الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

تحت خطّ النكبة السورية

راتب شعبو
A+ A-

كل صباح يستقبل النازحون السوريون يومهم بإدراك أنهم نازحون، فتنقبض قلوبهم وتكسو وجوههم القسمات والملامح المعتادة لشخص منكوب بخسارة مسكنه وعمله وحياته المستقرة. كل صباح يستقبل المصابُ السوري يومَه بإدراك أنه مصاب، وعليه أن يتذكر إعاقته الخاصة؛ أنه بات أعمى أو أنه بات مشوهاً برجل واحدة أو يد واحدة، أو بات عاجزاً عن العمل أو عن خدمة نفسه، فترتد نفسه إلى سجن من الحسرة والعجز وتبدأ شخصيته بالتحول بما يناسب عاهته الجديدة. كل صباح يستقبل اليتيم يومه بإدراك أنه بات، بفعل عنف طائش، بلا أب أو أم، أو بدونهما كليهما، فيبتلع جرعته الصباحية من القهر ويدخل في إطار صورة اليتيم. كل صباح تستقبل الأم المثكولة يومها بإدراك أنها فقدت ابنها إلى الأبد، وتبدأ نشاطها على خلفية جديدة من الحزن، وكذا الزوجة والأب والأخ والأخت والصديق المنكوبون بفقد أحبتهم. كل صباح يتفقد السوري خساراته ويبدأ يومه آملاً بقدر أقل من الخسائر. كل صباح تصحو سوريا على بقعة الخراب وقد امتدت أكثر لتشمل المزيد من المناطق والمزيد من الأسر ومن الأفراد الذين كانوا لا يزالون حتى الأمس فوق خط النكبة قبل أن تطالهم يد هذه المحرقة المجنونة.


كل صباح تعتاد عيناك على وجوه شباب بلباس عسكري يقفون على الحواجز بضجر باد. وتعتاد عيناك كل صباح على رؤية رجال يسيرون في الشارع بين المشاة وهم يرتدون الجعب ويحملون باسترخاء بواريد حربية، فلا تشعر بالغرابة. التكرار يقتل الغرابة في الغرابة مهما كانت غريبة. وكل صباح تعتاد على وجوه أطفال بائسين ومتسخين على إشارات المرور يتسولون ويبرعون، بحكم العادة، في شتى أساليب الاستعطاف. كل صباح تطلع الشمس هنا على أكوام القمامة المتراكمة في كل مكان، وعلى أناس من كل الأعمار يمتهنون نبش القمامة واسترداد ما يمكن أن ينفعهم منها، فتصبح أكياس القمامة غير المنبوشة لقية باعتبارها مورد رزق.
مع الزمن تحفر النكبة الشخصية لذاتها مستقراً دائماً في ضمير المنكوب وتصبح جزءاً أصيلاً من ذاته. مع الزمن يعتاد المنكوب على نكبته ويعي ذاته ككائن أقل، ككائن أثقلته النكبة وخفضت من أهليته وفق معايير مكرسة وحاكمة لوعينا العام، بما في ذلك وعي المنكوبين أنفسهم. مع الزمن "يستنكب" المنكوب حين تتسلل نكبته الشخصية بثبات قاهر إلى عمق ذاته وتستقر. حينئذ تستكين ذاته على قهرها ويشتعل في داخله حنين ممض إلى ذاته ما قبل النكبة، إلى تاريخه الشخصي قبل أن تحل به النكبة وتحوّل التاريخ السابق لها إلى تاريخ ذهبي وفردوس مفقود. حين كان مَن هو منكوب اليوم مكتملَ الجسم والصحة، أو حين كان له بيت وحارة ومكان للعمل، أو حين كانت له عائلة يعود إليها أو عائلة تلتئم مع حلول المساء في بيت، أو حين كان لا يجوع ولا يخاف الجوع، أو حين كان قادراً على حماية كرامته وقيمته البشرية، ...الخ.
مع الزمن يعتاد مَن لا يزالون فوق خط النكبة على نكبة هذا الكائن المنكوب، كما يعتاد هو على نكبته. يعتادون مثلاً على رؤيته مشوهاً ويصبح تشوهه جزءاً من هويته ومن تعريفه في أذهانهم، حتى يبدو لهم مع التكرار كأن تشوهه يشبهه، إلى حد قد يتبادر لهم أن نكبته لم تختره عبثاً، وربما يتمادون في هذا الاتجاه إلى حد الشعور بأنه يتحمل شيئاً من المسؤولية عن نكبته الخاصة، وكأن فيه طبيعة جاذبة للنكبة. فيريحون ضمائرهم مما قد لا تحتمله الضمائر، ويرسمون لذواتهم طمأنينة موهومة يركنون إليها، إذ يخالون أن الخط الذي يفصلهم عن النكبة كتيم على أمثالهم.
هكذا يفكك الفشلُ العام النكبةَ العامة إلى نكبات فردية، ويحيل حتى الأبطال إلى أشخاص منكوبين، ويرفع، في الآلية ذاتها، مجرمين إلى مستوى أبطال. وهكذا يفكك الفشل العام المجتمع إلى مَن هم تحت خط النكبة ومَن هم فوقه؛ خطٌ لا تعبره سوى جسور من الشفقة والتعاطف.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم