الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

إلى فراس... اللّوحة التي لا تميل

المصدر: "النهار"
أنس البريحي
إلى فراس... اللّوحة التي لا تميل
إلى فراس... اللّوحة التي لا تميل
A+ A-

كيف لروحكَ أن تبقى حاضرة بهذا الكمّ من الجمال،

تحيط بنا وتمنعنا من تصديق حقيقة الموت؟!

كيف لقوة هذه الابتسامة البقاء مسيطرةً على المكان، 

تُنسينا وجعَ الاختناق، تحيطنا بذاكرتك فقط؟!

موتكَ المباغت كرصاصةٍ 

خلق تساؤلاتٍ

عن أهمية الحياة بعد موت الشرفاء،

تساؤلاتٍ عن العدالة الإلهية، 

وهل من عدالة على الأرض

حين تُختَصرُ ذاكرة المكان بابتسامة رجلٍ

يسابق جوعكَ ويُطعمكَ بسخاء 

سلطةً عربية من صنع أمّه؟! 

روح هذا الرجل عريقةٌ بشدة،

لا يمكن اختصارها بدعاء وعزاء وكلمة.

اعتدت في حياتي على تقدير النبلاء المبتسمين في كلّ

الأوقات، فكان نصيبي أن يكون في حياتي صديقٌ نبيلٌ بشهادة إنسان من الدرجة الرفيعة. 

نعم! 

لقد عذَّبتنا الحروب، التقسيمات، الأجندات الداخلية والخارجية، الصفقات، الميليشيات، الشبّيحة، الوحدة الوطنية، كلّ هذه الكلمات والشعارات، الترّهات المعادية للإنسان مضموناً والمتاجرة بحياته علانيةً باسم الأوطان. 

من بداية العمر الدراسي يصطفّ وجع القدس من الكتب إلى رفوف الذاكرة كمرطبانات الطعام العفن، 

يخنقنا 

ويرسم صورة حنظلة في انعكاس ظلِّنا على الأرض. 

تمنينا الخلاص لفلسطين وغنينا 

"وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان"،

ففاض على قلوبنا حزن بغداد 

وفاض الصوت الحزين على عمارة بعمرِ الزمن 

وصورة جندي مزقه الانكسار.

فجأةً 

من بين كلّ هذا الحزن المتشابك العميق 

تحرك الهواء في دمشق وامتلأت صدورنا بالحرية

بشعارات جديدة وعناوين لم نشهدها قبل 

بأظافر ممزقة، وجدران متداعية من عصف الكلمات 

حلمنا بالنهوض، 

راغبين في اقتصاص الجزء العفن من الرغيف 

حتى اختنقَ الهواء، 

وسقطَ الجدار على كلّ الأحلام. 

انفجرت دمشق،

تسلل العفن إلى كلّ الرغيف 

تبدلت الشعارات باسم الله والدين والتحرير والكتائب ونصرةالإسلام... 

وتطول المهزلة.  

هربنا بأجسادٍ تبحث عن أمانها، 

عن شطٍّ كماء العين، 

جئنا إلى مدينة الأحلام المكتظة بالشعارات 

والمكتظة أيضاً بالحرية والحب. 

جئنا إلى بيروت، 

بيروت الضوء دون كهرباء ودون اشتراك، 

فرقصنا، ورسمنا، وسهرنا، وتعلمنا، وسكرنا، وصلينا.

جئنا إلى بيروت التي تشبه حنان دمشق ودهشةَ باريس 

حيث هنا تعلمنا أن الحريّة هي كلمة على جدار، 

وقصيدةٌ بصوتِ صيادٍ يغار على بحر بيروت، 

وامرأة ترسم وتكتب، وتناضل باسم الإنسان. 

تنفسنا الهواء بشهية حلبية، 

اشتممنا ما كان ينقصنا من الحياة.

لكن،

في شهر آب الحزين اختنقت بيروت، 

ماتَ الأصحاب والأغراب والطيور، 

تناثر القمح على أصابع مقطعة. 

شعرتُ أن فمي أصيب بالخذلان. 

لا كلام يعبّر، ولا وصف دقيقاً يترك أثره على الآذان. 

كنتُ أحاول التوازن بين غربتي ووطنين، 

واحد من ياسمين دمشقي قبّاني يصرخ: 

"يا ست الدنيا يا بيروت مَن ذبح الفرح النائمَ في عينيك؟"

وآخر فيروزيّ رحبانيّ اللحن يقول: 

أحبُّ دمشقَ هواي الأرق أحبُّ جوارَ بلادي. 

ضعتُ في عمري مرتين، مرةً حينَ ماتت أمي 

ومرةً حين انفجرت بيروت. 

خائفاً أن أسرق من أصحاب هذه الشوارع 

ولو خطوة 

حاولتُ أن أهرب في محاذاة الرصيف 

وقد مضى وقت لعين من الترقب والخوف والدعاء، 

وبينما ألملم وجع دمشق وبيروت، 

وأبحثُ في تقاسيم وجهي 

عن طفل تناثر مع نيترات الأمونيوم 

ماتَ فراس! 

فاختنق الوقت. 

بكته السماء في آب، 

زخّات من الحزن العميق 

لا أعرف كل الجميلين الذينَ ماتوا بلا ذنب 

لكننا اعتدنا أن يموت الطيبون باكراً. 

كنت سعيداً بصداقة فراس وممتنّاً للأقدار وللوقت، 

لكل الزيارات الخاطفة لإلقاء التحية عليه 

والتي كانت تنتهي بثلاث ساعات من الأحاديث 

عن الأناقة والفن، عن السياسة والعروبة،

عن الحب لبيروت الأمّ والزوجة والابنة،

عن كل اللوحات التي علّقها بحرفة ومهارة 

دون أن تميل. 

فراس، 

ليس لأنه صديق فقط 

بل لأنه رمزية الشرفاء، 

ولأن هذا الوقت يحتاج إلى البحث في أسئلة عدة: 

لماذا نموت بلا موعد منطقي وحقيقي؟

لماذا يواسوننا بشعار غريب يسمّونه الشهيد؟

شهيد من؟ ولمن؟ ولأجل ماذا؟

لماذا تحكمنا هذه الوجوه الهرمة؟

ومتى؟

متى يحين موعد تحقيق الشعارات

لكي نموت

كما تموت الفراشات

حين تتألق شهوتها

لا حين يموت الضمير العربي؟!

في فراق موتانا 

لا احتمال واحداً للشهيق الأخير دون دخان أسود نتن.

فراس مات

بعدما علّق اللوحات التي لا تميل.

فراس هو اللوحة التي لا تميل!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم