبنان؟ هذا هو السؤال الذي يثير قلق البعض، وبخاصة بعد نزوح قسم كبير من مسيحيي العراق وسوريا إلى الخارج، وتسهيل إستقبال الدول الغربية لهم.
في أذهان الكثيرين ولدى اللبنانيين بخاصة، جراء تراكم أحداث التاريخ وتجاربه، أن هناك دائماً من يُخطط في الخارج لما يجري، إلى حد أن البعض نسب تكوين "داعش" نفسه إلى الولايات المتحدة، وإتهام الغرب كله بتشجيع حركات الإرهاب.
ولم ينس الكثيرون بعد أن أحداث "الربيع العربي" نسبت إلى من خطط لها في الغرب، وإلى مقولتي "الشرق الأوسط الجديد" و"الفوضى الخلاّقة" على رغم أن واشنطن وباريس تحديداً فوجئتا وارتبكتا بما جرى. ففرنسا لم تعرف كيف تتعامل مع أحداث تونس يومذاك، وهي من أقرب بلدان المغرب العربي إليها، وواشنطن التي كانت مرتاحة إلى نظام حُسني مُبارك لم تتوقع ما جرى، فتعاطت مع نظام "الإخوان المسلمين" قبل أن يسقط.
فإذا كان الغرب قد خطط للثورات، فلماذا لم يُخطط لما بعدها؟ لماذا لم يخطط لما بعد معمّر القذافي، وللفوضى العارمة في بلد بات مجهول المصير؟ وهل هو خطط لمجيء الأخوان المسلمين في مصر، ثمّ لتظاهرة الثلاثين مليون نسمة التي أطاحتهم؟ وهل توقعت واشنطن، بلسان رئيسها عام 2012، أن يستمر بشار الأسد على رغم تجاوزه "الخط الأحمر" الذي رسمه له، فاستعمل الكيماوي وبقي من دون محاسبة؟ وقبله هل خطط جورج بوش الأبن عام 2003 لما سيجري في العراق؟
تلك هي وقائع حديثة ولا تزال معيشة تدل على أن العالم تغير. إنه لا يدور حول الشرق، شرقنا نحن. فحتى المصالح وهي التي تقود السياسات، فهي لم تعد كافية لوضع حد للحروب مثل حرب سوريا ولا لفرض الإستقرار أو الديموقراطية كما نادى بها بوش، مقدمة للتدخل الأميركي في العراق. إذ أن الديموقراطية التي لا يعرفها في الشرق العربي سوى لبنان، تبدو صعبة المنال في أبسط توصيف. إذ قد قضى في العراق ما يزيد عن 4500 جندي أميركي، فضلاً عن موازنات هائلة وعن ضحايا من مختلف الجنسيات الغربية في أفغانستان بلغ عددها نحو 3500 جندي، ومع ذلك لا العراق إستقرّ، ولا "طالبان" تلاشت، ولا الحرب في سوريا هدأت. فلقد أصبحت الوسائل الحربية، على تطورها الكبير أضعف من أن تحسم، وبخاصة في نزاعات معقّدة مثل نزاعات منطقة الشرق الأوسط، التي تختلط فيها الثروات بالثورات، والمذاهب بالأعراق، وذلك بالإضافة إلى النزاع المزمن مع إسرائيل، والذي يعتبر من المسببات الرئيسية للأوضاع التي آلت إليها المنطقة.
ولقد كان من جرّاء كل ذلك أن ضُربت العروبة نفسها، ولم يعد ذلك الرابط القومي جامعاً وحامياً، وهو الذي إزدهر في بيروت أولاً، وبعدها توصل إلى التمييز بين القومية العربية والإسلام، ونادى بالقومية العربية مسيحيون من لبنان بالذات.
كانت العروبة مظلة آمنة استظلها لبنان زمناً طويلاً. جاء "الأخوة" أحياناً بالصداقة والتعاطف، وأحياناً بالمطامع والسيطرة، واللبنانيون ميزوا ذلك جيداً واكتشفوا من هو الصادق ومن هو الزائف. أما الطوائف فهم أدرى الناس بها، وقد وجدوا الحلول الملائمة لوجودها معاً، حسبما قضت بذلك تحولات التاريخ لديهم وأدّت الى نشوء الكيان.
فإذا وقف لبنان اليوم على مشارف هذا المشهد العربي، وتجولت نظراته الثاقبة على ما حوله، فماذا يرى والى أين سيتطلع؟
أحداث المنطقة تدُل على أنه باتت هناك حدود وشروط للتدخلات الأجنبية، والغربية منها بخاصة. على رغم أن اللبنانيين، في تاريخهم المضطرب، مثلهم مثل الشعوب التي ظلمتها مقدرات الجغرافيا، وبخاصة الشعوب الصغيرة والمختلطة بشرياً، وجدوا أنفسهم أحياناً كثيرة وسط صراعات أكبر منهم، ولم يكن أمامهم سوى التطلع إلى الخارج.
ودخل الخارج هذا في ذاكرتهم المتراكمة التي تستيقظ إثر كل هزّة داخلية أو إقليمية، صوب فرنسا بالأمس، وصوب أميركا اليوم، وقد استجاب الأميركيون في إنزالهم البحري صيف عام 1958، بعد نحو قرن من إرسال نابوليون الثالث جيوشه الى جبل لبنان عام 1860، وقبل أن يأمر الجنرال شارل ديغول بوقف تسليم الزوارق الحربية الى إسرائيل إثر إعتدائها على مطار بيروت في نهاية عام 1968 وتدميرها الأسطول الجوي لطيران الشرق الأوسط. ثم في القوة المتعددة الجنسية عام 1982 التي دفع فيها الأميركيون والفرنسيون أثماناً باهظة.
فعلى طول التاريخ اللبناني، في ما قبل الإستقلال وبعده، كان هنالك من التفت الى الخارج في أوقات مختلفة واتجاهات مختلفة. في مشكلة حاول البعض الفصل في ما إذا كانت بنيوية أم ظرفية.
فاللبنانيون ساهموا ويساهمون في إبداعات العالم فهل يعقل أن ينتظروا من العالم أن يقرر عنهم؟ كأن التناقض هو صارخ بين الواقع الإنساني والواقع السياسي. فهل نحن مبدعون في الفكر والعلم ومتخلفون في السياسة؟
ولكن مهما يكن من أمر فإن المرجعية الخارجية ليست قدرا ً. لبنان، البلد ذو التكوين الفريد تلقى بُعيد إستقلاله تقلبات المنطقة كلها، ولم يرحمه الأقربون ولم يحترموا قاعدة جوهرية من قواعد تكوينه وهي إبعاده عن المحاور. خلافاته الداخلية هي عادية بمقياس الصراعات السياسية في الدول الأخرى، لو لم يؤخذ رهينة.
فلبنان الآخر رافض لذلك، الى حدود المطالبة بالحياد أو التحييد عن الصراعات التي شقت طريقها بقوة في الآونة الأخيرة. فالطريق لا تزال طويلة. والمنطقة كلها شديدة الإضطراب، ولكن لم يقل فيها كل شيء بعد. المهم أن يبقى لبنان كما هو، ليكون نموذج المجتمعات العربية التي ستخرج من المخاض الحالي، إذذاك يكون لبنان قد صدّر وجهه الحقيقي الى الخارج، بدل أن يستورد وجوه الآخرين.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم