السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

مشروع إعادة إعمار وسط بيروت سنة 1914!

عبد اللطيف فاخوري
A+ A-

نشرت صحف بيروت في كانون الثاني 1914 خبر رغبة بعض الأغنياء في بيروت بتأليف شركة عقارية بيروتية تتولى هدم الأبنية القديمة في بيروت وذلك من الميناء الى سوق المنجدين (عند باب يعقوب) فعصّور (ساحة السور – رياض الصلح) فباب الدركاه (تجاه التياترو الكبير) فالميناء.


الغاية من ذلك جعل بيروت بأسواقها وأبنيتها على نسق أوروبي مع توسيع الطرق وترتيب الأرصفة. وقد راجع مؤسسو الشركة والي بيروت بكر سامي بك الذي درس المشروع وقرر تأليف لجنة من أهالي المدينة لاستدانة ما يلزم من مال لتنفيذه.
وتلقى بكر سامي بك في الرابع عشر من شهر تشرين الأول 1914 برقية من نظارة الداخلية في الآستانة تتضمن إعلان السلطان محمد رشاد الجهاد المقدس على اعداء الدولة والخلافة. فاستغل بكر سامي بك نشوب الحرب العالمية الأولى واستحصل من الإدارة المركزية في الآستانة ومن مشيرية الشام الموافقة على هدم الأسواق والأبنية القديمة.
وفي صباح الخميس الثامن من شهر نيسان 1915 نظمت بلدية بيروت احتفالا حضره الوالي المذكور ورؤساء الأديان وكبار المأمورين والوجهاء أي الوجوه (جمع وجه) والأعيان (جمع عين)، وكانت البلدية قد أعدت معولا فضياً إستعمله الوالي في هدم أول حجر من أول بناء برسم الهدم من أبنية سوق الحدادين (عرف هذا السوق في ما بعد بشارع اللنبي).
وكان قبل المباشرة بالهدم قد أنذر أصحاب الأبنية لإخلائها بمهلة ثلاثة أيام. فجرى تنفيذاً لذلك إخلاء ماية وأربعين مخزناً وتسعين بيتاً دون ان يبدي أحد أية معارضة خوفاً من الأحكام العرفية العسكرية والعقوبات التي قد يتعرض لها أي معارض.
وكان الوالي المذكور قد ألف لجنة بلدية لتخمين الأملاك الواقعة تحت الهدم وإعطاء أصحابها "وثائق" يصير دفعها غبّ إنتهاء الحرب. وتقرر أن يكون عرض الشوارع الجديدة عشرين متراً.
وفي التاسع عشر من شهر نيسان من السنة نفسها تم شق الشوارع التي أخذت في ما بعد أسماء فوش واللنبي وفخر الدين (شارع المصارف الحالي).
وفي أيلول من السنة نفسها ألف الوالي نفسه لجنة من السادة عمر بك الداعوق وانطوان عرب وحسن القاضي وكلفها بوضع نماذج للدور الجديدة المنوي بناؤها. ويبدو أن أعضاء اللجنة المذكورة أرادوا بعد إنتهاء الحكم العثماني إثبات الهوية العربية لبيروت فجاءت الأبنية الجديدة والتي لا تزال قائمة في شوارع فوش واللنبي وويغان والمعرض تنبىء عن هذه الهوية بما تبينه هذه الأبنية من عقود ومقرنصات وقناطر وأعمدة وزخارف.
وكان الولاة الأتراك قبل بكر سامي بك قد سعوا قبل ذلك بتوسيع بعض شوارع المدينة ولاسيما سوق الفشخة أي الشارع الممتد من جامع الأمير منصور عساف (السراي) شرقاً وصولا الى باب إدريس. والذي كان صاحب الدكان يعرض أمام دكانه بضاعته فيضع سحاحيره وأولاده وحميره بحيث لا يبقى لعابر هذا السوق سوى فشخة. وفي سنة 1894 صار توسيع هذا الشارع وسمي الشارع الجديد الى أن فرض الانتداب الفرنسي تسميته بشارع ويغان.
وتم أيضاً هدم بقايا باب الدركاه وجامع الدركاه والحمام التركي والكنيسة المسكوبيه وغيرها من أجل تخطيط شارع المعرض، نسبة للمعرض الذي أقيم في الشارع المذكور.
ولم يتمكن بكر سامي بك من إتمام المشروع فقد غادر بيروت في الثامن والعشرين من شهر حزيران 1915 وجاء خلفه عزمي بك في الأسبوع الأول من شهر تموز 1915 والياً على بيروت.
وكان عزمي بك مثالا للدقة والنظام في أعماله، فكان الناس يضبطون ساعاتهم على وقت مرور عربته بعد الظهر في طريقها الى دار الحكومة (كما نضبط ساعاتنا اليوم على مواعيد تقنين الكهرباء – تأمّل) ويعود الفضل لعزمي بك في تنفيذ مشروع اعادة اعمار بيروت وكانت له في بيروت آثار تذكر فتشكر.
كان عزمي بك صغيراً في جسمه، جباراً بارادته، علّم الناس كيف يكون النظام وعلّم المأمورين كيف تكون الخدمة.
وقد بلغ من تشدده في الحفاظ على النظام انه لم يكن احد من الموظفين يجسر على التغيب دقيقة عن ميعاد العمل، أو تعطيل أمر من أمور الادارة (ما أبعد الليلة عن البارحة). روت جريدة "المعرض" في عددها الصادر في اول سنة 1927 ان محررها وصل عند الساعة الثامنة صباحا الى دائرة محكمة التجارة فوجد الباش كاتب (لا نزال نقول لرئيس كتاب المحكمة باشكاتب اي رئيس الكتبة) مشغول البال يستعجل مباشر المحكمة لاحضار القزّاز لاصلاح لوح زجاج محطم؟ ولما سئل الباشكاتب عن سبب اهتمامه اجاب: وغداً ماذا اقول للوالي عندما يمر من هنا مفتشاً الدوائر ويرى لوح الزجاج مكسوراً؟ وهو يمر كل يوم وفي ساعة لا يعرفها غيره وغير الله؟
وذكرت الصحيفة حادثة ثانية مؤداها ان عزمي بك كان قد امر بالمحافظة على النظافة في السراي، وصادف ان احد المتقاضين كان ماراً في الرواق وبصق في احدى الزوايا من غير انتباه ورآه الوالي فأخذه من اذنه واضطره الى ان يمسح البصقة عن الارض بمنديله.
وعزمي بك هو الذي اشرف على بناء النادي الذي عرف بنادي عزمي بك، والذي اتخذه المفوض السامي بعد الانتداب الفرنسي قصراً له وعرف بقصر الصنوبر. ومن باحة مدخل هذا القصر اعلن الجنرال غورو في اول ايلول 1920 دولة لبنان الكبير بعد ان اجلس البطريرك عريضه الى يمينه والمفتي مصطفى نجا الى يساره، بعد ان كان المفتي ايام الحكم العثماني يجلس الى يمين الوالي التركي.
كما ان عزمي بك هو الذي قلب القشلة الهمايونية (الثكنة العسكرية) وجعلها داراً للحكومة وفرشها بالاثاث الجميل الفخم وضم فيها دوائر الحكومة كلها وعرفت من يومها ولا تزال بالسراي الكبيرة.
يذكر ان عزمي بك وجد ان عدد مأموري الولاية لا يكفي لترقي الحالة الزراعية فيها فقرر مجلس عمومي الولاية بطلب منه رصد ميزانية كبيرة للزراعة وكان من بنودها تأسيس مكتب زراعي في كل لواء من الوية الولاية. وابتاعت الولاية الاراضي اللازمة لهذه المكاتب. وقد افتتح عزمي بك سنة 1915 نموذجاً زراعيا وداراً للحليب في بيروت وحدد لهذا المكتب 121 الف غرش كمخصصات سنوية. ولما رأى تأخر صناعة الالبان والاجبان في البلاد، اصدر أمره بافتتاح مكتب الالبان سنة 1916 احياء لهذه الصناعة وترغيباً لأربابها، وتقرر قبول عشرين تلميذاً في كل عام يتعلمون على نفقة الحكومة، وعلى أن تتولى مديرية الزراعة في بيروت ادارة المؤسسات الزراعية والنظارة على مأموري الزراعة.
وثمة مأثرة من مآثر عزمي بك غفل عنها المؤرخون – من دون قصد حتماً؟ - جديرة بالتنويه وهي تتمثل بما قام به من أجل تعليم الفتيات فقد ذكرت عنبرة سلام الخالدي في ذكرياتها أن الأديبة التركية خالدة أديب استلمت سنة 1917 إدارة معهد المعلمات اللواتي خصص لهن دير راهبات الناصرة في الأشرفية. وأنها أي عنبرة تعرفت على خالدة أديب في مجلس حضرة جمال باشا الذي اقترح عليها أن تعلم خالدة اللغة العربية على أن تعلمها خالدة اللغة التركية. وأضافت عنبرة بأن والي بيروت عزمي بك شجع تلك السنة (1917) على إنشاء ناد اجتماعي للفتيات المسلمات وان هذا النادي افتتح فعلا في الثالث والعشرين من شهر تموز سنة 1917 واتخذ له مقراً في قصر الخوري بزقاق البلاط وقام بعدة نشاطات ثقافية من محاضرات وندوات واستقبل ادباء وشعراء.
واذا كان الأغنياء لم ينجحوا قبل بدء المشروع بتأسيس شركة عقارية لتملك الأبنية المطلوب هدمها، فإنهم عادوا وتملكوها بطريقة غير مباشرة بعد الهدم، عندما عمدوا الى شراء الوثائق من حامليها وقاموا بدفع هذه الوثائق للبلدية لقاء تملكهم قطع الأراضي الجديدة.


محام ومؤرخ

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم