الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

رئيف خوري وأَحمد علبي: فكرٌ نهضويّ وقلمٌ وفيّ !

ربيعة أبي فاضل
A+ A-

اصدر احمد علبي كتابا موسوعيا بعنوان "رئيف خوري داعية الديموقراطية والعروبة"1 وقدم شهادة عن معلّمه وصديقه، في ختام الاحتفال بالمئويّة الأُولى لولادته. ويأتي الكتاب في اطار جمع التراث غير المنشور.


ويُذكر أَنّ الدكتور علبي ضمَّ في كتابه نصوصًا نقديّة، مقالات وأبحاثًا، وذكريات وتأريخا وسيرة، وغير ذلك من الأَشكال والفنون المتّصلة برئيف خوري وتراثه، على مدى ثلاثة وثلاثين عامًا (1981 – 2013). وفي الكتاب قسم لمنتخبات من تراث خوري، وأَلبوم خاصّ بصور من تاريخ حياته، ودراسة موثّقة لنتاجه الأَدبي والفكري في المجلاّت والجرائد، الأَمر الذي يجعل علبي طليعة الباحثين في أدب رئيف خوري، إلى جانب مجلّة "الطَّريق" ومحمد دكروب ومطانيوس يوسف طوق وشفيق البقاعي والياس رزق، وكاتب هذه السّطور وآخرين، على رأسهم سماح ادريس.
وحول غضبه، وغضب النّاقد الياس خوري، لكون بعض المعنيّين بالأَدب والأُدباء نقلوا عن إِملي فارس ابراهيم أَنّ رئيفا لم ينضوِ بشكل تقليدي، إلى الحزب الشّيوعي... وحول قول علبي أنّ ربيعة أبي فاضل ليس هو المرجع المؤهَّل لبت هذا الموضوع2، فإنّ أَبسط الردود، في حال كانت ابراهيم تُغالي، أَو تأتي بموقف ملتبس (وهي لم تفعل حتما)، العودة إلى ما قال رئيف خوري نفسه: "إنّ الناس ظنّوني شيوعيًّا حزبيًّا، على أنّي لم أكن شيوعيًّا حزبيًّا، لكنّني شيوعي رأي إذا صَحّ التعبير"3. وهذا الموقف لم يحل دون تبيان فضل الماركسيّة على نزعته الوطنية العلمانية، الإنسانية، الواقعيَّة. فهذه الإضاءَة، لم تكن لمزيد من تزييف فكر رئيف، بل هي للقول أنّ الحريّة، بقيت بالنّسبة إليه، القيمة العليا التي تعطي الإنسان وحياته معنى!
إنّ حماسة رئيف خوري في نصّه المكتوب وفي خطبه وفي سلوكيّاته، تجعل هذه المشادات من دون جدوى، ما دام الرّجل قدّم الشؤون العامّة على قضاياه الخاصّة، ووقف حياته وفكره لخدمة العرب ولبنان. ولا بُدَّ من أَنّ الدكتور علبي يتساءَل معي، ومع قارئي خوري، لماذا شعر الرّجل "بالضّعة" و"الخزي" قبل أَن يغادر الدّنيا؟ أَوليس لأَنّ الحلم الذي عاش من أَجله في الحياة، وهو النهوض بالعرب ولبنان خصوصًا، من تخلّف الماضي وقشوره، نحو المستقبل ونوره، قد انكسر، وتبخّر...
أَمّا المحبّة، والغيرة، والحماسة الصّادقة، في كتابة علبي عن رئيف، فلا مجال لعبارة تنتقص من بهاء المشهد، ووفاء الناقد، والأُستاذ الجامعي، والتّقدمي الأَصيل. والراية التي حملها رئيف..." "العلمنيّة والتقدّم، والعلمنيّة والعدل الاجتماعي، والقوميّة"4، إنما هي راية أحمد علبي وحبيب صادق وصادر يونس وعصام خليفة، ومعظم الذين أَضاؤوا شموعهم وسط هذه الظلمات التي تُلقي بثقلها فوق الأَجيال المقبلة، وقد أصاب علبي حين قال: "إنّ بين الذين ندبوا أَنفسهم لمهمَّة وضع كتب الأدب العربي، لم يؤلّف أحد، في بلدنا، الذي يفخر بمستواه التّعليمي في محيطه العربي، كما ألّف وأبدع رئيف خوري، في كتابه: "التعريف في الأدب العربي"5، كما أَصاب حين امتدح أُسلوبه الذي جمع إلى الدّقة العلميّة شيئا من السخرية اللاّذعة. وإني لمشارك المؤلّف في التغنّي بالديمقراطية، حبيبة رئيف القائل: "الوحدة العربيّة في نظرنا، تعني حكمًا ذاتيًّا ديمقراطيًّا لكلّ قطر، وتعني حماية الأَقليات، ومنح الحقوق المشروعة لها... ومصلحة جميع الأَقطار تقوم بالتّعاون، والتّبادل، لا بالتّناحر والتقاطع". وإذا كان لنا أن نبدي رأيًا، في هذا المقام، فهو أَنّ خوري كان ساخرا حتمًا، ليس للهدم، لكن للبناء!
يبقى أَنّ الدكتور علبي لاحظ، عندما قرأَ بعض ما كُتب عن سعادة أَديباً وناقداً ورائداً حَداثويّاً مؤثّراً في معاصريه، إنّي أَميل إلى توجّهاته، وإنّي تجاوزت بجسارة الميول والأَهواء، وانبريت للكتابة عن رئيف لتكريمه وعَدّ هذا الموقف نادرًا في بلدنا حيث التنابذ والأَحقاد. والجواب عند علبي نفسه، حين أَكّد أَنّ العلمانية جامع مشترك جليل بين السّورية القومية الاجتماعية والماركسيّة. فموقفي، المنطلق من مسيحيّتي المشرقيّة، لا يُراعي أَحزابا وقبائل ويتألّم عندما يتجاهل الآخرون حريّته، وحقّه في الحياة بكرامة. لذلك فإنّ البديل من التطرّف المذهبي والدّيني هو العلمانيّة، أَو عودة الشّرق الأوسط إلى القرون الوسطى، والعصور الحجريَّة.
إنّ الذين كتبوا عن رئيف خوري توقّفوا على ارتباطه العضوي بالتراث العربي، أو على ارتباطه الفكري بالماركسيّة، أَو على عروبته الحضاريّة، وتكلّموا أَحيانًا، على الالتزام، وأَحيانًا على الحريّة، وتناولوا بعض ما كتب ضدّ السّوريين القوميّين الاجتماعيّين، في مراحل الصّراع بين النَّــزعتين القوميّتين العربية والسوريّة القوميّة الاجتماعيّة. وتساءل كثيرون أين استقرّ فكر الرَّجل، بعد كلّ هذه التوجّهات والمشادّات والنّشاطات والتّناقضات التي طبعت حياته، وحضَّته على الخطابة، والكتابة الصّحافية والتّعلم والمشاركة في حوارات، ومطارحات، ومناظرات، ومقايسات، دفاعا عن أَفكاره، ومفاهيمه، وموقفه من الحياة والوجود؟ ونصل من كل ذلك إلى سؤال بسيط: أَين انتهى رئيف خوري في بحثه عن الحقيقة، وفي صراعه من أجل أُمّة واعية ومثقفة وحضارية، وإنسان سعيد، وراقٍ، ينتمي إلى الحياة الكريمة والمتّزنة، خارج العنصريّة والتطّرف والتعصّب.
لقد جعله علبي داعية عروبيًّا، خصّ العرب بمعظم فكره وأدبه، وساهم في تنمية روح الدّيموقراطية والعدالة، في عالمنا. لكنّ خوري كان مدركًا أَنّ العمل على نهضة عربيّة ثانية، بعد نهضة البساتنة واليازجيّين، والتنويريّين عمومًا، ليس أَمرًا سهلاً، وثمّة معوقات كثيرة، في التّراث، وفي الحياة الراهنة، تحول دون مواكبة البلدان العربيّة، الحداثة وما بعدها، بذهنيّات جديدة، وبروح تتفهّم العصر، وحاجات المستقبل. وقد زعم بعض الدّارسين أَنّ رئيف خوري قارب الدّيموقراطيّة، لكنّه لم يكن علمانيًّا، والحقيقة أَنّ خوري أُنموذج في مسألة فصل الدّين عن السّياسة، ولو انّه لم يتوسَّع في تناول القضيَّة الدّينية، شأن أنطون سعادة، حرصًا منه على الإشاحة عن كلّ ما يُشعل الحساسيّات في دنيا العرب، حيث يجب أن تنصهر المتعارضات في الوحدة القوميّة. على أنّ صاحب "الفكر العربي الحديث" هو طليعة العلمانيّين، حين نقرأه يتحدّث عن لبنان أَو عن مستقبل العرب، أَو عن مستقبل هذه الأمّة، وقيام دولة المواطنة، والحكم المدني، والمزاج العقلاني المنفتح. لكنّه بنى كلّ آماله على قوميّة عربية، دونها الكثير من المصاعب والظروف القاهرة! ويبدو أَنَّ بعض قرّاء رئيف خوري لم يفهموه على حقيقته، وبالتّالي لم يميّزوا كلامه على الالتزام من كلامه على الحريّة، ولم يلاحظوا رفضه لأيّ إلزام أو توجيه لا يُراعي الاستقلالية الذاتية، والمسؤولية العميقة للفرد المثقّف، في اختيار طريقه. وما حدث لرئيف مع الحزب الشيّوعي، ومع مواقف الاتّحاد السّوﭬـياتي، في شأن فلسطين، والشؤون القوميّة (تيتو والقوميّة اليوغسلافية)، خير دليل على طبيعة هذا الرّجل، وعلى تعاليه وصبره حين تتعارض مواقف اليسار مع ثوابته.
إنّ الناقد علبي تعامل بموضوعيّة مع الـنّزعة العربيّة، في فكر رئيف خوري، لكنّ علبي ورئيفًا معًا، يعلمان أَنّ القوميَّة العربيّة برهنت عن أَنّها مجرَّد نظريّة غير قابلة للتّطبيق، لأَسباب متعدّدة، منها أنّ الدّين فوق القوميّة، وأَنّ التّناقضات بين الدّول المعنّية تفوق إمكانات الوحدة، وأَنّ الجغرافية إضافة إلى التاريخ، لا يسمحان بالتّماسك والتّكامل، ورَصّ كيان قابل للحياة، وصهر جبال من المتعارضات، على غير صعيد. إنّ رجالات النّهضة، ومنهم رئيف وعلبي، ظنّوا أَنّ الهموم والطّموحات المشتركة لأَبناء العربيَّة، توحِّدهم في الآلام والأحلام، في اللغة والثّقافة، في استيحاء الماضي وتطلّع المستقبل. لكنّ المسار التاريخي برهن أَنّ الصّعوبات جمّة، وأَنّ اللغة والإرادة المشتركة المزعومة لم تؤدّيا إلى مسار عمليّ واقعي للعروبة، فبقيت مجرَّد شعار، في صحراء من غبار! وهذا الواقع هو في صلب الحال المأسوية التي انتهى إليها خوري والشاعر القروي والشاعر جوزف حرب.


1 – أحمد علبي، رئيف خوري داعية الديموقراطية والعروبة، دار الفارابي، بيروت، 2013.
2 – رئيف خوري داعية الديموقراطية والعروبة، م. س. ص 247، 270 – 272.
3 – صوت الشعب، العدد 911، 18 ك2 1945، ص1.
4 – رئيف خوري داعية الديموقراطية والعروبة، ص 387
5 – ن. ص. 410

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم