الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مركانتيليّة الدولار مصيرها الانهيار

المصدر: "النهار"
سعد نسيب عطاالله
A+ A-

تتألف عملة الدولار الأميركي الورقية من حبر وورق، دون أية تغطية ذهبية، كما تتشوّف بذلك أحياناً بعض الدول الافتراضية للدلالة على "قوة" عملاتها الوطنية ، علماً أن معظم ودائع الذهب لتلك "الأنظمة الورقية"، ومنها لبنان تحديداً، موجودة في الخزانة الأميركية.

للأسف، إن مناهج التدريس اللبنانية لا تتضمن هذه المعلومات حتى تكون الأجيال على بيّنة واضحة من أهمية هذا الموضوع على مستقبلهم المعيشي، في وطن يدّعي "الاستقلالية والسيادة والحرية"، له عَلَم، ونشيد وطني، وعملة وطنية، ويترنح مصيره النقدي كلما شحّ مخزون الدولار الاميركي في المصرف المركزي.

العجب أيضاً، أنه مضت عقود على معالجة العملة الوطنية اللبنانية في غرفة عناية الدولرة الفائقة، حتى استنزف ذلك كل احتياطات العملة الأميركية، وسقطت الليرة في كوما نقدية ميؤوس من استعادة صحوتها واسترجاع قوتها الشرائية.

أشرف على هذه العناية الفائقة المستدامة والهدامة، حاكم مصرف لبنان، رياض سلامه، من أجل الحفاظ على معدل سعر صرف الليرة مقابل الدولار، طوال عقود، توالت فيها على قيادة دفة الدولة نحو المجهول طغمات سلطوية متسلطة وفاسدة، قامت بتبذير ونهب كامل احتياط الخزينة العامة.

اشتدت حالات الفساد والإفساد مع تكاثر أعداد المصارف المحلية التي عملت على استقطاب أموال المودعين من خلال تقديم فوائد عالية وخيالية على ودائعهم، التي استثمرتها في سندات الخزينة الصادرة عن المصرف المركزي، في حين كان يقدّم حاكم المصرف المركزي تلك المبالغ الضخمة أضاحي وقرابين في هياكل فساد القطاع العام، التي تشرف عليها، ولا تزال، مجموعات من "علي بابا"، ولصوصها الكثر!

تبخرت أموال المودعين في طبخات رديئة ومشبوهة، شارك فيها أصحاب المصارف الذين حولوا أرباحهم خلسة إلى الخارج، وتركوا أموال المودعين تحت رحمة حاكم مصرف لبنان، التي قدمها عطاءات مجانية إلى زمر السلطات الثلاث، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، بعيداّ من أي رقابة أو محاسبة، سابقة أو لاحقة.

ضاعت أموال المودعين، وتاه أصحابها، ولا يزالون، في دهاليز تصريحات ووعود رسمية كاذبة، غير واقعية.

شحَّ رصيد الدولار في محفظة المصرف المركزي الذي يعمد أخيراً إلى اختلاس أموال التحويلات الخاصة بالعملة الأجنبية، ويصرفها للمستفيدين بالعملة الوطنية التي تتدهور قيمتها الشرائية يوماً بعد يوم، وبصورة مرعبة ومريبة.

يرتفع سعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية بصورة عشوائية، ما يؤدي إلى تهميش وتأكّل مداخيل الناس ومدخراتهم، وبالتالي إلى انخفاض قيمتها الشرائية، فيستشري الجوع، والتجويع، والإستغلال، لدى الغالبية العظمى من الشعب.

لا تلوح بوادر انفراج نقدي مالي في الأفق القريب، طالما أن زمر السلطة الفاسدة هم من ينادون بمكافحة الفساد، وهم ليسوا سوى عصارة الفساد والإفساد.

لا بد من التسليم أن عظمة أميركا العسكرية والنقدية تتفوق على كل دول العالم وأنظمتها، لكنها تضعف أمام إرادة الشعوب التي تهدد عروش طغاتها، وأكبر دليل معاصر على ذلك هو انهيار الاتحاد السوفياتي، واستعادة الشعب الروسي قدرته وقوته الاقتصادية والعسكرية لاحقاً.

لقد برهن فقدان الدولار من الأسواق اللبنانية أننا لا نعيش في بلد سيد حرّ ومستقل، بل نحيا في كيان افتراضي استهلاكي، يعتمد سكانه، يومياً على نسبة كبيرة من السلع المستوردة لديمومتهم، مع العلم أنّ الارتفاع الحاد للأسعار طاول أيضاً جميع أنواع السلع الغذائية الضرورية المنتجة محلياً، حتى الزراعية والحيوانية منها، بداعي الجشع والطمع.

أختصر الكلام بدعوة السلطة الفاسدة إلى إعادة ما نهبته من الخزينة العامة، أو أنها سوف تشهد ثورة شعبية تعتمد على أبسط مستلزمات العيش الأساسية الضرورية، حتى تتخطى عوائق ندرة الدولار وأثارها السلبية على قدرة الاستيراد، وتشكيل جبهة وطنية خارج القيود الطائفية والمذهبية والمناطقية، تقوم على العدل والمساواة بين المواطنين، بعيداً من أوبئة المنافع الخاصة الضيقة، حتى تتحقق عملية توطيد أسس الدولة ونظامها.

لا يمكن أن يقوم لبنان، كما عهدناه منذ الاستقلال، على سياسة القوة الشرائية للمخزون النقدي بالعملة الأجنبية، وخاصة الدولار، لضمان استقراره المالي والاقتصادي، أي على السيولة النقدية المودعة في الخزينة العامة، لأن الورق النقدي غير صالح للهضم الأمعائي، بل يجب أن يعتمد على الحقول الإنتاجية المتجددة التي تدعمها قدرات وخبرات الشباب اللبناني المثقف، المتوافرة، لتحقيق الثبات الاقتصادي المتين.

لقد غرق اللبنانيون في متاهات استهلاكية للسلع الكمالية في حياتهم اليومية، وعليهم أن يسقطوها عن كاهل متطلباتهم المالية المرهقة، حتى ينطلقوا من جديد نحو العمل المنتج للمواد الأساسية، الضامنة لبقائهم، وديمومة مستقبل عائلاتهم.

إن أبواب الهجرة إلى دول الخليج والمهجر قد أقفلت مؤخراً بصورة مطلقة، بعد الركود الاقتصادي الذي أصابها جراء صراعاتها مع بعضها البعض، واستنزاف احتياطاتها المالية السيادية، مضافاً إليها الآثار السلبية لتداعيات انتشار وباء كورونا الخبيث.

لا خيار أمام جيل الشباب غير بثّ العزيمة والإرادة في النفوس، والوقوف صفاً واحداً في مواجهة دهاء الفاسدين والمفسدين الذين أوصلوا البلد إلى هذا الدرك المعيشي المأسوي والظالم.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم