الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

هل أودعك أم أستقبل رحيلك؟

المصدر: "النهار"
الدكتورة ريما الصبان
هل أودعك أم أستقبل رحيلك؟
هل أودعك أم أستقبل رحيلك؟
A+ A-

‏‎بالأمس يا غسان كنت أراجع أوراقي ودفاتري بحثاً عن رحلة مع الأطفال إلى لبنان كنت كتبت عنها. وجدت دفتراً لرحلتي إلى لبنان عام ١٩٨٥، قبل أن أنجب أبنائي وبعدما تعرفت على عبدالخالق، الذي يكن لك معزة خاصة جداً، ويقول إنك أجمل من عرفه من لبنان. فأنت وعبدالخالق دفعتما ثمن أقلامكما غالياً وفي البداية سويا.ً

‏‎كان دفتري عبارة عن تسجيل لعودتي إلى لبنان بعد غياب سنتين ونصف وكانت أول غياب لي عن الوطن الذي جبلني وجبلك بأوجاعه. يحكي الدفتر الكثير عن علاقتي بالوطن ويسجل لقاءات ومقابلات صحفية لصيف ١٩٨٥ بعدما عدت بشهادة ماجستير من جامعة جورجتاون، واحدة من أعرق الجامعات في أميركا والعالم.

‏‎كان دفتري يحكي عن حضورك المتميز لمساعدتي في تحقيق مهمتي البحثية في حينها. وكان عبد الخالق قد نصحني بلقائك لأنه عرف طاقتك المخلصة في مساعدة الآخرين.

‏‎أيا غسان، مساعدتك المخلصة للآخرين كانت زهرة تحملها روحك: الغيرية. أنت دائماً تعطي لغيرك بدون ثمن، ولا حسبان. تسكب من نبع روحك كل ما استطعته سبيلاً لهذا الغير. وللأسف، بقيت في قلبك تلك الغصة ورحلت مع شعور المرض الذي امتص جسدك وأراحك من عذاب انتظار التقدير الخارجي.
‏‎كنت من الصحفيين العرب الذين توقفوا عن عملهم ورحلوا ثمناً للكلمة. في الإمارات دفعت ثمن كلمات عبدالخالق في حينها. كان هذا الطالب الثوري الطموح، الخليجي، وكنت أنت الصحفي وسكرتير التحرير. ولم ير المحلل الإماراتي الخلل في هذا الطالب الصغير السن، بل رآها فيك أنت، الصحفي العربي الذي يسمم أفكار هذا الطالب الصغير البريء.

‏‎دفعت الثمن عنه، وكنت كلما حدثتني عن تلك التجربة، تضحك بطفولة بريئة. لم تحمل أي ضغينة على من سجن حريتك ولا على السبب والمسبّب. لا بل كنت دائماً تحب الإمارات والإماراتيين وهم يحبونك. كنت تحيا الكلمة بكل صدقها. والصحافة برونقها. وتعلم أن الثمن هو بريق للروح، وليس خوفاً ولا جبناً.

‏‎ماذا أقول، أو نقول عن تغير المعاني اليوم.

‏‎كيف أصف لك اليوم كيف وصلني خبر رحيلك بالأمس؟ الدفتر.... تلك الذكريات الذهبية التي تبقى، بعدما ننفخ الحياة من أجسادنا التعبة، ونصعد برداً وسلاماً في أنفسنا، وذكريات ومعاني لمن تركنا خلفنا.

‏‎فهل كنت أنت، هل كانت روحك من زارنا، وحملني لالتقاط هذا الدفتر، وأعيد قراءة الذكريات وإصبعي على الصفحة حيث اسمك ورقم هاتف بيتك وعنوانه، وإذ بزوجي يخبرني عن رحيلك.

‏‎لم أكن أعلم كيف أجد تفسيراً لهذا: كيف وجدت اسمك ورقمك في دفتري القديم، ووصلني خبر رحيلك في آن معا؟

‏‎صدفة؟ ... ربما...
‏‎تلاقي أرواحنا؟... ربما...
‏‎وداعك لزوجين أحببتهما وأحباك بكل صدق وإخلاص؟ ... ربما...

‏‎الأكيد والمؤكد يا غسان الغيري، أنك تركتنا بغصة الصدمة، وشيء من ذنوب تلك الحياة والمشاغل التي تباعدنا عن بعضنا البعض، وعندما نفاجأ برحيل الأرواح اللصيقة بروحنا، نشعر بهذا الذنب الكبير... وكل تلك الأسئلة الحقيقية التي ترسم طبيعة الحياة الجديدة والمتسارعة، وغربة الإنسان عن نفسه وأحبابه والأشخاص الذين تركوا بصمة في حياته.

‏‎هكذا يا غسان، كنا بالأمس أنا وعبدالخالق نتحدث عنك كثيراً. ونصمت في رهبة غيابك أكثر.

‏‎اتصلت بشقيقتي لينا، التي كنت من ساعدها في عز محنتها في لبنان كما لم يساعدها أي كائن آخر. قدمت لها فرصة العمل الصحفي. أهديتها الكاميرا، وعلمتها نسيج الخبر بعمقه الإنساني، وبعده الروحي. فجرت فيها طاقات جديدة لم تعرفها في حياتها. كأنك كنت تصنع منها فينيقاً جديداً يتوالد من قلب الأزمة والتلاشي الروحي، بعدما هجرها زوجها وطفلتين، ولم يكن لها معين غيرنا عن بعد. ولم يكن هذا العون كافياً، إذ كانت تحتاج أن تنهض بنفسها، أن تتعلم الصيد بدل أن تعطى سمكة. وكنت أنت من علمها الصيد في الخبر والصورة والقصة الصحفية. وبدأت تكتب وتنشر وتستعيد الحياة في عروقها، وتستعيد الشعور بإنسانيتها وحضورها.

‏‎نعم يا غسان، كانت لك طاقات وقدرات في الغيرية، لم أرها عند أي صحفي عربي آخر غيرك. لذلك أقول أن التكريم عادة لا يأتي على هذه المواقف، فكثيراً منها يذهب ويضيع وسط طاحونة الحياة وضجيجها.

‏‎هكذا طلعت من دفتري، ذي ٣٥ عاماً بأجمل صورك إذ كتبت فيه عن مرافقتك لي في كافة زياراتي الصحفية وخاصة تلك التي ذهبنا فيها إلى صيدا مهبط رأسك.

‏‎في دفتري كتبت:
‏‎في طريقنا إلى صيدا، راقبت المشروع الإعماري بين خلدة والدامور. كتبت أن هذا المشروع الإسكاني يود تحويل خلدة والدامور إلى مشروع مستقبلي ما يشبه كان أو مونتي كارلو، كي لا يسكنها المهجرين. كذلك فعلوا في محيط صيدا والبرامية. اليوم أقرأ الكلمات وابتسم في سري لسخرية الأقدار، وسقوط التحليل في نار الصراعات والسلطة والتسلط.

‏‎وأخذتني إلى منزل والدك في البرامية. الكتائب كانوا قد احتلوا البيت وكتبوا على الجدار "الكتائب، لبنان، بشير الجميل". قال والدك يومها: "لو عرفوا ان ابني يعمل في جريدة السفير لدمروا المنزل بأكمله".

‏‎ورافقتني في لقاء لزعيم صيدا الراحل مصطفى معروف سعد، ابن الشهيد معروف سعد. نائب صيدا الناصري الذي قتل بالرصاص خلال تظاهرة دعم لمطالب الصيادين. واعتبر مقتله كشرارة مدبرة أشعلت الحرب الأهلية في لبنان عام ١٩٧٥.
‏‎كانت رفقتك تفتح لي الأبواب. ولأنه أحبك فتح لي معروف سعد بيته بوساعته. كان من الصعب لقاؤه بعدما تعرض لمحاولة اغتيال قبل ستة أشهر من زيارتنا، وكانت الآثار المؤلمة ظاهرة في جسده ووجهه المشوّه، وبصره المفقود. والأثر الأعمق كان في قلبه
المجروح على ابنته، التي كانت لا تزال زهرة ببراءة الثمانية أعوام.

‏‎رحب بنا مصطفى ترحيباً كبيراً، وكان حبه واحترامه أكبر. كأنكما اشتركتما بشيء من هذا النقاء الذي يدفع أثمان لا ناقة له فيها سوى محاولة الاصلاح. فمصطفى لم يكمل ال٥١ عاماً قبل أن يجتاح جسده المرض. فأين تذهب كل تلك الأوجاع الوطنية والنفسية؟ أين تحفر لها مساكن سوى في أجساد البشر؟

‏‎وهكذا أنت يا غسان، لم يعد جسدك يستحمل الألم كما مصطفى وكل من تألم وجعاً على وطن تنخره المصالح الضيقة والطائفية والغضب والحقد المتبادل.

‏‎ذهبت يا غسان، والمرض ينهش صدور الكون وليس فقط صدور لبنان. ذهبت ولا زلت تحلم بنور كان ينطفئ من حولك.

‏‎ذهبت دون أن تسعى نحو ذلك الضوء في أعماق كل هذه الظلمات. استسلمت لظلمات الألم، ولم تر النور إلا بعد الإستسلام الكلي والرحيل.

‏‎رحلت وتركت أحبابك جميعاً غير مصدقين أن لتلك الشفافية القدرة على الرحيل. بالطبع لا. فشفافية روحك حية فيما بيننا، تستيقظ فينا هذه البسمة لحظة الألم. كأن روحك فيها صانع بارع، يجيد تجميل الأحزان بتلك الابتسامة البريئة والعميقة والدالة. هذا الصوت الهادئ رحل، لكن صداه ورنينه باقيان في عمق كل من لامسه في لبنان والإمارات والخليج وكل دولة زرتها قسراً أو خياراً، وكان لك فيها أصدقاء وأعزاء.

‏‎هذا الصفاء الروحي هو تكريم إلهي يفوق أي تكريم بشري. لروحك الهانئة الرقيقة كل التكريم.

‏‎أنا لا أودعك غسان، أنا الآن استقبل روحك الجميلة أحر استقبال، روحك المحبة للبنان والعروبة وصناعة الأوطان الشريفة بأقلام الصحافة الشريفة.

الزميلة والصديقة قبل الدكتورة ريما الصبان

+أستاذة جامعية

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم