الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

قبلةُ السنة والحياة تكفي

المصدر: "النهار"
رضا نازه- المغرب
قبلةُ السنة والحياة تكفي
قبلةُ السنة والحياة تكفي
A+ A-

مثل آخر لقمة من وجبة شهية يتلوها النعاس فورا، أحس بطعم خضوع لذيذ. سرى في كيانه بخار الاستسلام ولفه لف خيوط الحرير حول دودة تأمل أن تصبح فراشة جميلة بعد السبات. كيف يصف ذلك الخدر وما اسمه. لا داعي. الإحساس متفلت لا يقبل سلطة الأسماء. قد يسميه الخبراء دوبامين أو سيروتونين أو أي لفظة تختم بالأنين والحنين. وليس كل أنين من ألم. والحنين قد يحدث الآن هنا قبل تصرم الأزمنة ودون فراق الأمكنة وساكنيها. ما له ولتلك الطلاسم. الحالة حلت وليتها تصير مقاما، والبنج دليل لا يحتاج إلى دليل. ما كان عليه إلا أن يمعن ويستغرق في استنشاق زفير المعشوقة الدافئ اللذيذ كأنه خلاصة كيانها الملتهب تهب من خرمي أنفها وهي تشاركه القبلة الطويلة. كأنها قبلة أولى وأخيرة تعوض قبلاتٍ تأجلت منذ زمن غابر. لكن القبل معجلة مستعجلة تسير عمقا أو علوا ولا طول فيها قط. لا يجوز أن تطول القبلة وإلا خنق الزفير الشهيق، وكبست الأنفاس على الأنفاس وقتل الحبيب حبيبه من حيث أراد له الحياة أو بعثا دون موت على ضفاف الشفاه والأنفاس المحمومة..

المسكين. أخذته السكرة. استلذ الأنفاس الدافئة رغم أنها ثاني أوكسيد كاربون المحبوبة. لا بأس. عذاب الحبيب عذوبة وثاني أوكسيدُه عين الأوكسجين. وطالت القبلة أعلاه ولا شفاه تظهر في العين المجردة. لكن التنفس توقف. والمحبوبة ما زالت تشحنه بنفسها المكرور غير المكرر. لا تتأثر ولا تختنق. تزفر فقط دون شهيق. كأنها لم تكن انسانا يحتاج أن يطفو ليجمع شيئا من هواء طلق ثم تعود ليموجَ بعضهم في بعض ويغوص أو يموت..

تمادى في استنشاق الزفير. فقدت القبلة كل طواعية وصارت جبرا. قهرا. صارت إكراها. أحس بغطة كابوس ليلي جاثم على رئته المفرغة من الهواء. أراد أن يصرخ. يكفي. يكفي قبلات. القبلات للحياة لا للموت. لا يمكن للجسد أن يحتمل الجسد أكثر من مسافة متعة عاجلة ثم يستجمع كلّ جسدٍ جسدَه بعيدا. وحده ذلك الطير الذي يرقص لأنثاه ساعة وساعتين في تبرج معكوس مقلوب، قد فهم. يُظهر لها كل ألوانه وتقاسيمه وألاعيبه وتغريده. يتخفى منها ويفر ثم يكر ثم يفر. وبعد كل ذلك الجهد الجهيد يلتحمان قدرَ ثانية ثم يطلقان الجناح للريح. لكل جسده والأجساد غريبة مهما تقاربت. والفرق أصل. ولا بد من فرق بعد الجمع.. في غمرة القبلة المحمومة تذكر زمن التباعد وضرورة التباعد وحتمية التباعد. ما كان عليهما أن يتقاربا قط. انتابه خوف شديد. دوريات اليقظة الكورونية قد تمر في أية لحظة. قد تعتقله. بجنحة عصيان أوامر التباعد الكوروني. فقط..

لكن محبوبته السادية لم تطلقه. أنفاسها ما زالت تقتحم عليه أنفه ورئتيه وكيانه، ولا تتجاوز المقدمات. أحس بحريق يشب في قصبة الهواء وفي صدره ويوشك أن يقتله في أية لحظة. خنقا بلا احتراق. حاول مدافعتها لتنفصل عنه. عبثا. سلطة أنفاسها تضاعفت وتفاحشت. كأنها مخلوق من كافور يتبخر في كيانه، يحل فيه حلول عفريت في قمقمه. حاول أن يتزحزح بقوة لكن أنفاسها لم تكن تزيد إلا وخامة والأنكى من ذلك أن لعابها الطافح انضم إلى جوقة المعاناة. أخذ يستغيث بفم مزموم مكتوم بالشفاه القاتلة. رباه. رباه. الحياة قبل الحب.. الحياة أولى.. الحياة تكفي..

صرخ صرخة انفتحت لها عيناه في غرفته الساكنة المحتقنة كأنها غرفة إعدام بالغاز. كان مستلقيا بملابس العمل، جِذعُه فوق الفراش وأطرافه خدَّرها التدلي. مد يدا مخدرة ثقيلة إلى وجهه، وأخذ يحاول نزع الكمامة التي أهملها على فمه وأنفه تذيقه طعم أنفاسِه وريقِه.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم