السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

المطران جورج خضر... المُعَلِّمُ الأَبيَض

المصدر: النهار
الدكتور جورج كلّاس
المطران جورج خضر... المُعَلِّمُ الأَبيَض
المطران جورج خضر... المُعَلِّمُ الأَبيَض
A+ A-

الدلالةُ الإيمانيةُ والفلسفيةُ التي إنطَبَعَتْ بها عِظاتُ المطران جورج ومقالاتهُ، تُشَكِّلُ بِبُنيَتِها الفكريَّةِ واللاهوتِيَّةِ رُكْنَ الزاويةِ في الشروحاتِ الكَنَسيَّةِ الأنطاكيّةِ، وفي كَوْنِيَّةِ اللاَّهوتِ المسيحيِّ والكوزموبوليتيَّةِ الإنفتاحيَّةِ لِعُمقيَّاتِ التلاقي السَوِيِّ بينَ الحواراتِ والحضارات.

عَرفتُ المطران جورج خضر من خلال (آحَاداتِه وسُبوتِهِ) في جريدة "النهار"، وتعرَّفتُ إليه أَعمقَ من خلال مقابلات طويلة أجريْتُها ضمنَ مَلفّاتٍ في (ثقافية النهار) بإشراف شوقي أبي شقرا، وأبرزها مِلفّانِ شاركتْ بهما نُخَبٌ مُفَكِّرَةٌ ومُثّقفة، هما (المُثَقَّفُ والإيمان) و(المُثقَّفُ والمَوْت)..! وأَدمَنْتُ التَثَقُّفَ عليهِ الى أن أصبحْتُ من مُريديهِ ومُقلِّدي فِكرِهِ الإيمانيِّ المُنْبسِطِ شَرْحاً في المَنظوراتِ، والعَمِيقِ الغَوْرِ في الماورائيّاتِ، والذي أَجْهَدَ وإِجْتَهَدَ لإبتكارِ مُصطلحاتٍ وتَوليفِ تراكيبَ ولَفْظِيَّاتٍ تتَوافقُ مع مَخزونِهِ الفِكريِّ وفلسفةِ الإيمانيَّاتِ العَقيديَّةِ التي كان يَستنِدُ إليها في كِتاباتِه وعِظاتِهِ وقَوْلاتِهِ لِتتواءَمَ معْ مُستلزماتِ أَيِّ ظَرفٍ ومُتَطَلِّباتِ أَيِّ مَوقف.

في نَقْدِ الخِطابِ وفَهْمِهِ، تَعَلَّمْنا قاعدةً ذَهَبْاً في عمليةِ التَفكيكِ والتَحليلِ، مِفتاحُها أن أوَّلَ قِطعَةٍ يَتُمُّ تفكيكُها بهدفِ التحليلِ والفَهمِ، تكونُ آخرَ قِطعةٍ في إعادةِ التركيب.

من هذا المنظورِ الأسلوبي الكثير المُعجَمِيَّاتِ المُتخصصةِ في الدينِ والفلسفة والتاريخ والحضارة، بَنى المطران جورج قاموسَهُ الكِتابيَّ الخاص، وأّسّسَ مَدرَسةً فكريةً إلهامِيَّةً، إِنتَسبَ إليها كثيرونَ عَنْ فَهْمٍ وقَصْدٍ، وإنضَمَّ الى صُفُوفِها كثيرونَ رَغْبَةً بالإستِزادَةِ والفَهْمِ أَكْثَر، لأَنَ النَاهِلَ من نَبْعِهِ يَغُبُّ غَبَّاً متى غَرَفَ ورَشَفَ وإِستَهْنَأ، ويَتمنّى لَوْ أنَّ بمقدورِهِ أَنْ يَعْتَمِدَ بمَجرى مَاءِ مَرَّتَين..!!!

في مجموعةِ عِظَاتِهِ ومقالاته الصادرة في مُجَلَّداتٍ ثلاثةٍ بعنوان "المُعَلِّمُ"، والمُوَزَّعَةِ على ثلاثةِ مَحَاورَ مُتكامِلةِ المواضيع ومُتْقَنَةِ التَصْنيفِ ومُحكَمَةِ التوثيق بين (الأعياد السيديّة) و(القديسون) و(آيات وطقوس)، حَرِصَ سيادتُهُ أَنْ يَكْتُبَ للنخْبَةِ التي تُريدُ أَنْ تَقْرأَ وتَغتذي وتنمو بالمعرفة. ولمْ تَكٌ أُسلوبِيَّتُهُ هذهِ شكلاً من صُنوفِ الكتابةِ الأرستقراطيَّةِ أبداً، بل لِشِدَّةِ غَرَقِهِ بالمَسيحِ فِكراً وإيماناً وسُلوكاً، وتَشَبُّهاً بالسيِّدِ وجَعاً وحِكمةً، وحُبَّاً بالمَصلوبِيَّةِ، جاءَتْ مَقَالاتُهُ كِتاباتٍ نَوْعِيَّةً وأفكارًا مُتَنَوِّعَةً ونَسيجَ وَحْدِه. وهذهِ من علاماتِ التَمايُزِ في صِناعةِ الكتابةِ المَضغوطَةِ والشديدةِ الإختزالِ والكثيرةِ اللُصُوقِ بالمَقَاصِدِ التي إرتكزَتْ عليها بِنائِيَّاتُ (النَصِّ المُخْتَلِفِ) .

المطرانُ المِلفانُ جورج خضر، عَلاَّمَةٌ بِبَساطَتِهِ، فَهَّامَةٌ بطروحاتِهِ، رَسولِيٌ بِعظاتِهِ العَميقةِ، ومِثالِيٌ بِفَقْرِهِ الى اللهِ الذي نراهُ في مُحَيّاه، والعَفيفُ بِشِدَّةٍ عن مباهِجِ الدُنيا، والدائِمُ التَوْقِ لِمُلاقاةِ رَبِّهِ بِثَوبهِ الأبيض الكثير النورِ وطَلَّتِهِ ذاتِ البَهاءِ.

سِرُّ المِهنَةِ في أسلوبيِّةِ كتاباته-العِظات التي توزّعت بين 1972 و2005، أَنَّه كان يعرفُ ماذا يكتبُ؟ وعن ماذا يكتبُ؟ وكيفَ يكتبُ؟ ومتى لا يكتُبُ؟

لكنَ الُّلغْزَ الأصعَبَ كانَ في السؤال الخامس (لِمَنْ يَكْتُبُ؟) ..!

وفي مقالٍ لي في (النهار) 1999، حول أسلوبياتِ الخِطابِ في عظاتِ المطران جورج خضر ومقالاته، والتي كانتْ تِشْكِلُ أفْهامُها على كثيرين لإغراقهِ نَصَّهُ بالفلسفياتِ والتعريفاتِ والإستشهاداتِ الكِتابيَّة، أنتهيتُ الى خُلاصَةٍ، "على مسؤوليتي" هي أنَّ المطران جورج خضر يَكْتُبُ لِيُسْمَعَ ويُفْهَمَ، بمعنى أنّه يكتُبُ للأُذُنِ وليسَ لِلعَينِ...حَسبُهُ أنَّهُ مَذْبَحِيٌ يرى الى كلِّ الناس على أنّهم جالسونَ في الصفوفِ الأولى لكنيسة الأحدِ، وأنّهُ الواعِظُ /الراعي الحَريصُ على الخرافِ، والجَوهَرجِيُ الصائِغُ الذي يَحْتَرِفُ تَركيبَ الدُرَرِ في واسِطَةِ العِقدِ الكثيرِ الفرادةِ والغنيِ بالجمال..!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم