السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

فصل من رواية - مطالع سيرة متخيّلة لبديعة مصابني

رامي زيدان
A+ A-

كان من الممكن أن تغدو الأمور أفضل، لو بقي أبي على قيد الحياة. كان من الممكن أن تخفف رائحة حنانه بعض تصدعاتي، وبعضاً من لحظات استدرار الشفقة في الحياة. على مدى سنوات كنت أشعر بأن جسدي مثقل بأزمات ماضٍ طويل، بل أني مجرد أبريق زجاجي سقط من على برج شاهق. حدث أن توفى أبي وأنا صغيرة طرية العود، وأنفي لا يفقه تمييز روائح الرياح العاتية، ولا أعرف معنى أن يكون غائباً عني. مع ذلك شعرتُ برائحة غيابه من اليوم الأول. غاب ولم يعد يطرق باب البيت مساءً، ولم يعد يجلس على الكنبة العتيقة ويشرب الشاي الأسود الثقيل ويخلّصني من حيرتي. بدا كأن كل شيء تغيّر في غيابه. هو الذي كان يحضر في كل واحد منا في البيت، صار غيابه خيانة لنا. لم أكن أعلم أن أمي ترتدي الأسود حزناً عليه. مذ غاب، خيّم عليها السكون وصارت تكلم نفسها كثيراً كأن شطراً من حياتها قد سقط. هذا ما يقوله شرود عينيها عندما تجلس في بهو البيت. لم تعد تنعم بوقتها، ولم تعد تدلق الماء على الورود التي زرعتها في الأحواض، هي التي لا تجيد عملاً غير موهبة الطبخ.
حين فقدتُ أبي، لم أنتبه الى أني خسرت كل علامة على درب حياتي. خسرت من يدافع عني وينقذني من براثن الخوف والمشقّة. كل ما حدث لي من سيئات وآلام لم يكن من صنعي، وعلق في ذاكرة الناس أكثر من ذاكرتي. لقد حفظ الناس كيف أني كنت ضحية، أو أن الذئب نهشني. كل ما حدث لي يتسرب من ذاكرتي مثل رائحة روث الأبقار.
كانت أمي وحدها تبكي بصمت، ولا تريد لأحد منا أن يتأثر ببكائها. على مدى أسابيع لم تمسح الغبار في البيت، وزادت من حجم مناكدتي. أنا لم أدرك حجم غيابه إلا حين كبرتُ وتذكرتُ أني تعرضتُ للأذى، بل لم أنس أني تعرضت للأذى. صرت أبحث عن الانتقام من الماضي بطرق متعددة لم أعد أذكرها. ربما كان الهرب من الحي الذي نشأتُ فيه، الوسيلة الفضلى للتخلص من ذلك الكابوس.
أكتب الآن لأن لديَّ القدرة على الإنتقام من الماضي، لأتخلص من رائحة توابله التي علقت في أنفي. ذلك الماضي الذي يبقى يُحدث فيَّ توتراً داخلياً. لم أنج منه على رغم مجدي الذي وصل إلى السماء، وعلى رغم أني أصبحت حرة. أقول هذا لأني حين فكرتُ في أن أكتب مسار حياتي، تدافع الى ذاكرتي ذلك الماضي الآثم الذي حطّم أنفاسي طوال سنوات. عندما أكتب، أكتب بالضرورة عن شيء أكرهه. أكتب عن الخيانات التي لا أصدّقها، بل عشتها ولم أصدّق أنها حصلت معي.
لا، لستُ من يكتب فعلاً، بل هناك من يكتب عني سيرتي.


* * *


مذ افتتحت محلاً للألبان والأجبان على الطريق العام في تلك المحطة الصاخبة عند أسفل الجبل، صرت أعدّ السيارات العابرة وأراقب أرقامها، وأفكّر في الكتابة مع أني اعتبرها خيانةً للذات، وأحياناً جلداً للذاكرة. غالباً ما كنت أخاف من الأحداث المكتوبة. حين تدوَّن الذاكرة على الورق، تصبح أشدّ رهبة ولعنة، كالحب الأول. سلطة العبارات أشدّ فتكاً من سلطة الواقع، تماماً كما الأشياء الغائبة. على رغم ما أصابني من لعنات، كان لديَّ إلحاح لأكتب كل شيء عني، إلحاحٌ لن يجعلني أنجو من شبح الماضي وخفافيشه. مذ جلست في محل الألبان والأجبان صار الناس يقولون: "هذه ليست بديعة، هذه امرأة أخرى".


* * *


ولدتُ في أحد أحياء دمشق العتيقة. لم أكن شهرزاد الحكاية، لأقول كان يا ما كان في قديم الزمان. ليس لديَّ تاريخٌ محدّد لولادتي، وليس هناك وثيقة تثبت يوم مولدي. كل ما أعرفه أو ترويه والدتي العديمة الفائدة واللون، أني ولدتُ في منتصف الليل، على يد داية العشيرة، وقد غمستني بالماء والملح وقطعت حبل سرتي في ذلك البيت الميسور الحال نسبياً. أثناء ولادتي خرجت الخفافيش من ثقوب الجدران والبيوت المهجورة، حلّقت حول الأشجار الباسقة، انخسف القمر وطاف أولاد الأحياء في الشوارع يضربون على الأواني النحاسية والتنك، وينشدون أهزوجة "يا حوتة موتي موتي". كان الأجداد يظنّون أن القمر حين ينخسف تأكله الحوتة. اختلطت أوجاع والدتي أثناء الولادة بقرقعات التنك. لم أسمع شيئاً، كنت أصرخ فحسب. أمي صارت أماً في العشرين من عمرها. كانت مؤمنة بالخرافات. غطّت وجهها بالوسادة، وهي تقول "يا عذراء دخيلك". كانت تصرخ، وكنت كمن تخرج من سجن الجسد الأمومي إلى سجن الحياة.


مع أني شديدة القلق والإرتباك، أمامي الكثير مما ينبغي لي أن أرويه. الكثير الكثير مما ينبغي له أن يخرج من جعبة أسراري. حياتي لا تتلخص بكلمات. عدد كبير من الأحداث المتشابكة، والمعجزات والأساطير والغرائب. على رغم جمالي الطبيعي الآسر ووجهي المشرق بعينين واسعتين، كنت كتلة من الشقاء، وكان قلبي مليئاً بالحزن والكرب. لست مستوعب حيوات، لكن مَن يكتب عني لديه المفتاح السري لملايين الحكايات والتفاصيل التي تشبه عشّ العنكبوت.
كنت نطفة مسكونة بالشياطين تكبر في رحم أمي المظلمة، إلى أن أصبحتُ جسداً شقياً ينمو في رحم المجتمع المظلمة. لا معنى لكل الحكايات من دون الحديث عما أصابني عندما غرس ذلك الوحش أظفاره في مرآتي وحطّمها. لا معنى للحكايات من دون رواية رحلاتي الكثيرة بقدمين عاريتين، من دون رواية حكاية والدتي العديمة اللون، التي توحي شخصيتها بالخراب، وخصوصاً بعد رحيل أبي. لقد سيطر السواد القاتم على أيامها، بعدم ضمّها القدر مع أبي في سرير واحد لإنجاب سبعة أولاد. أمي صاحبة الرحم الواسعة والثديين الكبيرين، مُنعت من إرضاعي، كما من إرضاع اخوتي، لأن حليبها كان يتسبب بالإعياء. قيل إنها مسكونة بالشيطان، وذهبت عشرات المرات إلى رجال دين مسيحيين ومسلمين، قرأوا الصلوات والأدعية فوق رأسها، واشعلوا البخور، ولم تنفع الزيارات في شيء.
كنا سبعة، ثلاثة شبانٍ وأربع بنات. وحده أبي كان يعمل ليل نهار في المصبنة ليفي حاجاتنا، وظلّ على هذه الحال حتى رحل فجأة من دون أن يكون بين إخوتي من يستطيع الحلول محلّه. في مساء غامض، أغمض عينية فجأة، شهق شهقةً ومات، وصعد صوت أمي وهي تندب رحيله. لم أكن أعرف معنى الموت، لكني رأيتهم يضعونه في التابوت، ومن يومها لم أره، اختفى ولم أعرف سرّ اختفائه. كنت أسأل عنه أمي فتقول إنه مسافر. بنى والدي المصبنة بعرق جبينه، في حي طلعة الفضة في دمشق. كان يطمح لأن يجعلنا عائلة سعيدة وينقذنا من الرتابة. عمل في صناعة الصابون، فسمّوه مصابنياً. لم أكن أعرف تفاصيل عن أبي. كان يمضي معظم وقته في عمله، وأمي تتولى أمورنا في البيت. ينسلّ بهدوء من الصباح، ويعود عند المساء أو ما بعد المساء، حاملاً بعض حاجيات المطبخ. لم يكن يعرف تفاصيل عن البيت، لكن شعوري معه بالأمان كان قوياً. لا أقدر على وصف رحيل أبي، ربما لأني كنت في مرحلة لا أعرف معنى الموت.
رحل أبي بعدما احترقت المصبنة. اشتعلت النيران فيها واحترقت. كنت صغيرة وشعرتُ بأن النيران تأكل عظامي وتحرق أحلامي وأصير غمامة سوداء. أنظر في عينيّ أمي وتكرج الدمعة على خديّ وتحتجب زرقة السماء. أيقظ الحريق الشقاء في روحي، كما توقظ القبور رائحة الكآبة. حزينة أمي، تنظر إليَّ وهي تهذي بكلمات نابية، كانت تتسبب لي بالألم النفسي.


* * *


أخي البكر الذي كان من المفترض أن يحلّ محلّ أبي في المصبنة، أصابته الحمّى ومات أيضاً. هربت روحه من جسمه كأنه يهرب منا. شقيقتي الكبرى كانت متزوّجةً، وزوجها ورث عن والده منزلاً في ضواحي دمشق، ومبلغاً من المال، فاعتمد على ما ورثه في مصاريفه، ولم يبحث عن عمل، حتى نفد ما لديه من مال، فأصبحت حياتهما لا تطاق. عادت شقيقتي إلى منزل العائلة، وأضافت عبئاً مادياً ومعنوياً على أسرتي الغارقة في الفقر، لكنها ما لبثت أن توفيت تاركة وراءها طفلة، أخذها والدها بعد ذلك، ثم انقطعت أخبارها.


شقيقي توفيق أدمن الخمر. كان يشرب العرق والنبيذ حتى يثمل ويضيّع الإتجاهات. ظلّ يشرب حتى وجد ضالّته في إحدى الحانات، فاشتغل فيها. في كل يوم كنت أمرّ به أثناء عودتي من المدرسة، لآخذ منه قطعة حلوى أفرح بها. ذهبتُ أسأل عنه صاحب الخمارة الذي أوهمني بأن توفيق في الداخل، وما إن دخلت حتى أنقضّ عليَّ كالوحش الضاري فنال مني وفضّ بكارتي في السابعة من عمري. بكيتُ وأستغثتُ من دون جدوى، ولم أقدر على فعل شيء. بعد هذه الحادثة بدأت أسمع كثيراً عن معنى الشرف في المجتمع، فوقفتُ مرةً عند الباب مذهولةً أتساءل: ما معنى الشرف عند هؤلاء الناس؟ لم يهتم واحدٌ منهم في مساعدتي على العيش بشرف. والدتي أذاقتني المرّ أكثر من الآخرين.
الشرف كان يلاحق شقيقاتي أيضاً. الشرف سجن وهمي ندخله قبل أن نولد، ربما حين نكون مجرد نطفة. الشرف مثل الموج في الحياة يرغي ويزبد. أتقنت شقيقتي نظلة حرفة الخياطة، فاشترت ماكينة وصارت تمارس نشاطها في البيت. صوت ماكينتها كان يزعجني كثيراً، مع أني كنت أحبّ الثياب التي تخيطها. نظلة تعلمت الخياطة وشرعت في البحث عن معمل تشتغل فيه، فلم تجد، فاختارت المنزل الذي تقيم العائلة فيه، وبدأت رحلة البحث عن فتيات يعملن معها في المشغل. لكن كل الأسر رفضت أن تذهب بناتهن الى منزلنا العائلي، لأن الوحش نهش بكارتي.
لا ينفع الإيمان والتقوى في الخلاص من وحش الاغتصاب. من روح الرغبة تولد الجريمة. من روح الكبت يولد الاغتصاب، فيتحول الحب أشلاء. من المؤكد أن الإغتصاب أقوى من الشرّ، ومن حبل مشنقة. نهشني الوحش فدفعت عائلتي كلها الثمن. اختلط الاغتصاب بالفقر ولم يعد لدينا خيار سوى اللجوء إلى الدير. كنت أنظر إلى نفسي وأسأل ماذا فعلتُ حتى أصابني ما أصابني من عار؟!
نسوة الحي لم يرحمن أخواتي بسببي. كانت ألسنتهنّ تلاحق أخواتي بالكلام الجارح في كل مكان. كنّ يُفرغن غضبهنّ فيّ ضرباً وركلاً وقذفاً وسبّاً، فهددت شقيقتي بالانتحار إذا لم توافق أمي على ترك البلد.
الزمن دوّار والفقر كحدّ السيف. لم تجد أمي من يعينها على متطلّبات الحياة، فباعت ما كانت تحتفظ به من مجوهرات في سوق الصاغة. باعت الأساور والخواتم والمباريم والليرات الذهب، لكنها لم تنتفع بثمنها، فقد سرق اللصوص هذه الأموال. في ليلة غامضة سُرق كل شيء، وبقينا على الحديدة، واجتمع الفقر مع الاغتصاب فتهشّمت أنفاسي كالزجاج.


* * *


هبّت عاصفة الهجرة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، فاندفع الشوام في البواخر إلى بلدان أميركا الجنوبية. كثر هربوا من الفقر والجوع، وكثر هربوا من العثمانيين نحو المجهول. أخذوا معهم خردة الاشتياق والحنين وغامروا نحو بلاد غامضة. كانوا يحلمون وركبوا البحر بحثاً عن عالم جديد. وهربوا من بلاد نهشتها الحروب إلى بلاد غرقت بالأحلام.


حين قررت عائلتي الهجرة الى أميركا الجنوبية، لم يكن لديها المال، فرهنت أمي منزلنا في دمشق مقابل مئتي ليرة ذهباً. بصحبة أمي وشقيقتي نظلة، غادرتُ دمشق إلى لبنان، حيث التقيتُ بأشقائي في دير سيدة الناطور في أنفه. على أنقاض دير بيزنطي كان الرهبان السيسترسيان قد شيّدوا هذا الدير في نحو سنة 1115. في أسفل الدير كهف تغمره مياه البحر يسمّى "كهف الناطور" تدور حول تسميته أساطير عدة. يروى أن رجلاً شريراً عاش في تلك المنطقة وفي أحد الأيام ظهرت له السيدة العذراء فتاب وندم على كل أفعاله، وللتكفير عنها ربط نفسه بسلاسل حديد في منزل قرب البحر ثم رمى مفتاح السلاسل في اليم. كان الناس يأتون إليه بدافع الشفقة فيطعمونه ويهتمون به. ويروى أن صياداً اصطاد سمكة ووجد في بطنها مفتاح السلاسل، فعرف الرجل المعذب أن هذه الرسالة من الله تُعلمه أنه نال الغفران، وأن رحمة الله الكبيرة سامحته على أعماله الشريرة السابقة. في مكان إقامة هذا الرجل بُني الدير وسمّي على اسمه.


* * *


أقلّنا قطار من شكا إلى الكرنتينا في بيروت. والقطار كان سفر الروح الى البعد. دخانه سحابة في رأسي، صوته لا يفارق أذني منطلقاً قبالة الأحراج الغضة في الجبل القريب، قبل وصولنا إلى المرفأ، ليلتمّ شملنا في إحدى البواخر.


كانت الرحلة طويلة شاقة. الشمس جنّية صفراء ترسم خيوطها على الماء، والسفينة تركب الماء كأنها تعوم في عالم من الأسرار. السفينة تعوم ولا ندري شيئاً عن الماء المتماوج بالخوف. البحر حوت كبير لا نرى عينه وفمه.
غابت السفينة عن جبال لبنان. السماء والبحر فضاءان من الرتابة. واذا كنا قد قلنا وداعاً للماضي، فإن شبح العار لم يرحل عني، ولا رحل شبح الشرف عن أمي التي كانت تشتمني وتلعنني وتضربني على متن الباخرة. أمي فقدت السيطرة على تصرفاتها، ومنذ العار الذي لحقني، صارت تعتبرني مصيبة العائلة، وعذابها ووصمتها. كانت تضربني على متن الباخرة، فأحتمي بالبحارة الذين أشفقوا عليَّ ودافعوا عني. كانت الباخرة تسير ببطء، وكنا نشعر بالملل، نأكل من زادنا وننتظر أن تنتهي الرحلة.
وصلت الباخرة إلى بوينس أيريس، كأنما مرت علينا دهور في البحر. أكلنا التين المجفف والزبيب. اشتقنا الى المأكولات الطازجة. طيور قليلة تحوم حول المرفأ. طيور لم أرَ مثلها من قبل، تغطّ قليلاً على الماء وتطير. أبرزنا جوازاتنا التركية للسلطات الأرجنتينية، وبعد ذلك أطلق علينا الأرجنتينيون اسم "تركو". نزل المهاجرون من الباخرة، كان الرجال يرتدون الشراويل والطرابيش، لم تكن عائلتي على صلة بأحد من الذين غادروا الباخرة. رأيتُ وجوهاً أليفة، كأن ركاب الباخرة أبناء عشيرة واحدة. نزلتُ في أحد الشوارع القذرة المخيفة التي لا يسكنها سوى الفقراء والمهمشين، حيث كان يقيم في كل غرفة ستة أفراد، وكانوا ليلاً يؤلفون حلقات للرقص والغناء.


* * *


صباحاً أخذ إخوتي يذهبون إلى الضواحي البعيدة ليعملوا، ومساءً يعودون محطّمين، وليس معهم سوى مبلغ زهيد لا يسدّ حاجتنا. ذات يوم دخل علينا التاجر الذي تعمل لديه شقيقتاي، وأخذ يشدّ من أزرهما، فروى لهما أنه لم يبدأ تاجراً كبيراً، بل كان أجيراً في بادئ الأمر. ثم أخذ يزورنا في المنزل، لاستحسانه هيئتهما، وشعوره بأنهما على خلاف المهاجرين الذين يراهم دائماً بحكم عمله.


في المنزل، التقى التاجر ميخائيل جريوس أفراد اسرتي، فأبدى إعجابه بنظلة، وظل يتردّد على منزل العائلة حتى طلب الزواج منها، على رغم أنه تجاوز الخمسين ومتزوّج من امرأتين، فيما كانت نظلة تحلم بزوج شاب. راح ميخائيل يغدق الهدايا على الأسرة وأودعني مدرسة داخلية. أمام هذه الإغراءات قررت العائلة بيع نظلة له أملاً بالتخلّص من الظروف الصعبة التي تواجهنا، فتمّ زواجها منه.
لم أهنأ ولا عائلتي هنئت بزواج نظلة الذي دفع شقيقيَّ إلى الكسل، وراح كل منهما يضع أثمان السلع التي يبيعها في جيبه، حتى انكشفت ألاعيبهما وسرقاتهما، فنفدت البضاعة وأفلس المحل، وكعادة كل منهما راحا يتهربان من المسؤولية، وانتهى بهما الأمر إلى ترك العمل عند ميخائيل، والتفكير ثانيةً في السفر الى خارج تلك البلاد.


* * *


اختار شقيقاي السفر إلى جهة مختلفة، فتفرّق شمل الأسرة. فكّرت أمي فيَّ، إذ لا بد من إخراجي من المدرسة وإعادتي الى البيت. ذهبت إلى المدرسة وطلبت من رئيستها استرجاعي، فرفضت لعدم معرفتها أمي، إذ كان المسؤول أمامها ميخائيل زوج نظلة. جنّ جنون أمي، فأخذت تصرخ، وحاولت تحطيم باب المدرسة، فتجمّعت حولها الراهبات، فتضاعف صراخها حتى سيطر عليَّ رعب داخلي. فأنا لا أريد العودة إلى المنزل، بعدما طابت لي الحياة في المدرسة.


عدت مع أمي والدموع تملأ عينيّ. لا أعرف ماذا سيحدث. كأن الشيطان متسلط عليّ. رحت أتذكر أيامي في المدرسة، وحبّ المدرّسين لي، وسعادتهم بي لكوني أتقنتُ اللغة الإسبانية في فترة وجيزة. شعرتُ بالقهر لأني ابتعدتُ عن المدرسة، حيث كان تعرّفي الى المسرح وأدواره التمثيلية والغنائية التي شاركتُ فيها واكتشفت الراهبات مواهبي الفنية، وأخذن يساعدنني على ممارستها.
استغللتُ غياب أمي وهربتُ من البيت، وعدت ثانيةً إلى المدرسة. كنت في حالٍ من الإعياء الشديد، وأخشى أن أعود إلى سجن البيت مجدداً. فيما كانت الدموع تنهمر على وجهي راحت الراهبات يطيّبن خاطري، وحنّت الرئيسة عليّ، فرحبت بي وأدخلتني إلى المدرسة، واتصلت بشقيقتي نظلة تطلعها على خبر عودتي ورجتها ألاّ تخبر أمي التي عادت واكتشفت غيابي فجنّ جنونها وصارت تهذي، وراحت تبحث عني في كل مكان. نظلة تظاهرت بعدم معرفتها الى أين ذهبتُ. لكن أمي اهتدت إليَّ أخيراً، وأعادتني الى البيت.
تعوّدت النكد والضجيج في البيت الغارق في الفوضى. كنت أتساءل يومياً أين تذهب أمي وتغيب الوقت كله. ظلت لسنتين متواصلتين تخرج في الصباح حاملةً بعض البضائع في الكشة لتبيعها في الطرق وعلى أبواب المنازل، لجمع مبلغ يمكّنها من العودة إلى الشام.
كانت أمي تبكي وتولول متحسّرة على تعب السنين من التشرد وحمل الكشة في شوارع بوينس آيريس، لما دخل علينا صاحب البيت يحمل مظروفاً. كان رسالة من خالتي الموجودة في الشام، تقول إن جدتي رحلت تاركةً ثروة وأملاكاً لا بأس بها، وكانت والدتي وشقيقتها الوارثتين الوحيدتين، وتضمنت الرسالة دعوة الى أمي للعودة إلى الشام لتتمكن من الحصول على نصيبها من الإرث.


* * *


قبل أن تشرق الشمس على أشجار مراهقتي، قبل أن ينبت عشب نهديّ، رأيتُ عاراً يلفّ حياتي، فتلبدت سمائي بالغيوم السوداء. لم تنفع الهجرة من دمشق إلى بلاد بعيدة لإزالة العار والعشب اليابس عن حياتي. مرّت سنتان من حياتي في بوينس آيريس، وظلت تلك الحادثة تسبقني أينما أذهب كشبح لا ينطفئ.


ما إن عرفتُ بخبر العودة إلى الشام، حتى رحت أتذكر الأيام العصيبة التي أمضيتها هناك. شرقطت كل أيام الماضي الأسود في ذاكرتي. أخذني الشرود الى مسافات بعيدة. تذكرتُ الحانة ووحشها الذي كسر مرآتي بأظفاره، الجيران الذين يثرثرون، المصبنة المحترقة، رحيل أبي، عينيه المغمضتين كأنه كان يحلم في منتصف الليل... الشام هي عذابي وجحيمي. ومع ذلك أرادت أمي العودة بي إلى تلك الجحيم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم