الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

قصة العنب المسموم

محمود الزيباوي
A+ A-

عام 813، أحكم المأمون قبضته على السلطة، وأصبح سابع خلفاء بني العباس، واتخذ وارثا له من خارج السلالة العباسية، فبايع بولاية العهد من بعده الإمام عليّ بن موسى الرضا، ثامن أئمة الشيعة الإثني عشرية، واتخذ رايات الشيعة الخضر شعاراً بدلا من رايات العباسيين السوداء، غير أنه عاد وتراجع عن هذه الاجراءات حينما دعت الضرورة إلى ذلك.


استُخلِف هارون الرشيد بعهد من أبيه بعد موت أخيه الهادي، ودام حكمه اثنتين وعشرين سنة عرفت خلالها الدولة العباسية عصر شبابها، ووصلت فيها بغداد إلى قمة مجدها. جمع الخليفة بين القوة والرقة، وكان مهيباً عند العامة والخاصة. أسّس "بيت الحكمة"، واحتضن العلماء والشعراء والكتّاب والقراء والفقهاء والقضاة. بايع بولاية العهد لابنه الأمين وقدّمه على أخيه المأمون الذي كان يكبره سناَ، إرضاءً لأمّه زبيدة بنت جعفر بنت المنصور، وبايع لابنه المأمون من بعده، كما بايع من بعد الأخوين لابنه القاسم المؤتمن، ثم عاد وقسّم الدولة بين أولاده الثلاثة، جاعلاً من خراسان والمشرق للمأمون، ومن العراق والمغرب للأمين، ومن الجزيرة للمؤتمن، وثبّت هذا التقسيم بوثيقة علّقها على باب الكعبة.
ساهم هذا التقسيم في إشعال الخلاف بين الأمين والمأمون، وقد تأجج هذا الخلاف في أيام الرشيد الأخيرة حيث لجأ الأمين إلى الحيلة لتأمين بسط سلطته على الدولة على حساب أخيه قبل رحيل والده عن هذه الدنيا، فأرسل بطلب المشير بكر بن المعتمر، وحمّله كتباً سرية إلى بعض من رجال الحكم في مقدمهم الوزير الفضل بن الربيع، يأمرهم فيها بالقفول إلى بغداد والاحتياط على ما في خزائن الدولة. في رواية تناقلها المؤرخون بعد الطبري وابن الأثير، استدعى الرشيد في أيامه الأخيرة بكر بن المعتمر وطلب منه إبراز هذه الوثائق المخفية، فأنكرها وجحدها. هُدِّد المشير بالضرب، وسُجِن وقُيّد، إلا أنه لم يُقر بشيء. وعندما توفّي الرشيد، كشف عن الوثائق المهرّبة وسلّمها إلى أصحابها، وهذا ما سمح للأمين بتثبيت أسس حكمه. تجاوز الخليفة الجديد القرارات التي ثبّتها والده، فعزل أخاه المأمون من ولاية العهد وبايع بها لابنه موسى الناطق بالحق، وأتلف وثيقة ولاية العهد التي حفظها الرشيد في الكعبة. تحوّل الخلاف بين الأمين والمأمون إلى حرب دامية، وأرسل الخليفة جيشاً بقيادة علي بن عيسى بن ماهان إلى خراسان لقتال أخيه، فوجّه المأمون جيشاً للقائه بقيادة طاهر بن الحسين. قُتل علي بن عيسى في المعركة الدامية التي جرت بين الجيشين، وتوجه طاهر إلى بغداد وحاصرها جنوباً، بينما سار إليها القائد هرثمة بن أعين وحاصرها شمالاً. واكتمل نصر المأمون بسقوط عاصمة الخلافة في يده سنة 813، وفيها قُتل الأمين، وكان في الثامنة والعشرين من عمره.
قضى المأمون على الأمين، فأصبح الخليفة غير المنازع، وقرّر مواصلة إقامته في مرو، وفي محاولة منه لرأب الصدع بين السنّة والشيعة، اتخذ وارثاً له من خارج السلالة العباسية، فبايع بولاية العهد من بعده الإمام عليّ بن موسى الرضا، ثامن أئمة الشيعة الإثني عشرية، وجاء به من المدينة المنوّرة إلى بغداد فإلى مرو، "وألبس الناس الأخضر مكان السواد، وكتب بذلك إلى الآفاق"، كما روى اليعقوبي في تاريخه، واللون الأسود شعار العباسيين التقليدي كما هو معروف، أما الأخضر، فشعار شيعة علي. أُخذت البيعة لعلي الرضا، "ودُعي له على المنابر، وضُربت الدنانير والدراهم باسمه، ولم يبق أحد إلا لبس الخضرة إلا إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي الهاشمي، فإنه كان عاملاً للمأمون على البصرة، فامتنع من لبس الخضرة، وقال: "هذا نقض لله وله، وأظهر الخلع". أثار قرار المأمون بلبلة شديدة كما يشهد المؤرخون، وطالب بعض مناصري الشرعية العباسية بخلعه لمصلحة إبرهيم ابن الخليفة الثالث المهدي. حاول الفضل بن سهل وزير الخليفة وأد الإنتفاضة، غير ان الأمور تفاقمت وخرجت من يده. أمام هذه الحال، قرر المأمون الانتقال من مرو إلى بغداد لتدارك الأوضاع، وفي طريق العودة، اغتيل الوزير الفضل بن سهل في الحمام على يد طائفة من حشم الخليفة، فأمر المأمون بالبحث عنهم، ولما مثلوا أمامه، أجابوه: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بإعدامهم، وأرسل برؤوسهم إلى الحسن بن سهل، شقيق الوزير الفضل، ومعتمد الخليفة المأمون في واسط.
تضاربت آراء المؤرخين في تحديد دور المأمون في هذه القضية، فمنهم من أكّد تورّطه، ومنهم من برّأه وقال ان الاغتيال كان بإيعاز من خاله، ومنهم من نقل الخبر بشكل لا يُفهم منه إن كان القرار بالقتل من المأمون أم تصرفاً كيفياً من القتلة. في كتابه "الاغتيال السياسي في الاسلام"، استعاد هادي العلوي هذا الملف، ورأى أن الوزير الفضل كان "يجب أن يذهب ثمنا لعرش الخليفة"، وأن المأمون تصرف كـ"سياسي بارع من طراز معاوية ورجل دولة دقيق الحساب"، و"مما له دلالة مهمة هنا أن يبعث المأمون برؤوس القتلة إلى الحسن شقيق الفضل مشفوعة بكتاب يرثي فيه المغدور ويبكيه ويخبر الشقيق أنه قد صيّره مكان شقيقه".


العنب المسموم
اغتيل الفضل في مدينة سرخس في شباط 818، وقضى من بعده الإمام علي الرضا في مدينة طوس في أيلول من جراء السمّ، كما نقل بعض الرواة. بحسب روايات الطبري والمسعودي وابن خلكان وابن كثير، كان الإمام مشغوفاً بأكل العنب، وتوفي عندما أكثر من أكله. وقال البعض الآخر إنه أكل عنباً مسموماً، واستبعد ابن الأثير هذه الرواية. ينقل اليعقوبي رواية مفادها أن علي الرضا قضى مسموماً من دون أن يجزم بصحتها، ولا تجعل هذه الرواية من المأمون شريكاً في هذا الاغتيال: "ولما صار إلى طوس، توفّي الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بقرية يقال لها النوقان، ولم تكن علّته غير ثلاثة أيام، فقيل إن علي بن هشام أطعمه رمّاناً فيه سمّ، وأظهر المأمون عليه جزعاً شديداً"، ومشى في جنازته "حاسراً في مبطنة بيضاء، وهو بين قائمتي النعش يقول: إلى من أروح بعدك، يا أبا الحسن. وأقام عند قبره ثلاثة أيام يؤتى في كل يوم برغيف وملح، فيأكله، ثم انصرف في اليوم الرابع، وكانت سن الرضا أربعا وأربعين سنة".
في المقابل، ينقل أبو الفرج الأصفهاني في "مقاتل الطالبيين" روايتين تظهران أن المأمون كان مدبّر عملية تسميم الرضا. تقول الرواية الأولى إن الرضا كان مريضاً، وإنه قضى بشراب رمّان مسموم، وتقول الثانية إنه مات بعدما أكل عنباً غُرست في أعماقه إبر من "لطيف السموم". "وفي الروايتين ما يدعو إلى عدم الثقة بهما"، كما يجزم هادي العلوي، "ففي الأولى يجري التسميم بحضور الرضا حيث يعصر المأمور رمّاناً بيده بعد أن طوّل أظفاره وأشبعهما سمّاً. ومثل هذه الطريقة في تحضير الأشربة والأطعمة غير مألوفة في دور الأباطرة التي يُعدّ كل شيء فيها سلفاً، ويقدّمه خدم مختصون في أوان وكؤوس مخصوصة وبطريقة مخصوصة أيضاً. وسيكون من الشذوذ المثير للشك أن يعصر الرمّان في حضور الخليفة وولي عهده. أما الرواية الثانية فإن ترك العنب أياماً وفيه الإبر لا بد أن يفسده، وكان الرضا، مثل سائر أهل بيته، متحرياً للنظافة وله معرفة جيدة بالطب، فهو لا يستسيغ أكل طعام فيه علامة فساد، مع إمكان توفّر أفضل الأصناف له".
في موسوعة "أعيان الشيعة"، رأى العلامة محسن الأمين أن علي الرضا مات مسموماً، غير أنه أورد شهادات لبعض من كبار علماء الشيعة تشكك في ذلك، ومنهم الشيخ العالم محمد بن يعقوب الكليني الذي لم يتطرق إلى قضية الاغتيال، والسيد علي بن طاووس الذي "كان لا يوافق على أن المأمون سمم الرضا ولا يعتقده، وكان كثير المطالعة والتنقيب والتفتيش على مثل ذلك، والذي كان يظهر من المأمون من حنوّه عليه وميله إليه، واختياره له دون أهله وأولاده مما يؤيد ذلك ويقرره". من جهته، يميل هادي العلوي إلى القول بوجود خطة اغتيال، لأن "ميتة مفاجئة كهذه وفي وقت كان المأمون محتاجاً إليها لا بد أن تثير شكوكاً جدية". بحسب رواية اليعقوبي، توفي الإمام علي الرضا وهو في الرابعة والأربعين من عمره، وبعد رحيله، قدم المأمون مدينة السلام، "ولباسه ولباس قواده وجنده والناس كلهم الخضرة، فأقام جمعة، ثم نزعها، وأعاد لباس السواد". خلع الخليفة لباس الخضرة، وهي شعار شيعة علي كما أشرنا، وعاد إلى لبس السواد، وهو شعار العباسيين التقليدي، وبهذا انتهت قضية ولاية العهد التي أشعلت الأزمة التي كادت تقضي على عرشه.
تخلّى المأمون عن سياسته الأولى الهادفة إلى التقرّب من الشيعة، وساند المعتزلة، وشجّع حركة الترجمة بحماسة بالغة، فعمل على تحصيل كتب علوم الحكمة، "وأمر بنقلها إلى العربية، وشهّرها، وحلّ إقليدس، ونظر في علوم الأوائل، وتكلّم في الطب وقرّب أهل الحكمة"، كما كتب ابن الطقطقي في "الفخري في الآداب السلطانية". في عام 833، أمر الخليفة باعتماد عقائد المعتزلة في امتحان القضاة والمحدثين بالقرآن، "فمن أقرّ أنه مخلوق محدث خلى سبيله، ومن أبى أعلمه به ليأمر فيه برأيه". اعتمد الخليفة في هذا التبنّي سياسة الإكراه، وأطلق أنصار المدرسة التقليدية اسم "المحنة" على هذه السياسة في مرحلة لاحقة. إلا أن هذه المحنة لم تدم طويلا. في السنة نفسها، رحل المأمون عن هذه الدنيا اثر إصابته بالحمّى ودفن في طرسوس، وخلفه أخوه المعتصم بالله، ثامن خلفاء بني عباس، وثامن أبناء هارون الرشيد.
توفي هارون الرشيد ودُفن في مدينة طوس، وأقام ولده المأمون على قبره قبة عُرفت في ما بعد باسم "القبة الهارونية"، ولما توفي الإمام مسموماً جيء بجثمانه الشريف ودُفن بالقرب من قبر هارون الرشيد، غير أنَّ هذه القبة دُمّرت على يد الأمير سبكتكين تدميراً كاملاً. حظي مرقد الإمام الرضا بالتقديس والإكبار، وأصبحت المدينة لا تعرف إلاَّ باسم "مشهد الرضا"، وكانت تعرف بطوس وسناباد.
في القرن الرابع عشر، مرّ ابن بطوطة بهذه المدينة وكتب في وصف مرقد الرضا: "المشهد المكرم عليه قبة عظيمة في داخل زاوية، تجاورها مدرسة ومسجد. وجميعها مليح البناء مصنوع الحيطان بالقاشاني. وعلى القبر دكانة خشب ملبسة بصفائح الفضة، وعليه قناديل فضة معلقة، وعتبة باب القبة فضة. وعلى بابها ستر حرير مذهب. وهي مبسوطة بأنواع البسط. وإزاء هذا القبر قبر هارون الرشيد أمير المؤمنين رضي الله عنه، وعليه دكانة يضعون عليها الشمعدانات التي يعرفها أهل المغرب بالحسك والمنائر. وإذا دخل الرافضي للزيارة، ضرب قبر الرشيد برجله، وسلّم على الرضا".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم