الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - عن سيرة رجل جعل حياته الواقعية أسطورة وأسطورته حقيقةً واقعة غبرييل غارسيا ماركيز... الذي لطالما كان كذّاباً منذ طفولته

رامي زيدان
A+ A-

من بين الأسماء الروائية في أميركا اللاتينية، يبدو الكولومبي الراحل غبرييل غارسيا ماركيز الأكثر غواية لكتابة سيرته، فهو يتفوق على ماريو فارغاس يوسا وايزابيل الليندي وكارلوس فوينتس وغبريال ميسترال وإدوارد غالينيو وجيمس كانيون وخورخي أمادو وخوليو كورتاثار. هو في أسطورته الحياتية مثل تشي غيفارا في الثورة، ودييغو مارادونا في كرة القدم، وفريدا كاهلو في التشكيل، وفيديل كاسترو في السلطة، وبابلو نيرودا في الشعر. هذه الاسماء كلها من أميركا اللاتينية، وتجمع بينها تقاطعات في الثقافة والسياسة والنجومية والجنون والخلق والشهرة.


ماركيز هو الروائي الكبير الذي أتى من عالم الصحافة، وهو الاسم البارز الذي حارب الديكتاتوريات في بلاده من خلال رواياته، خصوصاً "خريف البطريرك"؛ لكنه كان صديق الرؤساء من بيل كلينتون الى فيديل كاسترو وفرنسوا ميتران. وهو الكاتب النخبوي – الشعبوي الذي لا يتردد في الكتابة عن النجمة شاكيرا؛ وهو الحداثوي الذي وظّف حكايات الجدات في روايات معقدة؛ وهو الواقعي الذي أنقذ نفسه من الواقع بالسحر؛ وهو الروائي المرجع الذي استسلم روحية رواية "الجميلات النائمات" أو حسد ياسوناري كواباتا على روايته، وهو الآتي من الفقر المدقع وقد أصبح من الأثرياء الكبار.


سيرتان
جاء مشرداً إلى باريس منتصف الخمسينات. نام الليالي الباردة على مقاعد الحدائق. وكان رجال الشرطة يطاردونه، اعتقادا منهم أنه جزائري بسبب سحنته، في ذروة الحرب الجزائرية ضد الفرنسيين. على هذا تتسم سيرة ماركيز بالغواية وتجذب الكتاب المختصين لتدوين أسرارها، حيث كل جانب منها يمكن ان يكون محوراً لكتاب خاص. حتى ماركيز نفسه لم يتردد في البدء بتدوين سيرته بعنوان "عشت لأروي"، مستنداً إلى ما قاله جيمس ستيورات في فيلم "الرجل الذي قتل ستارة الحرية" من أنه "حين تكون الأسطورة أكثر جمالا من الواقع، قم بطباعة الأسطورة".
تغطي هذه السيرة الماركيزية، "عشت لأروي"، المرحلة الأولى فقط من حياته، وبالتحديد الفترة من سن الخامسة إلى سن الثلاثين، أي سنوات الطفولة والشباب المبكر، وهي الفترة التي سبقت اتخاذه في سن الثلاثين أهم قرار في حياته، وهو قرار أن يصبح كاتباً. تمر فيها عبارات مثل "إذا كنت تظن أنك قادر على العيش من دون كتابة، فلا تكتب"، و"إن الشيء الوحيد الذي أريده في هذه الحياة هو أن أكون كاتباً، وسوف أصير كذلك". في هذا النص يحافظ ماركيز على الكيفية نفسها التي كان يتصرف بموجبها في رواياته فيسرد أحداث حياته كما لو كان يسرد أحداث رواية. نعرف أن كل شيء أو كل حدث في روايات ماركيز، كان له أصل في حياته الحقيقية، ونعرف أيضا أن ماركيز لم يكن يقصد النقل الحرفي لهذا الأصل بل بالأحرى إعادة الاشتغال عليه بحيث تمتزج أحداث حياته الخاصة والأحداث السياسية التي عاصرها بأحلامه وتفسيراته ورؤاه الذاتية والخاصة. وكان المأمول أن تصدر السيرة في ثلاثة أجزاء لكن "عشت لأروي" ظل لمدة طويلة هو جزء السيرة الوحيد المتاح.
كان العالم ينتظر الأجزاء المتبقية من سيرة ماركيز لكنه فوجئ بصدور سيرتين لماركيز الأولى، بعنوان "غارثيا ماركيز، العودة إلى الجذور" للكاتب الكولومبي داسّو سالديبار (ترجمة صبري التهامي، المركز القومي للترجمة)، والثانية بعنوان "غبرييل غارسيا ماركيز: حياة" للناقد البريطاني جيرالد مارتن (ترجمها محمد درويش عن "الدار العربية للعلوم).
ثمة جهد جبّار في السيرتين. يتبين ذلك من المعلومات التي وردت فيهما، ومن تجاوب ماركيز في مساعدة المؤلفين، وقد سمح ماركيز لداسّو سالديبار، بأن يكتب بحرية قائلاً له: "أكتب كما لو أنّي كنت ميّتا". تحدث الكتاب عن عالم "غابو" وحاول الإجابة عن أسئلة عديدة تخصّه بطريقة شبه روائية، بذل فيها جهداً حثيثاً ومجهوداً مضنياً طوال أربعة عشر عاماً.
مضى جيرالد مارتن في قراءة أعمال ماركيز ومنجزاته في القصة القصيرة والرواية والمقالات الصحافية والنصوص السينمائية والسفر إلى عدد كبير من بلدان العالم لمقابلة أصدقاء لماركيز من صحافيين وأدباء وروائيين وسياسيين وزعماء أحزاب ورؤساء دول، من ضمنهم الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، والرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، ورئيس وزراء إسبانيا السابق فيليبي غونزاليس، وغيرهم من الشخصيات، بهدف الإطلاع على تفاصيل علاقاتهم مع روائي "الواقعية السحرية".
سيرة مارتن مختلفة كلياً عن السيرة التي كتبها ماركيز الذي ركّز في سيرته لا على حقائق الحياة نفسها بل على طريقة تذكّر هذه الحقائق وكيفية روايتها. يلتزم جيرالد مارتن حقائق حياة ماركيز نفسها ويسرد هذه الحقائق في كتابه بكل دقة. يبرهن على صرامة غريبة في الإحساس بـ"غابو" وفي إدراك شخصيته وحياته المدهشة. "ذلك الشخص، يقوم دوما بسرد الحكايات والقصص!" كما كان يردد غالبا أبوه.
استهلكت سيرة ماركيز ما يقارب ربع عمر مارتن كما يخبرنا في تقديمه للكتاب: "هكذا وجدت أنه من المستحيل القضاء على الأسطورة التي نشرها ماركيز بنفسه ويعتقد بها كما يبدو، حتى إنني، وهذا من مزايا هوسي المفرط، أمضيت ليلة هطلت الأمطار مدرارا وأنا جالس على مصطبة في الميدان في آراكاتاكا كي أتشبع بجو البلدة التي ولد فيها موضوعي كما يفترض". ما يميز مارتن هو أنه لا يغفل في كل مرحلة من المراحل التي عبرها غابو الكثير من التفاصيل، خصوصا مسيرته الكتابية. في تموز عام 1966، نشر ماركيز تأملات ذاتية يسترجع فيها محنته في الكتابة بعنوان "مصائب مؤلف كتاب"، وفيها يؤكد أن "تأليف الكتب مهنة انتحارية، إذ ما من مهنة غيرها تتطلب قدراً كبيراً من الوقت، وقدراً كبيراً من العمل، وقدراً كبيراً من التفاني مقارنة بفوائدها الآنية. إني أعتقد أن عدداً كبيراً من القراء لا يسألون أنفسهم بعد الانتهاء من قراءة كتاب ما، عن عدد الساعات المؤلمة والبلايا المنزلية التي كلَّفت المئتي صفحة المؤلف، أو ما هو المبلغ الذي حصل عليه لقاء عمله؟". لكن اصرار ماركيز على الكتابة لا يضاهيه إصرار آخر. حتى إن والده قال له يوماً ما: "إن المطاف سينتهي بك إلى أن تأكل الورق"، وذلك عندما قرر في عام 1949 أن يتخلى عن دراسة الحقوق بسبب إخفاقه في النجاح في السنة الثالثة من دراسته. وعندما حاول أحد أصدقائه أن يدافع عنه أمام أبيه، موضحاً له أن ماركيز بات اليوم واحداً من أفضل كتّاب القصة القصيرة في كولومبيا، انفجر الأب صائحاً: "إنه قصّاص، حسناً، طالما كان كذّاباً منذ طفولته!". ماركيز نفسه يقول في "عشت لأروي": "أكاذيب الأطفال هي علامة موهبة كبيرة!" من جهة أخرى، نجده يتلقى في عام 1952 رسالة مدمرة من دار لوسادا للنشر في بوينس آيريس، التي أرسل إليها مخطوطة روايته الأولى "عاصفة الأوراق" بغية نشرها، فيها يخبره مدير الدار غييرمو دي توري، وهو أحد أبرز نقّاد الأدب الأسبان في المنفى وأحد أقرباء الأديب الأرجنتيني بورخيس، انه ليس لديه أي مستقبل في كتابة الرواية، واقترح عليه أن يبحث عن مهنة أخرى. لكن أصدقاء ماركيز تجمهروا حوله، وقال له أحدهم: يعلم الجميع أن الأسبان أغبياء!
الذروة في مسيرة الشقاء الكتابي الماركيزي، كانت مع رواية "مئة عام من العزلة". فمن الممتع جداً أن نقرأ في كتاب "العودة الى الجذور" التفاصيل التي قادت إلى صدور كتاب "مئة عام من العزلة"، بل أدقّ التفاصيل التي لا يعرفها من يشتري الكتاب جاهزا. نقرأ عن الظروف النفسية والاجتماعية التي رافقت الكتاب في تشكله، كما نقرأ عن الكتب التي ساهمت في تأليفه، وعن التداخل مع نصوص وكتب أخرى، عن التناص والاقتباس والاستلهام، وغيرها، مع نصوص بورخيس وماريو فارغاس يوسا وخوان رولفو وغيرهم. والى أن يرسل نصف مخطوطة الرواية بالبريد إلى الناشر الأرجنتيني لأنه لم يكن يملك ما يكفي من المال لإرسالها كلها. أما النصف الثاني من المخطوطة بحسب ما يبيّن جيرالد مارتن فقد أرسله بعدما رهنت زوجته المدفأة الكهربائية ومجفف الشعر ثم عادا إلى مكتب البريد لإرسال ما تبقى. لدى خروجهما، توقفت مارسيدس والتفتت الى زوجها قائلة: "غابو، لا ينقصنا الآن سوى أن يكون الكتاب سيئاً". وحققت الرواية شهرة بعد نشرها مباشرة (1967)، وباعت أكثر من 30 مليون نسخة في أنحاء العالم، وأعطت دفعة لأدب أميركا اللاتينية. فقد كان ظهورها في ذروة التحول بين الرواية الحداثوية وما بعد الحداثوية.
"مئة عام من العزلة" اعتبرها داسّو سالديبار "أروع رواية كتبت باللغة الاسبانية"، موضحاً ان الأولى ستبقى رواية "دون كيخوته" لأسباب كثيرة، لكن الرواية الأكثر روعة والمكتوبة بشكل أفضل حسب اعتقادي هي "مئة عام من العزلة". كما هي حال بلدة لا مانشا في عمل ميغال ثرفانتيس و"كومالا" في عمل المكسيكي خوان رولفو، فإن ماكوندو المسرح الساحر لـ"مئة عام من العزلة" تظهر كذلك أن "الكوني هو في الأصل محلي متسام" على حد تعبير سالديبار.
كانت الأجواء التي رافقت صدور رواية ماركيز مشحونة نظرا لوجود كُتّاب كبار من أميركا اللاتينية كانوا يستحقون جائزة نوبل للأدب، من بينهم بورخيس وفارغاس يوسا وكورتاثار وغيرهم... وكانت العلاقات مميزة ما بين يوسّا البيروفي وماركيز الكولومبي، قبل أن تصل إلى القطيعة والعداء.
يصف داسّو سالديبار أول لحظة لقاء بين الكاتبين، ويتحدث عن تداخل نصوص أعمالهما وأعمال آخرين: "على رغم أنها كانت المرة الأولى التي يلتقيان فيها، وجها لوجه، فقد كانا قد تعهدا بصداقة طويلة، عبر المراسلة، وتطرّقا فيها إلى احتمال كتابة رواية مشتركة ذات يوم، عن الحرب التراجيدية والهزلية التي تعرض لها بلداهما في بداية الثلاثينات من القرن الـ20. وكان كلاهما قد قرأ نصوص الآخر باهتمام، وعاشا إعجابا كبيرا بأدب الفروسية، كان يوسّا، بالنسبة لماركيز "الفارس التائه الأخير للأدب"، بينما كان ماركيز، في نظر يوسّا "أماديس أميركا اللاتينية". هذه العلاقة الصاخبة بين الروائيين النوبليين التي انتهت الى العدائية والاتهامات، هي أيضا تمارس الغواية للكتابة عنها. فصداقات ماركيز لم تكن عابرة بل هي اشبه بالحكايات الساحرة والغريبة. علاقته بزوجته أيضا فيها من السحر ما يكفي، وخصوصا حين يتحدث عن أصلها وفصلها وكيف تعرف اليها وكيف تزوجها. عالم كله حكاية في حياة أديب يمكن وصفه بسارق الحكايات.


الصحافة أفضل مهنة في العالم
تاريخ مسيرة ماركيز صحافيّاً، لا يقلّ إبهاراً عن تاريخه روائيّاً، وخصوصاً الفصول الشيقة في كتاب "العودة الى الجذور"، تلك التي تتحدث عن المرحلة الباريسية في حياة غابو وإقامته في الحي اللاتيني، حيث تأثر ماركيز كثيراً بثورة الجزائر، وتقاسم السجن مع المواطنين الجزائريين، فقد كانت سحنته توحي للشرطة الفرنسية بأصول مغاربية! في هذا الإطار يقول داسّو: "لم تكن حرب الجزائر تحتل الساحة الإعلامية بعدُ، ولكنها كانت واقعا مُهدِّدا لماركيز لسحنته العربية، وقد دفع الثمن، إذ لدى خروجه من قاعة سينما ذات مساء، اعتقد رجال الدرك الفرنسيون أنه جزائري، فأشبعوه ضربا ونقلوه إلى مقر الشرطة في سان جيرمان ديبريه مع جزائريين حقيقيين، حزينين وذوي شوارب مثله".
الصحافة في نظر ماركيز، أفضل مهنة في العالم. شهد بأن الجوائز العالميّة، حتى نوبل، ليست سوى مسرحيّات اجتماعيّة حافلة بإيماءات أكاديميّة متعمّدة لإشهار بعض الشخصيات المغمورة اجتماعيّا. فقد حمل ماركيز في جعبته أسفا مضمرا، لأنّ الرواية هي التي قدّمته إلى العالم حتى كصحافيّ، وأسلوبه السردي في كتابة الريبورتاج الصحافي لم يكن مغايرا لأسلوب الرواية إلا في قليل من المكوّنات.
مارس ماركيز الغواية في سيرته وحتى في علاقته بالرؤساء والزعماء، على رغم انه جعل للديكتاتوريين حصة لا بأس بها في أعماله الروائية وغير الروائية. كما انه حلل سماتهم وتصرفاتهم في بعض أقوى صفحات نصوص له مثل "خريف البطريك"، حيث نلاحظ ان كثراً من زملائه الكتّاب العالميين (ماريو فارغاس يوسا، وسوزان سونتاع) يأخذون عليه مهادنته فيديل كاسترو. لكن تلك العلاقة بين الروائي والزعيم كانت أعقد من ان تختصر بموقف او برد فعل، وقد كتبت حولها عشرات المقالات وصدر عنها كتاب بعنوان "فيديل وغابو" لمؤلفيه انجيل استيفان وستيفاني، ورد فيه ان غابو جمعته صداقة قوية مع كاسترو قال عنها في لقاء صحافي عام 1977 إنه لم يعرف رجلاً أحسن منه وقد لا يكون معروفاً على نطاق واسع أن فيديل مثقف جداً. الكتاب يلفت انتباه القراء على أنه كان دراسة نشرت سابقاً عن ماركيز ومقابلات أجريت مع كاسترو وإن معظم صفحاته الـ 700 تحدثت عما كان يدور بينهما من قضايا أدبية وسياسية وحتى تاريخية وهي مثيرة للإهتمام حقاً، منها أن ماركيز كان يرسل مخطوطات رواياته وقصصه إلى كاسترو ليقرأها ويعلق عليها كما ذكر ذلك لصحيفة "البايس" الإسبانية عام 1996. ومع تطور هذه العلاقة يورد الكتاب كيف رتب ماركيز لإطلاق نحو 3000 سجين في الجزيرة الكوبية على الرغم من أن بعض مؤرخي تلك الحقبة يعتقدون أن العدد مرتفع ومغالى فيه لكنه يعكس في كل الأحوال العلاقة القوية بينهما حتى أن كاسترو منحه شقة في الجزيرة لتأكيد قيمة مكانته الفكرية لديه.
كان كاسترو جاذباً للمثقفين في معظم مراحله، وإن انتقده كثيرون بسبب ممارساته القمعية. وتبقى الصداقة بين كاسترو وغابو الأكثر ضجيجاً وصخباً، ولا شك في ان ماركيز كان يؤثر في السلطة ولا تؤثر فيه، وهذا سر من اسرار علاقته بالزعيم الكوبي.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم