الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

رنا الفليطي لن تنهار لئلا يُذبَح زوجها

المصدر: "النهار"
فاطمة عبدالله
A+ A-

هي عادة القلب، إذا احترق، أن يغالي في الانتفاض. تقول رنا الفليطي زوجة العريف المخطوف علي البزال أنّ السكين يكاد يحزّ الرقبة ومن أجل صدّه تستعدّ لأي شيء. ترسم للذعر صورة من إمكانٍ واستعداد، فالرأس موضوع الذبح زوجها وقد أصبح قضية رأي عام. الناطق في النفس آلامها، لا المرأة في ذاتها وهي توشك على فقدان العقل. في الفليطي ما يحرّكها، هو رعب الإعدام في لحظة، أو الذبح بفظاعة الفعل. لعلّه أيضاً حبُّ الزوج. يعني المرأة، أماً كانت أم زوجةً أم أختاً، أن تفعل الكثير من أجل من تحب، ولا تمسي في صفّ المُتفرِّج تترقّب جهوداً ملغومة. زوجة البزال، مدفوعة بعمق الصلة مع الزوج الى التحرّك، ليست تقوى على النوم، يُعذِّبها البُعد، ويُفجِعها الخطر جرّاء إمكان الموت. "النصرة" حين أعدمت محمد حمية، توعّدت بأن زوجها الضحية المقبلة، فإذا بالمشهد المرعب يهدٌّ الزوجة، حائلاً دون "عقلنة" الخطى، فإن تطلّب إنقاذه زيارة الإرهاب الخاطف ما توانت، وإن تطلّب قطع طريق، انتشلت من الأرض صخراً وراحت تطوّعه ليكون أداة احتجاج كأنه خفيف الوزن، أو أنّ وزنها صار بحِمل الجبال، مطلقةً صرخة المتلوِّع المقهور الطافح جرحه الى العلن، أشبه بكوابيس ظلّت تضجّ في الرأس حتى انهار وفقد الوعي حيال تصوُّرات الخارج.


دمعُ الفليطي في تحوّله "الرجولي" الى مشهد
تختنق الفليطي بينما تتحدّث، مقابلاتها التلفزيونية مبلولة بالدمع، يخرج من العين كأنه وخزُ إبر، يؤلم جداً. في زوجة البزال يكمن نقيضان، القوة وقد تتراءى عبر التحرّك الشارعي والخطاب السياسي الموجّه الى الحكومة والأمين العام لـ"حزب الله"، والوهن تمثّله كثافة الدمع واختناق الصوت في الحنجرة. دمعٌ هو حِممٌ ليس جوهره الملوحة بل الشوق، ينهمر برغم غشاوة العين وعجز العقل أمام الفظاعة المُتخيَّلة. الفليطي المضطلعة بـ"دور الرجل" في اقفال الطرق وطَرْق الأبواب سعياً الى روح الزوج تنقذها ورقبته تحول دون أن تُذبَح، هي، في لحظات الاختناق بالدمع، تحوِّله، هو الآخر الى فعل "رجولي". الدمعُ في حال الزوجة الجامعة في كلّيتها الهشاشة والقوّة، سلوكٌ بطولي يُفسِّر خفايا النفس من غير أن يسلب منها مزاياها الجبّارة. يرخي دمعها في المتلقي قسوة التحمُّل، فإن هي أطلقت العنان ليُذرَف على سجيّته، صَمَت الآخر، وأطرق يُفكِّر كم أنّ المُصاب من فصيل الجمر، يحلّ في الروح كاوياً ينهش.



عن الدواء المُهدِّئ أعصاباً تتفتّت
نخشى أننا ندّعي التماسك أمام فجوات النفوس المُتهالِكة، فيُفتَضح أمرنا عند أوّل غصّة. تتوقّف الفليطي عن الكلام، تاركة للدمع أن يُترجِم الآه، وله أحياناً أن تتملّكه رغبة في ألا يهدأ. ونخشى أيضاً سؤالاً عن رعب الساعات المقبلة، ونُفاجَأ إذ نتمادى برسم مشهد الموت أمامها، ووضعها أمام احتمال إعدام زوجها، بردّها أنّها تتمسّك بالأمل. يا للأمل وهو يغدو خديعة، تتشبّث به زوجة البزال، من أجله. "أقسى اللحظات هي حين نُسلَخ عن العالم. نمسي أمام خيارين: أن نتابع أو نُهزَم. من أجل علي وابنتنا مرام، سأتحرّك حتى تستيقظ الدولة. ينبغي أن أتحلّى بالقوة. ثمة لحظات ضعف. أستطيع القول إنها مُدمِّرة. لستُ أقوى على النوم. علي في أرجاء المنزل. في الصالون وكلّ زاوية. أتنفّسه. رائحته في الغياب تعذّبني كما لم يحدث أن أتعذّب". ليس أمام أعصابٍ مُهترئة إلا تسوّل الهدوء من الدواء. كلما تجد الفليطي أنها توشك على الانهيار، تبتلع حبّة.



الجرود والرواية الأخرى
يطرح سعي الفليطي خلف أثر زوجها استفهاماً عن كيفية توافر الظرف. تحجبُ معلوماتٍ عن آلية تحقُّق مقابلتها الجهة الخاطفة، وحصولها على "قرار إرجاء" تصفيته اسبوعاً. تربط التكتّم بظرف لقائها الخاطفين بالمحافظة على حياة زوجها والعسكريين، وتجنُّب تعرّضهم للخطر. ثمة مَن ينسج للفليطي علاقة بالجهات الخاطفة ويُخبرنا روايته. أحد أفراد زوجها يقول إنّ الزوجة تُنفِّذ أوامر جهات بذريعة الحرص على زوجها، ناصحاً بالكفّ عن تصويرها بطلة. هي سخرية الأقدار أنّ الفليطي من عرسال، فيشفع لها الانتماء المناطقي قليلاً. في عائلة زوجها مَن يمتعض معتبراً أن ما يأتي على لسانها يمثّلها. نسأله عن كيفية وصولها الى لقاء "النصرة"، فيقدِّم روايته: "انتماء أشقائها الى النصرة، سهّل وصولها الى مصطفى الحجيري، ومنه الى الجهة الخاطفة، إذا افترضنا أن عناصر الدرك ليسوا في الأصل داخل منزله". لم يلبث أن يَصدر بياناً عن وجهة النظر هذه، مفاده أنّ ما يأتي على لسانها من لوم لـ"حزب الله" أو انتقاد له، وما من شأنه أن يصوِّر الحزب متورّطاً في سفك الدماء، تحليلات فردية، وأنّ البزالية تقدّم الشهداء ولا تليق بها الأصوات المشاكسة. ننقل للفليطي الرواية منسوبة الى شائعات، ونسألها صلة بـ"النصرة"، وحقيقة أنّ كونها عرسالية يتوسّط لها مع مُرهبي زوجها. تجزم بنقض ما نرميه في وجهها، مستحضرةً المنطق، إذ تقول "كيف يكون أشقائي في النصرة، فيُخطَف زوجي؟ كيف سيسمحون لي يقطع الطرق والتنقّل بين وسائل الإعلام لإطلاق الصرخة؟". ما عادت تكترث لتُهم تُشكك بها. "هدفي إطلاق زوجي مهما كلّف الثمن".



مرام الطفلة في ذاكرة نازفة
إن نبشنا في الذاكرة، نجدها في البُعد تنزف، تتخبّط فيها الصور، وتكاد تتعارك. يجمع الفليطي وزوجها حبّ يبلغ عامه الخامس أو ما يزيد، وطفلة هي مرام الصغيرة ذات السنوات الثلاث، لا تنفكّ تنادي "بدي بابا". قال علي "انتظريني يا رنا، سأعود لنُدخِل مرام الى المدرسة". هي تعلّمها القراءة، ويعلّمها هو الكتابة، ويُسعدانها معاً. مرام حتى الآن لم تحجز مقعدها، بالُ أمّها أنّى الطريق الى فكّ أسر والدها. الوالدة في السادسة والعشرين، والوالد يكبرها بسنة واحدة، أحبّ أحدهما الآخر وتزوّجا يوم كانت الطائفية أقلّ حِملاً. الزوج المخطوف ينادي امرأة تائهة، يهمس لها أو يهزّ كيانها حين يحضر ساطعاً كأنه ماثل أمامها ولا ينقصه إلا احتضانها.



الجسد الباني لغته الخاصة
إننا إذ نتخذ من رنا الفليطي قضية، لا يعني أنّ سواها من زوجات وأمهات وشقيقات لا يتعذّبن أو أنّ عذابهنّ أقل. لا مفاضلة بين جرح وآخر، وما النماذج سوى أنها رسائل يمكن تعميمها. تستحيل الأرض تحت أقدام المُعرَّض حبيبه للذبح مسرحاً جمهوره أشباح مرعبة. تستجيب الفليطي لسلوك جسدي له لغته، يفقهها من يملك فكّ لغزها، وإلا اتُهِمت بالمغالاة وإدّعاء درامية الموقف بغية تحصيل غاية. الفليطي لها جسدٌ تطوّعه إسوةً بصرختها، فإن صوّرها الإعلام نادبة راثية، من غير أسباب موجبة، فذلك ليس توجّساً لخطر مُحتَمل، بل رفضاً. الجسد المُستبِق سوءاً قد يقع، يرفض أن نصِفَه بالوهن، أو نصبّه في إطار تكرار الحركة. نشاء فجراً بعد ليلٍ طالت ساعاته، فنبارك للفليطي وأهالي العسكريين المخطوفين عودة الأحباء، عوض مطاردتهم من شارع مقطوع الى خيمة ألم، نسألهم حالهم ونحن ندرك أنّ الكلام في أحيان لا ينفع.



[email protected]
Twitter: @abdallah_fatima


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم