الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بيروت: لستُ خديعة المذاهب ولا رهينة السرّاق والقوّادين والتخوينيّين

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

لا أعرف لكِ نهرًا لأنّكِ تكتفين بالبحر. يأتي إليكِ لأنّكِ الغاية، ولستِ فقط الميناء. تقنعين هذا البحر بالبقاء، ليس لأنّه ساذجٌ، بل لأنّه يقارن، ويستخلص. تمنحينه هنا أنْ ينمو. وإذا شاء أنّ يُرغي، فهو يُرغي. ويُزبد. وإذا أراد انتشاءً، فهو يُعطى أنْ يُراود قدميكِ العاريتَين، وبعض الساقَين، ليغتسل وينتشي. يمكنه أنْ يفعل ذلك من دون أنْ يملّ ذاته، أو أنْ يضجر من ذاته. فهذا سرُّكِ، لا سرُّهُ. لكنّكِ لا تتشاوفين عليه، لئلّا يشعر بعقدة نقصٍ، ثمّ بغبن. فأنتِ أذكى من أنْ تعامليه كخصيٍّ في القصر، أو في بيت الحريم. وهو، شأن الرجال الرجال، يعرف أنْ يكون – في الآن نفسه – أنثىً مضمّخةً بفروسيّة الرجال. وهو يفعل ذلك، لئلّا يقع في ورطة الذكورة الغاشمة، التي هي مقتل الزمان، ومقبرة المكان.

كنتُ أفكّر فيكِ هذا الليل، كما أفعل منذ سبعةٍ وستّين ليلًا وليل. من المفجع أنْ تُعامَلي نقيضَ الفكرة الماثلة وراء فلسفة وجودكِ الفريد، وتراكمات تاريخكِ البعيد، وماضيكِ القريب، موئلًا للحقّ والحرّيّة والتنوّع والقانون والحكمة والشعر، ومختبرًا للعقل والأنسنة والفؤاد. ها يؤتى إليكِ باعتباركِ موطئَ اغتصابٍ واستكبارٍ واستيلاءٍ. وها تُستباحين، مرّةً بتجّارٍ وصيارفة، ومرّةً بسوء التفكير والتدبير، ومرارًا وتكرارًا بأيدي الأبناء والأخوة وأولاد الخال والعمّ والأصدقاء والأعداء على السواء، وبجيوش الدول القريبة والبعيدة، وبخساسات العسس والمخابرات، وأحذية الجواسيس. لم ترتكبي ما يستحقّ حقدًا كهذا الحقد، ولؤمًا كهذا اللؤم، وثأرًا كهذا الثأر، وقتلًا دؤوبًا ومستميتًا كهذا القتل الدؤوب المستميت. فأنتِ سيّدةٌ بذاتكِ، وسيّدةٌ على ذاتكِ، وسيّدةُ ذاتكِ. وأنتِ عاصمةٌ لبلادكِ، وعاصمةُ نفسكِ بنفسكِ. وأنتِ أمٌّ، وزوجةٌ، وأختٌ، وابنةٌ، وعروسٌ، وصديقةٌ. وأنتِ التي قدماكِ بحرٌ في البحر. وأنتِ التي قلبُكِ جروحٌ طيّبةٌ تُبلسم جروح الموجوعين، وتؤجّج جمر الموعودين. وأنتِ التي يداكِ وعيناكِ على الجميع بالتساوي. وأنتِ التي رأسُكِ البوصلةُ، ومأدبةُ النقد والأسئلة والأفكار. وأنتِ التي بحبركِ تُكتَب القصائد والأشعار. وأنتِ التي تدرّسين التلامذةَ فنون الحجّة والحنكة والدربة والصلابة والمراس. وأنتِ التي تنظّمين الإيقاع بين الذات والذات، وبين الذات والآخر، وبين الذات والمرايا. وأنتِ التي تثابرين، وتكافحين، وتعجنين، وتخبزين، وتمسحين الغبار، وتغسلين الثياب والأواني، وتفتحين الليل على اجتماع القمر بالنجوم، ولعبة النسيم والغيوم، وتمنحين الشبابيك فرصة أنْ تنحني للاشتراك في غواية الأحواض والرياحين. وأنتِ التي تكابرين، ولا تطأطئين، ولا تتمرّغين. وبعد، يليق بكِ أنْ تقولي ما تريدين أنْ تقوليه للجميع: من المضني أنْ أعامَل باعتباري جاريةً، أو إسطبلًا، أو خانًا لتفريغ الكبت والجنس، أو مهبطًا لاستدراج التخرّصات والصفقات والمساومات، ولنشر ترّهات مرضى التسلّط والمنجّمين.

وتتابعين القول. عبثًا – أكرّر: عبثًا - يؤتى إليَّ باعتباري خديعة المذاهب والطوائف، أو ميناءً للدمّ، أو أرضًا للقوّادين. عبثًا أكون مستقرًّا لشاهري أصابع الإلغاء والاستيلاء، ولجحافل التخوينيّين والمهدِّدين. عبثًا أكون رهينةً للببّغاوات، "ملقِّني" الثورةِ، المتنطّحين والطارئين.

وتختمين: عبثًا ألّا أكون بيروتًا لنفسي، ولبلادي، وللمواطنين.

[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم