الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

إنها موائد الرحمن

زياد سامي عيتاني
A+ A-

تعد «موائد الرحمن»، من أكثر العادات الرمضانية المتعارف عليها في الوطن العربي التي تأخذ بعدا اجتماعيا شديد العمق والتأثير في التكافل الاجتماعي وتوطيد اواصره، إذ ينتهز كثير من الناس فرصة حلول الشهر الكريم، ليقيموا هذه الموائد كل على سعته كنوع من الصدقة وفعل الخير. وتقام موائد الرحمن في مختلف الأحياء والمناطق.


تعود فكرة موائد الرحمن الى العهد النبوي، حيث قدم على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) وفد من الطائف ليعلنوا إسلامهم، فكان يرسل لهم طعام الإفطار والسحور، واقتدى به الخلفاء الراشدون حتى أعدوا دار الضيافة لإفطار الصائمين.


نشأة موائد الرحمن
ومثل غيرها من مظاهر رمضان وطقوسه، تتعدد الروايات حول نشأة موائد الرحمن لدى المؤرخين، فهناك من يرجعها الى عهد الأمير احمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية الذي كان أول من أقام مائدة الرحمن في مصر.. حدث ذلك قبل ألف ومائة عام تقريباً، حيث دعا القادة والتجار والأعيان إلى مائدة حافلة في أول أيام رمضان ذلك الزمان. وعندما وصل المدعوون الى الحفل، إذا بهم يجدون إلى جوارهم عددا كبيرا من فقراء مصر، جاءوا بدعوة من الأمير أيضا.
في ذلك اليوم، أبلغهم ابن طولون، أن المائدة ستستمر طوال أيام شهر رمضان، لاستقبال الفقراء والمساكين وعابري السبيل، وحث ابن طولون الأعيان وكبار التجار، على أن يقتدوا به، ومن يومها أصبحت موائد الرحمن، معلما مصريا رمضانيا، ثم عربيا وإسلاميا.
وهناك من يقول، نقلا عن المقريزي، إن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، كان أول من وضع تقليد الإكثار من المآدب الخيرية في عهد الدولة الفاطمية، وهو أول من أقام مائدة في شهر رمضان، يفطر عليها أهل الجامع العتيق «عمرو بن العاص»، وكان يخرج من قصره 1100 قدر من جميع ألوان الطعام، لتوزع على الفقراء.
ويحكي المقريزي أن القصر الشرقي الكبير، كانت فيه قاعة أطلق عليها «قصر الذهب»، وكان الخلفاء يتخذونها لجلوسهم وأعدوها لولائم الإفطار في رمضان، فإذا جاء وقت الغروب، مدت الموائد وحليت بالأزهار، ونسقت عليها أنواع المأكولات والحلوى والقطائف.
وفي العصر الفاطمي، كانت تمتد آلاف الموائد المليئة بأطيب الطعام للصائمين غير القادرين، أو عابري السبيل، في صورة رائعة تجسد جوهر ما دعا إليه الدين الحنيف، من تكافل وتراحم، وكان الخليفة العزيز بالله، ومن بعده المستنصر بالله يهتمان بموائد الإفطار، التي تقام في قصر الذهب للأمراء ورجال الدولة، وكذا التي تقام في المساجد الكبرى للفقراء والمساكين
واشتهرت في هذا العصر، الأوقاف الخيرية، التي كان يخصصها الأمراء والسلاطين لإطعام الفقراء والمساكين في شهر رمضان عن طريق موائد الرحمن، وتوزيع الطعام المجهز عليهم، والذي كان يشتمل على اللحم والأرز والعسل وحب الرمان، فقد نصت وثيقة وقف السلطان حسن بن قلاوون على الآتي: «يصرف في كل يوم من أيام شهر رمضان، عشرة قناطير من لحم الضأن، وأربعون قنطارًا من خبز القرصة، وحب الرمان وأرز وعسل وحبوب وتوابل، وأجرة من يتولى طبخ ذلك وتفرقته، وثمن غير ذلك مما يحتاج إليه من الآلات التي يطبخ فيها، فيطبخ ذلك في كل يوم من أيام الشهر الكريم».
أما في العصر الحديث، وتحديدا في عام 1967 فتولى بنك ناصر الاجتماعي في مصر، الإشراف على موائد الرحمن بشكلها الحالي، في المساجد المختلفة من أموال الزكاة، وكان أشهر تلك الموائد، المائدة المقامة بجوار الجامع الأزهر، والتي يفطر عليها أكثر من 4 آلاف صائم يوميا، وبعد ذلك بحوالي عشرة أعوام، امتدت مشاركات الوزراء ورجال الأعمال ورؤساء الجامعات، وكان من بينها مائدة البابا شنودة بطريرك الكنيسة المصرية، وهي دليل حي على المشاركة الوجدانية بين المسيحيين والمسلمين.


الأسمطة
كانت موائد الرحمن تسمى بالأسمطة. (السماط) في اللغة: هو الشيء المصطف يبسط ليوضع عليه الطعام. ففي القصر الفاطمي مثلاً كان يُقام سماط يطلق عليه (سماط رمضان) وذلك في قاعة الذهب حيث يجتمع مجلس الملك، ويمدّ من اليوم الرابع في رمضان إلى آخر يوم منه، وقد يُقام في الحديقة بعد أن يُقام سرادق (خيمة) كبيرة في المكان.. والى هذا السماط يدعى قاضي القضاة في ليلة الجمعة احتراماً لمركزه الديني، كما يُدعى إليه الأمراء وأصهار الخليفة وكبار رجال الدولة كل بدوره، وفي حال تغيب الخليفة أو تأخر يحلّ محله ابنه أو أخوه أو صاحب الباب. ‏ ‏
وقبل حضور المدعوين يقوم الخادم بتهيئة الأسمطة على شكل خاص، أعلاها في الصدر يسع بضعة عشر رجلاً يجلسون حوله على الوسائد، وقد وضعت عليه أنواع الأطعمة والفاكهة والحلوى ونحو ذلك في أسمطة أخرى وعليها الأطعمة من اللحوم وغيرها.. وكان الخلفاء يهتمون بهذا السماط اهتماماً كبيراً بشكل يومي حيث لا يفوته شيء من أصناف الأطعمة الفاخرة وينفقون عليه كثيراً. وعند حضور المدعوين تقوم جماعة من الخدم السود بإنارة المصابيح المعلقة، ويشتغل الصقالبة البيض في حمل الأطباق المختلفة من الطعام، بينما تقف جماعة من الحاشية والخدم على استعداد لخدمة المدعوين ويحملون الأباريق الفضية والأقداح الزجاجية حول الأسمطة يسكبون الماء في كيزان الخزف لمن يريد. ‏ ‏
هذا، وبالإضافة إلى الأسمطة التي كانت تقام للخليفة وحاشيته، كان يمد سماط في دار الوزير يدعى إليه كثير من رجالات الدولة ويعطى ما يزيد عن حاجتهم للعامة الذين كانوا يحملون منه الكثير.
ويقول العلامة "المقريزي" عن سماط رمضان بقاعة الذهب: (... وكان قد تقرر أن يعمل 40 صينية – خشكنانج – وحلوى وكعك وأطلق برسم مشاهد الضرائح الشريفة، لكل مشهد سكر وعسل ولوز ودقيق وشيرج، ويعمل 500 رطل حلوى تفرق على المتصدرين والقراء والفقراء ومن معهم في صحون ويحضر القاضي والداعي والشهود وجميع الحضرة، وتفتح الطاقات التي قبلي باب الذهب، ويجلس الخليفة فيسلمون عليه، ثم يخرج متولي بيت المال بصندوق مختوم ضمنه عينا دينار وألف و820 درهما برسم أهل القرافة، وفرق الصواني بعدما حمل منها للخاص وزمام القصر ومولي الدفتر خاصة ، وإلى دار الوزارة والإجلاء والأخوة والأولاد وكانت الدست ومتولي حجبة الباب والقاضي ومفتي الدولة ومولي دار العلم والمقرنين وأئمة الجوامع بالقاهرة ومصر وبقية الأشراف...).
ثم يجلس الخليفة في منظرة القصر، ويتوافد كبار رجال الدولة فيقلبون الأرض بين يديه ويتلو المقرنون القرآن الكريم، ثم يتقدم خطباء: الجامع الأنور وجامع الأزهر وجامع الأقمر، مشيدين في خطبتهم بمناقب الخليفة، ثم ينشد المنشدون وقصائد عن فضائل الشهر الكريم.
أما اليوم، فتقام الموائد في معظم دول العالم الإسلامي، بعضها مقامة من قبل الدول، وبعضها من قبل مؤسسات خيرية، وبعضها ممن أنعم الله عليهم بالخير الوفير من رجال الأعمال وأصحاب المال... وقد باتت علامة من علامات الرحمة والتكافل الإسلامي في هذا الشهر الكريم.


إعلامي وباحث في التراث الشعبي


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم