الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

طرابلس: ملاحظات على "ورشة عمل"

طلال خواجة
A+ A-

مرة أخرى تتحرك العجلة السياسية من أجل إنماء طرابلس وإعادة تفعيل دورها الإقتصادي المتعثر، ويبدو أن تزاحما يحصل بين القوى السياسية الرئيسة في المدينة من أجل دغدغة مشاعر الطرابلسيين المتعطشين للإنماء بعد طول انتظار وبعد خطة أمنية هشة.


أُطلقت ورش عمل لـ"المستقبل" برعاية فؤاد السنيورة وأُطلق صندوق إستثمار "ثمار طرابلس" بـ25 مليون دولار لإقراض المشاريع من قبل نجيب الميقاتي، يعوض للمدينة عن حصتها الضعيفة في الصناديق اللبنانية، وبينهما كان إطلاق خطة تنمية من قبل البلدية للتبانة وبعل محسن والقبة بالتعاون مع US aid، أضيفت إلى خطة التنمية الإستراتيجية "الفيحاء 2020" والتي ما زالت مشاريعها تنتظر من يهجم لتنفيذها.
وكان الهجوم "المستقبلي" قد انطلق منذ بضعة أشهر في مؤتمر عقدته قوى 14 آذار لدعم قضايا الأمن والإنماء في المدينة. وأتى الحراك الذي سمي "ورشة العمل لابراز قدرات طرابلس" في ظرف سياسي وأمني مؤات نسبيا، خصوصاً أن المدينة تشهد هدوءا أمنيا بعد تشكيل حكومة ربط النزاع وتعبئة فراغ المرحلة الإنتقالية، والتي يعلم الله وحده إلى أين ستنقلنا بعد تحرك معظم الفوالق في المنطقة العائمة على النفط والغاز والتاريخ، وآخرها الفالق العراقي الذي لم يهدأ أصلاً، ولا ننسى طبعاً الفالق الدامي في فلسطين وغزاها الجريحة.
مهّد منظمو ورشة العمل بالبدء بتنفيذ مشروع تجميلي لشارع سوريا بهبة من الحريري، ورغم التأييد التلقائي لأية خطوة إنمائية وخصوصا في هذا الشارع ومن أي جهة أتت، فإن أحدا لا يظن أن مسكّن الأوجاع يشفي من مرض، خصوصاً إذا كان المرض مزمناً. فمنطقة التبانه وبعل محسن والمناطق والأسواق المحيطة بها هي مناطق منكوبة على كل المستويات ويتأرجح شبابها البائس والمحبط بين حدي التطرف والتفكك ما يحولهم فريسة للمتربصين شرا بالبلد والمدينة.
وبالعودة الى ورشة العمل، فقد بدأت كالعادة بإبراز الموقف السياسي لأصحاب الدعوة قبل أن تكر سبحة الطروحات من قبل المشاركين ومعظمهم من رؤساء الدوائر والمرافق الرئيسة في المدينة، فضلاً عن بعض الإختصاصيين. ورغم إلإيجابية الإجمالية للقاء كهذا ورمزية انعقاده في المبنى الزجاجي الجميل لنقابة المهندسين، فإننا نسجل الملاحظات التالية.
أولاً: طرابلس مدينة ذات تاريخ عريق، وهي وإن كانت مأزومة، فإنها تمتلك قدرات كامنة تهيئها، إذا ما أحسن استخدامها، لأدوار مهمة في مراحل الإعمار اللاحقة فيها وفي جوارها.
ثانيا: لقد بدت مساهات معظم المنتدين من مسؤولي المرافق والمؤسسات العامة أقرب إلى إظهار المعاناة من طرح رؤيا استراتيجية، تأخذ في الإعتبار المتغيرات الإقتصادية ودور المدينة اللاحق في المنطقة خصوصاً في الجوار الإقليمي وربما لا نستطيع لومهم كثيرا نظراً إلى معاناتهم من المركزية والتهميش وضيق الحال.
ثالثاً: لم تأخذ المنطقة الإقتصادية الخاصة، التي أصبحت لازمة كل مؤتمر ولقاء وورشة عمل، حظها في الشرح، خصوصا أن البعض يخلط بينها وبين المنطقة الحرة، وقد أقرت في البرلمان في اعقاب اتفاق الدوحة بالتوازي مع الموافقة على القرض الميسر من بنك التنمية الإسلامي لمباني الهندسة والفنون في المون ميشال، علما أن مجلس إدارتها لم يرَ النور حتى كتابة هذه السطور، مع أنه يعول عليها كأهم محفز اقتصادي للقطاع الخاص والإستثمارات الخارجية، حيث ستفتح آفاقاً لفرص عمل كثيرة ما أحوج الطرابلسيين اليها. كما أن مباني الهندسة والفنون لم تسلم بعد بسبب تعثر الشركة التركية الملتزمة ما يرفع منسوب الإحباط عند الطرابلسيين والشماليين عموما.
رابعا: شكل طرح الدكتور عبد المنعم يوسف رؤية استراتيجية اقتصادية جديدة تقوم على التكنولوجيا الناعمة soft technology مشيراً إلى حوافز تشجيعية كثيرة، أهمها وجود مخارج الألياف البحرية في طرابلس ورغبات شركات البرمجة بالإستفادة من "اتوستراد المعلومات" والإستثمار في المدينة إذا ما هُيِّئت البنية التحتية الملائمة، ما يعني الإنتقال إلى فيحاء جديدة تقوم على زراعة التكنولوجيا بالدرجة الأولى Sillicon gardens.
ويشكل وجود جامعات كثيرة في الجوار حوافز إضافية، خصوصا إذا ما جرى الإسراع في استكمال المدينة الجامعية وبناء مراكز الأبحاث والتكنولوجيا فيها. وهذا لا يعني بالطبع إغفال القدرات الصناعية والتجارية والسياحية للمدينة وأهمية وجود النفط والغاز في بحرها.
خامسا: لقد عبرت بعض مداخلات ناشطي المجتمع المدني عن ضيق الصدر، عاكسة حجم الإحباط من قلة المشاريع وسوء إدارتها وضعف الإدارة والإرادة السياسية عموما في المدينة. ولا أحد يلوم هؤلاء الناشطين على النفخ في اللبن بعد أن كواهم الحليب وترك ندوبا عميقة في ثقتهم ومقارباتهم، ولكن ليس في عزيمتهم. فقد طارت الجسور وخطط ومشاريع كثيرة.
ومع أننا نرى أنه من حق اي قوة سياسية، وربما من واجبها، إطلاق مشاريع تنموية حول قضايا المدينة، إلا أننا نلفت النظر الى النقاط التالية.
أ - في ظل الانقسامات السياسية والفئوية والمناطقية الحادة، تميل الجهات المنظمة عادة لإبراز الجانب الدعائي على الجانب العلمي ما يخفف من قيمة النتائج .
ب - مع شرعية إبراز جوانب عامة معينة، إلا أن النقاش العلمي والموضوعي لقضايا إنمائية بشقيها التقني والعملي يتطلب إختصاصيين طرحاً ومناقشة، ما يستدعي ضرورة تعيين الحدود الفاصلة بين السياسي والمدني والمهني، علما أن مستوى الإحباط وعدم الثقة يدفع البعض إلى تفضيل العمل الصامت والمترافق مع ورشة البدء بإزالة التعديات والتشويه من الشوارع والأرصفة والجدران ومن معظم العقول في الإدارات والبلديات.
ج - للمدينة ميزات تفاضلية تاريخية وتراثية خصوصا في الجانب المعماري سواء في وسطها ومحيطه وسواء في المدينة المملوكية وحول أبو علي، وأيضا في المرتفعات وفي الميناء طبعا، ما يعني أن إعادة المدينة الى الخريطة الإنمائية تتطلب وقف تدمير هذه الأماكن وتشويهها وترييفها. ويخطئ من يظن أنه يمكن إنعاشها دون عودة نبضاتها إلى الخفقان الطبيعي في الوسط ومحيطه.
د- بالنظر الى حجم الأزمة الإقتصادية واستطرداً الاجتماعية الخاصة في المدينة والتي تغذت من كل الأزمات، نرى ضرورة ابتداع وسائل التعاون بين جميع المكونات السياسية. ذلك أن قضية الإنماء في المدينة والشمال تتطلب إيجاد وتوسيع المساحة المشتركة بين الجميع.
هـ - بالنظر الى هشاشة الخطة الأمنية واستهداف المدينة الدائم بالتوقيفات الكيدية والعشوائية والتي تستحضر ردود أفعال غاضبة تطرح إشكالية الثقة بالمؤسسات التي لا خلاص من دونها، مع ما يرافق ذلك من رعاية لأعمال مشبوهة تسيء للمدينة، فإننا نرى ضرورة تعاون الجميع لصد هذه الإستهدافات، والتوقف عن ادارة هذه القضية الحساسة بالقطعة، فليس كل مرة تسلم الجرة رغم طابع المدينة الإعتدالي.
وبالعودة الى المسألة الإنمائية نرى أنه مهما حسنت النيات عند القوى السياسية المتبدلة، فيمكن أن تعوّقها الظروف والصراعات السياسية، خصوصاً أن هذه القوى تحكمها علاقات وشروط ومحاصصات فئوية ومذهبية بحكم تكوينها (ملف الجامعة على سبيل المثال)، ما يعني أنه على قوى المجتمع المدني الواسع، وخصوصا منوعاته العلمانية والديموقراطية وأصحاب السوابق اليسارية، أن تنتقل إلى المبادرة حيث يمكن، والتعاون الحذر ولكن البنّاء مع الفاعليات والقوى السياسية حيث يجب، وممارسة الضغوط الديموقراطية دائما من أجل الدفع قدما بالقضايا الإنمائية والإجتماعية والإقتصادية، وخصوصا في المناطق المنكوبة التي ستظل بحاجة إلى رعاية خاصة من الدولة أساسا والقطاع الخاص والمجتمع المدني، نظرا الى الندوب المغروزة في البشر والحجر معا، مستفيدين ما أمكن من تنافس القوى السياسية الذي يجب أن يدور حول الإنماء لا حول استقطاب الشرائح الهامشية ومشاريع المَلْيَشَة والتوتر ومستفيدين أيضا من "فترة السماح الأمني" الذي أمنته التوازنات الإنتقالية الجديدة، والتي يمكن أن تتغير شروطها مع الهزات الإقليمية.


استاذ في الجامعة اللبنانية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم